الخميس - الموافق 28 مارس 2024م

(9) التأسيس الثاني للدولة المصرية الحديثة 1-2.. بقلم الكاتب والباحث:محمد السني

ألقينا الضوء سابقًا في مقالتين متصلتين على الجذور الفكرية للوهابية، وبينا كيف أخرج لنا التراث الإسلامي منذ البداية مدرستين كلاهما إنتاج بشري، وهما المدرسة الظاهرية، والمدرسة العقلية، وأوضحنا كيف اتبع الأمويون والعباسيون التوظيف المنهجي لمرتزقة تلفيق وسبك الأحاديث لأسباب سياسية، ليرث الحنابلة هذه الأحاديث وتلك الأحكام ويشهرونها ضد خصومهم المذهبيين والفكريين. وكيف كانت نظيرية ابن تيمية في “التوحيد” البوابة الكبرى لتكفير عامة المسلمين، وغرس روح التطرف والكراهية والعدوانية ضد أصحاب الديانات، وشرعنة الاستبداد السياسي، حيث كان جل علماء عصره على تجهيله وتناقضه وعدوانيته. وقد حمل تلامذته الحنابلة راية تغييب العقل وإصدار الفتاوى التكفيرية وكان أشهرهم ابن القيم الجوزية. ثم تطرقنا لنشأة الوهابية في مقالتين متصلتين، وبينا فيهما كيف ورث محمد بن عبد الوهاب هذا التراث التكفيري الهائل بعد خمسة قرون من وفاة بن تيمية، وقام بترجمة أفكار وفتاوى التيار الحنبلي ونظرية التوحيد لابن تيمية إلى حركة اجتماعية سياسية، مستغلًا الأوضاع الاجتماعية والثقافية المزرية لمنطقة شبه الجزيرة العربية إبان هيمنة الإمبراطورية العثمانية البغيضة، وخاصة منطقة نجد شرقي شبه الجزيرة العربية، وقد لاقت حركتة الرجعية والظلامية والتكفيرية قبولًا وسط تلك الأوضاع شديدة البؤس والتخلف والشقاء، وألقينا الضوء على الظروف الموضوعية والذاتية التي أدت إلى ولادة تلك الظاهرة. ثم تطرقنا إلى نشأة وملامح وسقوط الدولة الوهابية السعودية الأولى في ثلاث مقالات متصلة، ومقالة منفصلة عن الدولة السعودية الثانية، ومقالتنا هذه عن “التأسيس الثاني للدولة المصرية الحديثة 1-2”.

بينما كانت منطقة شبه الجزيرة العربية شرق البحر الأحمر ترزح تحت وطأة وهيمنة الحركة الوهابية التكفيرية والإرهابية والظلامية،وغارقة في صراعات دامية بين أمراء آل سعود حتى كادوا أن يفنوا جميعًا، والتي انتهت بسقوط الدولة السعودية الثانية تمامًا عام 1891م.كانت الأوضاع في الشط الغربي للبحر الأحمر في مصر تمر بمرحلةتثبيت دعائمواستقرار الدولة المصرية الحديثة، وتشهد حراكًا اجتماعيًا استثنائيًا، وتغيرات جذرية في كافة المجالات، فمنذ عام 1842م صدر قانون احتكار الأرض الزراعية في مصر الذي جعل من محمد علي المالك الوحيد لجميع أراضي مصر الزراعيه، وقد ورث محمد علي من النظم القديمة إهداء معاونية أو من يتوسم فيهم النبوغ في خدمة دولته بعض الأراضي والإقطاعيات، وبعد تولي سعيد باشا عام 1854م حكم مصر، صدر ما يُعرف بالائحة السعيدية، وبدأ بموجبها التصرف في جزء من تلك الأراضي لتنهي بعض الشيء نظام الاحتكار، وتكاد تكون تلك اللائحة هي الأساس القانوني لأول ملكية زراعية في العصر الحديث في مصر، وقد نمت تلك الملكية الزراعيةحتى تركزت في نحو 2740 أسرة، وبذلك نشأت البرجوازية المصرية الزراعية (الإقطاعية). كما استقرت اسرة محمد علي في الحكم، وتمصرت بشكل كامل،ويلتقط الدكتور لويس عوض تصريح إبراهيم باشا ابن محمد علي الذي قال فيه ردًا على سؤال صحفى: كيف تطعن في الأتراك وأنت منهم: فقال: أنا لست تركيًا. فقد جئت مصرصبيًا، ومنذ ذلك الحين فقد تمصرت: مصرتني شمسها وثقافتها وغيرت من دمي.. فأنا مصري ولست تركيًا (تاريخ الفكرالمصري الحديث- هيئة الكتاب المصرية – عام1980م – ص375)، وهو ذات المعنى الذي قاله الخديوي إسماعيل “…وأنا بصفتي مصريًا… الخ” (نفس المرجع ص 148)، وهي حقيقة لا تحتاج إلى إثبات أو تحقق، فكم من أشخاص وجماعات بل وشعوب أتوا إلى مصر فرادى وجماعات، غزاة ومهاجرين ورحالة عابرين، واستقروا في مصر وتمصروا بشكل كامل وأصبحوا جزءً لا يتجزء من الأمة المصرية.وكانت تلك التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عاملًا أساسيًا في رسم ملامح الدولة المصرية الحديثةفي دورهها التأسيسي الثاني، وعودة الدور المصريللريادة بما يتناسب مع تلك المرحلة التاريخية.

كان التأسيس الثاني للدولة المصرية الحديثة على أيدي الخديوي إسماعيل (1863 – 1879م) الذي أراد على مدار سنوات حكمه الستة عشر أن تكون مصر”قطعة من أوروبا”، بإجراءات وسياسات توسع فيها وأنفق عليها بسخاء شديد، ربما بما لم يسبق له مثيل في تاريخ مصر الحديثة، أثمرتتحديثات مهولة على مستوى البنية التحتية، وشهدت مصر في عهده صفحة جديدة من تاريخها، فيها من الإنجازات والرقي ما فيها، وفيها من عوامل الضعف كثير، حتى إنه يصدق القول بأن عصره كان “عصر المتناقضات الكبيرة”. كما كان عصر تغييرات شاملة وجذرية في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ففي عصره كانت أول مدرسة للبنات،وأول مدرسة للصم والبكم،وأول دار للكتب، وأول متحف للآثار المصرية،وأول خط للبرق والتليغراف،وأول شبكة مواصلات عصرية تربط المدن المصرية… وغيرها الكثير من الأولويات والأعمال التيسُجلت كلها في كتاب التاريخ مسبوقة بكلمة “لأول مرة”. وفي المقابل كان من آثار الإنفاقات الرهيبة على سياسات الإصلاح والإنشاءات الحديثة والعمران الحضري، اعتمادًا على الاقتراض، إغراق مصر في الديون والوصول بها إلى حافة الإفلاس.

منذ تولى إسماعيل باشا مقاليد الحكم ظل يسعى إلى السير على خطى جده محمد علي، ولكنه ورث دولة مكبلة عن ممارسة سيادتها من خلال علاقتها بالدولة العثمانية وشركة قناة السويس والقناصل الأوروبيين والجاليات الأجنبية، فبعد معاهدة لندن ١٨٤٠م ثم ضرب جيش محمد علي بمرسوم ١٨٤١م في سياق الإجهاز على المشروع الحداثي الأول في الشرق العربي، والذي أُجبر على فتح أبوابه أمام البضائع الأوروبية. وأمام التدخل الأجنبيوالضغط الأوروبي، حاول إسماعيلومن قبله بقدر ما محمد سعيد باشا إنجاز مشروعالتحديث الثاني لمصر على أساس الارتباط بالغرب الأوروبي، ومن منطلق أن تكون مصر قطعة من أوروبا. ولكن إسماعيل سعى إلى تغيير الوضع الذي فرضته تسوية عام ١٨٤٠م في علاقة مصر بالدولة العثمانية أو على الأقل توسيع امتيازات مصر بحيث تزول القيود الباقية على الإدارة المصرية، فتنال الحكومة كامل حريتها في الإدارة الداخلية، وتقرير علاقتها بالمقيمين فيها من الأجانب للحد من مساوئ الامتيازات، وكذلك تحقيق ما يتطلبه التقدم الاقتصادي من حرية عقد المعاهدات التجارية مع الدول وإطلاق يد الحكومة في الاقتراض، وتكوين قوة عسكرية للدفاع عن مصر، وتوسيع ممتلكاتها في إفريقيا التي أخذت اهتماما بالغًا في عهد الخديوي إسماعيل، حيث كان يرى أن الأمن القومي المصري يأتي من الجنوب، وخاصة بعد أن أيقن أن التمدد بإتجاه الشرق بعد معاهدة لندن عام 1840م أمر مستحيل، فكان الحضور المصري في إفريقيا قوي ومؤثر، حيث أدخل إسماعيل المدارس إلى إفريقيا وأمدها بالإختراعات مثل وابور البحر وحارب تجارة العبيد حتى سمي اسبارتاكوس الشرق، وقضى على الكثير من المشاكل القائمة بين القبائل، واستطاع الوصول إلى البحيرات الاستوائية حتى أوغندا والصومال، فكانت السفن في عصره تحمل السلاح والحضارة في آن واحد، وأمد إفريقيابالسكك الحديدية التي امتدت من الإسكندرية حتى السودان وأوغندا ثم الصومال ثم مملكة المور، حتى لقب بإمبراطور النيل لأنه أول من اكتشف القارة السوداء وافتتح الأماكن المجهولة، وتحقق لمصر وجودًا قويا ومميزًا على طول جانبي النيل العظيم. وتبنى إسماعيل في سبيل ذلك حركة إصلاح داخلية واسعة، نشطة وعصرية. ولكي يحقق إسماعيل أهدافه الطموحة كان عليه توثيق علاقاته وصلاته بعاصمة السلطان العثماني بالزيارات المتكررة وبذل المال والهدايا بسخاء شديد، ووثق صلاته بوزراء السلطان ورجال البلاط العثماني، بل إنه جعل له وكيلًا في عاصمة الدولة ينثر الذهب ويدفع الرشاوى ليحصل على الفرمانات التي حققت لمصر الكثير من مزايا الحكم الداخلي ورفعتها إلى مستوى الاستقلال الذاتي، وكان من أهمها فرمان عام ١٨٦٦م الذيأقر وراثة الحكم في أكبر أبناء الوالي من صلبه، والاحتفاظ بالنظام الخاص للتداول بالعملة المصرية، وزيادة عدد الجيش المصرى، وإعطاء الوالي حق منح الرتب المدنية. ومنها كذلك فرمان عام ١٨٦٧م الذي أقر لوالي مصر بلقبخديوي مقابل زيادة في الجزية(وهي كلمة فارسية تعني ملك)، وتم بموجب هذا الفرمان أيضًا تعديل طريقة نقل الحكم لتصبح بالوراثة لأكبر أبناء الخديوي سنًا،ومنح الحكومة المصرية الحق في وضع اللوائح والقوانين والتنظيمات المالية والإدارية وعقد اتفاقات مع الدول الأجنبية بشأن رعاياها، وبشرط أن تكون متوافقة مع قوانين الدولة ومعاهداتها مع الرجوع إلى الباب العالي لضمان الموافقة. ثم صدر الفرمان الشامل عام ١٨٧٣م والذي بموجبه تم جمع كل الفرمانات السابقة التي صدرت لولاة مصر، لتنال من خلاله كيانًا خاصًا يميزها عن بقية ولايات الدولة العثمانية ولتصبح مستقلة داخليًا بشكل كامل وتام. واستغل إسماعيل حدث افتتاح قناة السويس ليطوف أرجاء العواصم الأوروبية لدعوة ملوكها لحضور الاحتفال الضخم.وكان تصرفه هذا من أجل دعم استقلال مملكته.

اقترن اسم إسماعيلبتدشين أول نظام نيابي في مصر، وتحويل مجلس المشورة الذي أسسه جده محمد علي باشا إلى (مجلس شورى النواب)، وأتاح للشعب اختيار ممثليه. وافتتحت أولى جلساته في 25 نوفمبر 1866م. وكان الخديوي إسماعيل أيضا من أقر اللائحة الوطنية التي وضعها شريف باشا المشهود له بالاستنارة الفكرية والقرب من الحركة الوطنية المصرية الصاعدة آنذاك، ووقع عليها أعضاء مجلس شورى النواب والأعيان والعلماء والوجهاء عام ١٨٧٩م، باعتبارها أول مشروع دستور نيابي برلماني في مصر. ونجح الخديوي إسماعيل في تعديل شروط الامتياز مع شركة قناة السويس الأجنبية، فحصلت الحكومة المصرية بموجب هذا التعديل على الحق في حفر جزء من ترعة المياه العذبة وتنازلت لها الشركة عن حقوقها في ملكية الأراضي الواقعة على طول الترعة، ووافقت الشركة على إلغاء السخرة مقابل تعويضها ماليًا، وبذلك نجح إسماعيل في كسب مزايا مهمة حين نزع عن الشركة كل صفة سياسية تمس السيادة الوطنية، لتستعيد الحكومة المصرية كامل سيادتها على أرض مصر، وحرية العمل لأبنائها.

سار الخديوي إسماعيل على خطى جده الباشا محمد علي في إقامة قاعدة اقتصادية زراعية حديثة لمصر وزيادة الإنتاج الزراعى، خصوصا القطن، ولكن من خلال الاستدانة الباهظة التكاليف لإنشاء الجسور وحفر القنوات والمشروعات الزراعية، ولعبت مشروعات الري الكبرى كترعة الإسماعيلية وترعة الإبراهيمية وشبكة الترع الأخرى، دورًا مهما في إتاحة الري الدائم، وزيادة الإنتاج الزراعي زيادة أفقية ورأسية، استفاد بها ملاك الأراضي الزراعية، فكان لذلك كله أثر ملموس على المجتمع الريفي خصوصًا، وعلى التطور الاجتماعي في البلاد عامة. كما قام إسماعيل بتوسيع وتحديث نظام الإدارة الذي أقامه محمد عليباستحداث نظام الجمارك بإشراف الأوروبيين، وأصلح مصلحة البريد، وأحدث انقلابًا في التشريع، واجتهد في منع السخرة، وبلغت ميزانية التعليم في عهد إسماعيل ٨٠ ألف جنيه أضيف إليها من بعد دخل الأراضي التي اُستردت من شركة قناة السويس ليصير التعليم مجانيًا وليحصل الطلاب على ما يحتاجونه. وخلال سنوات حكم إسماعيل جرى ما أسماه المؤرخ الراحل يونان لبيب رزق “الاجتياح الأوروبى” لأرض الكنانة، حتى وصل عدد الأجانب المقيمين في مصر قرب نهاية عصره إلى ٦٨ ألفًا، وهو الاجتياح الذيفرضته وصنعته تطورات اقتصادية عديدة، منها بناء السكك الحديدية، والذي بدأ منذ عصر عباس واستمر في عهد خَلَفَيه، حتى إن طول خطوطها بلغ ١٣٠٠ كيلومتر عام ١٨٨٠م كما بلغ خطوط طول التليغراف ٥٢٠٠ كيلومتر، وزيادة مساحة الأراضي المزروعة بالمحاصيل النقدية نتيجة لمشاريع الري التي أمكن تنفيذها خلال تلك الفترة حتى بلغ طول قنوات الري ٨٤٠٠ ميل، هذا فضلا عن افتتاح قناة السويس للملاحة العالمية ١٨٦٩م ، وما ترتب على ذلك من تعاظم المصالح التجارية والمالية لرجال الأعمال الأوروبيين في البلاد. وكان إقدام إسماعيل على إلغاء الرق متغيرًا مهما في بنية النخبة الحاكمة التي كانت تجدد دماءها حتى نهاية عهد سعيد وأوائل عهد إسماعيل باستيراد العناصر التركية والشركسية للخدمة في سلك ضباط الجيش ومراكز الإدارة، مما كان له كبير الأثر على تكوين النخبة الحاكمة، وفتح الباب تدريجيًا لاندماجها في أعيان الريف من المصريين، وإن كان إلغاء الرق لم يقض نهائيًا على استخدام الرقيق الأسود في الخدمة المنزلية، فقد ظلت التجارة السرية في الرقيق الأسود قائمة رغم أنف القانون حتى التسعينيات من القرن الماضي. وشهد عهد إسماعيل تحويلالدواوين إلى نظارات (وزارات)، ووضع تنظيم إداري للبلاد، وإنشاء مجالس محلية منتخبة للمعاونة في إدارة الدولة، وأصبح للمجالس المحلية حق النظر في الدعاوى الجنائية والمدنية، وانحصار اختصاص المحاكم الشرعية في النظر في الأحوال الشخصية، وإلغاء المحاكم القنصلية وتبديلها بالمحاكم المختلطة، والانتهاء من حفر قناة السويس وإقامة احتفالاتها حيث تم حفر مايقارب 80% من القناة في عهده حتى سمي إسماعيل بأبو القناة، وإنشاء قصور فخمة مثل قصر عابدين، وإنشاء دار الأوبرا الخديوية، وإنشاء كوبري قصر النيل، واستخدام البرق والبريد وتطوير السكك الحديدية، وإضاءة الشوارع ومد أنابيب المياة، وإنشاء بعضالمصانع، ومن بينها تسعة عشر مصنعًا للسكر (منها أرمنت والمطاعنه والضبعية والبلينا وجرجا والمنيا والشيخ فضل والفيوم)، وإصلاح ميناء السويس وميناء الإسكندرية، وبناء خمس عشرة منارة في البحرين الأحمر والمتوسط لإنعاش التجارة، وزيادة ميزانية نظارة المعارف، ووقف الأراضي على التعليم، وتكليف علي مبارك بوضع قانون أساسي للتعليم، وتكليف الحكومة بتحمل نفقات التلاميذ، وإنشاء أول مدرسة لتعليم الفتيات في مصر، وهي مدرسة السنية1873م، وإنشاء الجمعية الجغرافية ودار الآثار1875م، وظهور الصحف مثل الأهرام والوطن ومجلة روضة، كما كانت المسائل الصحية موضع عناية إسماعيل، وشاركه في هذه العناية نوابغ الأطباء في مصر وأعضاء مجلس شورى النواب، فقد وجهوا همتهم جميعًا إلي تحسين أحوال البلاد الصحية، فأُنشأت مستشفيات عدة، وكان للإدارة الصحية فضل كبير في مقاومة الأمراض ومكافحة الأوبئة، وخاصةً وباء الكوليرا الذي حل بالبلاد سنة 1865م، وكان أشد ما أصيبت به البلاد من الأوبئة في ذلك العصر. ويمكن القول إن عصر إسماعيل شهد تنمية اقتصادية حققت نجاحًا بارزًا في مجال الزراعة وإخفاقًا كبيرًا في ميدان الصناعة، فالعصر عندئذ هو عصر التوسع الإمبريالى بعد نضج الرأسمالية الصناعية في أوروبا، والتنمية التي سعى إسماعيل إلى تحقيقها تمت في إطار الليبرالية الاقتصادية النسبية التي فرضت على مصر عند نهاية حكم محمد علي، وفي ظل زحف رؤوس الأموال الأجنبية على مصر الذيبدأ عهد سعيد، وبالتالى كان مجال النجاح في قطاع الزراعة مطلوبا لخدمة المصالح الرأسمالية العالمية التي كانت في حاجة إلى المواد الأوليةخصوصا القطن المصرىبقدر حاجتها إلى فتح السوق المصرية أمام منتجاتها الصناعية، ومن ثم كان الفشل نصيب محاولات إسماعيل لتحقيق التنمية في مجال الصناعة.

أراد إسماعيل للقاهرة أن تضاهي مدن أوروبا، فانطلق لتحقيق حُلمه بحماسة البنائين العظام، مستلهمًا تخطيط باريس الجديدة التي صاغها هاوسمان. واستعان إسماعيل بوزير أشغاله علي باشا مبارك، ومساعدة محمود باشا الفلكي، على تحقيق الحلم، ولم يطلب من وزيره تدمير بنية المدينة القديمة، بل البدء في وضع أساس المدينة الجديدة من حيث تنتهي القاهرة القديمة، في الفضاء المفتوح نحو الغرب المكاني والحضاري. وتوسعت القاهرة وفق تخطيط عمراني نموذجي بمعايير العصر، وكذلك كان شأن الإسكندرية، وأُنشئت مدينتا بورسعيد والإسماعيلية، وتوسع ثغر السويس، وساعد مد شبكة الخطوط الحديدية لتربط الصعيد بالدلتا، وأطراف الدلتا بالقاهرة والإسكندرية، على نمو بعض المدن الإقليمية مثل طنطا وكفر الزيات والمنصورة والمنيا وأسيوط وغيرها من مدن الأقاليم. ولكن تظل درة العمران الحضري في عصر إسماعيل هي القاهرة الحديثة، أو القاهرة الخديوية، الباقية والشاهدة على أكبر منجز عمرانى حضارى تركه إسماعيل، فإلى جانب الأحياء القاهرية القديمة المعروفة، أُنشئت أحياء جديدة في الظاهر والفجالة وشبرا والإسماعيلية حتى قصر الدوبارة، كما توسعت المدينة ناحية الغرب خصوصًا بعد مد الكباري والجسور، فكان الكوبري الذي ربط بين الروضة والجزيرة، وآخر ربط بين الروضة وقصر العيني، وثالث ربطها بمصر القديمة. وفي الوقت ذاته نشأت أحياء تركز فيها الأجانب، بدأت بالأزبكية، ثم انتقلت إلى جاردن سيتي التي خُططت على النمط الإنجليزي من حيث الشوارع الدائريةالمتقاطعة، والزمالك وهليوبوليس مصر الجديدة التي خُططت على النمط الفرنسى الشوارع المتقاطعة والبيوت ذات البواكي. أماحي الإسماعيلية (منطقة وسط البلد الآن) فكانت بداية المدينة الجديدة، أو القاهرة الرومية كما أسماها بعض المؤرخين، تلك القاهرة التي سرعان ما جذبت إليها مؤسسات الحكم وقصور الحكام والمراكز التجارية، والحدائق التي كانت نموذجًا موازيًا للحدائق الباريسية الشهيرة، مستهلة زمنًا جديدًا من الحراك الجغرافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي. على أن أهم إنجازات إسماعيل على الإطلاق هي تلك النهضة غير المسبوقة في العلوم والفنون والآداب التي جعلت مصر مركز حضاري ومنطقة جذب للأدباء والمثقفين والعلماء والمفكرين من الشرق والغرب، والتي تزامنت وكانت في الوقت نفسه نتيجة لتلك الحراك الاقتصادي والاجتماعي الحاصل في بر مصر، وعادت حركة البعثات العلمية إلى أوروبا إلى استئناف نشاطها من جديد بعد توقفها،وأُنشأت قاعة للمحاضرات العامة، والجمعية الجغرافية الملكية، والمتحف المصرى (الأنتكخانة)، وجمعية المعارف، وغيرها من المؤسسات المعنية بنشر المعارف والعلوم في ربوع المحروسة. كما نشط إسماعيل في إنشاء المدارس بكل درجاتها التجهيزية والابتدائية والخصوصية، وأعاد ديوان المدارس،وعهد به إلى أبو التعليم في مصر علي باشا مبارك، فعندما تولى الخديوي إسماعيل باشا حكم مصر عام 1863م وكان قد زامل علي مبارك في (بعثة الأنجال)، استدعاه فور جلوسه على عرش البلاد، وألحقه بحاشيته، وعهد إليه بديوان المدارسفنظم المدارس الأهلية ووضعها تحت إشراف الحكومة، فازداد إقبال الناس على الدفع بأبنائهم إلى المدارس، وفي عام 1866م أصدر الخديو قرارًا بتعييه وكيلًا عامًا لديوان المدارس، مع بقائه ناظرًا على القناطر الخيرية، وأثناء ذلك أصدر لائحة لإصلاح التعليم، ثم ضم إليه الخديو ديوان الأشغال العمومية، وإدارة السكك الحديدية، والإشراف على حفل افتتاح قناة السويس.ومن أهم أعمال على مبارك إنشاؤه لمدرسة دار العلوم التي أسسها عام 1872م وكان الغرض الأصلي من إنشائها تخريج أساتذة للغة العربية والآداب للمدارس الابتدائية. كما أسس دار الكتب عام 1870م وقام بإنشاء مجلة “روضة المدارس” على نفقة وزارة المعارف. وبذلك استحق علي مبارك لقب أبو التعليم في مصر. وقد ترك علي مبارك مؤلفات كثيرة تدل على نبوغه في ميدان العمل الإصلاحي والتأليف، فلم تشغله وظائفه على كثرتها وتعدد مسؤولياتها عن القيام بالتأليف، وتأتي “الخطط التوفيقية” على رأس أعماله، ولو لم يكن له من الأعمال سواها لكفته ذكرًا باقيًا، وأثرًا شاهدًا على عزيمة جبارة وعقل متوهج، وقلم سيال، يسطر عملًا في عشرين جزءًا يتناول مدن مصر وقراها من أقدم العصور إلى الوقت الذي اندثرت فيه أو ظلت قائمة حتى عصره، واصفًا ما بها من منشآت ومرافق عامة مثل المساجد والزوايا والأضرحة والأديرة والكنائس وغير ذلك. وكتاب “علم الدين” وهو موسوعة ضخمة حوت كثيرًا من المعارف والحكم، ويقع في أربعة أجزاء، تحتوي على 125 مسامرة، كل واحدة تتناول موضوعًا بعينه كالبورصة، والنحل وأوراق المعاملة، والهوام والدواب. إلى جانب ذلك له كتب مدرسية عديدة إلى جانب مؤلفه تقريب الهندسة، ومنهاوقائع الأخبار في أوصاف البحار، وتذكرة المهندسين، و”سوق الجيوش”، و”الاستحكامات العسكرية”.

نتج عن التوسع الهائل سواء العمراني أو البنية التحتية الزراعية أو الإسراف في مظاهر الأبهة ومحاكاة الغرب كما أشرنا، إلى إرهاق الخزينة المصرية، مما أدى إلى الاستدانة واضطرت الظروف المالية السيئة التي واجهها إسماعيل بعد ذلك إلى بيع أرباح الأسهم المصرية عام ١٨٦٩م، ثم إلى بيع الأسهم عام 1875م. ولما جاءت بعثة (كيف) إلي مصر، لاحظت فرنسا من إيفاد الحكومة الإنجليزية إياها أنها تريد الاستئثار بالنفوذ لدى إسماعيل، ولم تكن إنجلترا ترمي إلى النفوذ المالي فقط، بل كانت تقصد إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو التدخل السياسي، فنشط التنافس بين النفوذ الإنجليزي والنفوذ الفرنسي، ووصل هذا التنافس إلى حاشية إسماعيل وبلاطه، ففريق كان ينقاد إلى نفوذ الإنجليز، وفريق آخر كان يميل إلى النفوذ الفرنسي، مما يدل على مبلغ الضعف السياسي الذي تغلغل في كيان الحكومة بسبب الارتباك المالي، ولا غرو فالمال هو عصب النفوذ السياسي. وقد اعتزمت الحكومة الفرنسية أن تعارض مسعى الحكومة الإنجليزية بمسعى مثله، فأوفدت هي أيضا أحد موظفيها وهو المسيو (فييه) ليعاون إسماعيل على تنظيم ماليته، فكانت ترمي بذلك إلى أن لا تنفرد الحكومة الإنجليزية بالتدخل في شؤون مصر، فقدم مشروعًا أبدى إسماعيل ميله إلى الأخذ به، فاستاءت الحكومة الإنجليزية من رجحان كفة النفوذ الفرنسي، وعارضت عمل إسماعيل بضربة آلمته حيث كانت على اتفاق معه أن لا تذيع تقرير لجنة (كيف) حتى لا يسوء مركزه المالي فلما رأت منه ميلًا إلي أتباع المشورة الفرنسية لوحت بأنها ستنشر التقرير فلما أحتج إسماعيل على إذاعته أوعزت إلي أحد نواب البرلمان البريطاني أن يسأل متى يُنشر التقرير؟ فكان جواب رئيس الوزارة البريطاني دزرائيليأنه لا يعارض نشره وأن الخديوي هو الذي يمانع في ذلك، فكان هذا الجواب أشد وطأة من نشر التقرير، لأنه ترك الأذهان تعتقد سوء حالة المالية المصرية، وأدى ذلك إلى نزول أسعار السندات المصرية نزولًا هائلًا. ورغم كل ما قام به إسماعيل من إصلاحات على طريق الديمقراطية والتحديث العصري، ورغم قيادته نهضة حقيقية في مصر، وإليه يرجع الفضل في الكثير من الإنجازات الحضارية التي شهدتها كما أوضحنا، فإنه لم ينج من فخ الوقوع في دائرة المواجهات على جبهات عدة، فالحفاظ على ذلك الكيان الناهض فرض عليه التزامات مالية أفرغت الخزينة واضطرته إلى الاقتراض، وبالتبعية اضطر إلى أن يخوض سياسيًا واقتصاديًا المعارك المستمرة ضد الباب العالي في الأستانة، والإنجليز، والدائنين الأوروبيين، وفشل إسماعيل في إبقاء الأزمات داخل دوائرها المحدودة، ووقع فريسة للتردد بين الإذعان للتدخل الأوروبى، أو الاعتماد على الدولة العثمانية، أو على الشعور الوطني المصري الذي كانت له الغلبة في خياره، فانتهى الأمر بعزله، وحل مجلس شورى النواب فيعام ١٨٧٩م، لتقع مصر بعدها بثلاثة أعوام فريسة للاحتلال البريطاني وذلك عام 1882م. ومهما كانت سلبيات عصر إسماعيل، فإن إنجازاته الاقتصادية لعبت دورًا مهمًا في التطور الاجتماعي الذيشهدته مصر حتى الربع الأول من القرن العشرين، بما لها وما عليها، وليس أفضل من الكلمات الدالة التي سجلها مؤرخ الحركة القومية عبد الرحمن الرافعي، في كتابه المرجعي(عصر إسماعيل)”كان إسماعيل حقًا عظيمًا في موقفه، شجاعًا في محنته؛ فشجاعته جعلته يغامر بعرشه في سبيل مقاومة الدول الأوروبية جمعاء.. فآثر المقاومة على الاستمساك بالعرش، وقليل من الملوك والأمراء من يضحون بالعرش في سبيل المدافعة عن حقوق البلاد، فالصفحة التي انتهى بها حكم إسماعيل هي بلا مراء من الصحائف المجيدة في تاريخ الحركة القومية، لأنها صفحة مجاهدة وإباء وتضحية، وهي لعمري تضحية كبرى، ولهذه التضحية حقها من الإعجاب والتمجيد”.

وفي ميدان السياسة ونظام الحكم، فقد شهد عهد الخديوي إسماعيل وضع اللبنة الأولى للحياة النيابية في مصر،وتمتد المرحلة التكوينية للتطور الدستوري المصري من تاريخ صدور فرمان السلطان العثماني بتثبيت محمد علي واليًا على مصر في 9 يوليو سنة 1805.ثم صدرت مجموعة من الوثائق الدستورية أهمها القانون الأساسي (السياستنامة) في عام 1837م، ويمكننا بلا جدال اعتبار تولي الخديوي إسماعيل للحكم في مصر سنة 1863م هو البداية الحقيقية لظهور النظام النيابي فيها، وكان حفيد محمد علي قد تلقى تعليمه العالي في فرنسا، وانبهر بباريس عاصمة النور، وقد أراد أن يحاكي أساليب الحكم الأوروبية، وتشير الكثير من الدراسات التاريخية أن الخديوي إسماعيل كانت لدية رغبة حقيقية في إشراك الشعب ممثلاً في طبقة كبار ملاك الأراضي الزراعية في إبداء الآراء في المسائل التي تتعلق بتسيير شؤون الحكومة المصرية. وكان نظام الحكم الفردي الذي أرساه محمد علي باشا طوال عهود من خلفوه في ولاية مصر، وهم إبراهيم باشا وعباس الأول ثم سعيد، فلم تشهد مصر خلال تلك الفترة تطورًا يذكر في شكل الحكم وبنيان الدولة، باستثناء بعض التغييرات الطفيفة في مهام وصلاحيات الدواوين بتقليص صلاحيات بعضها أو بإنشاء بعض المجالس الاستشارية التي تضم مجموعة من الأعيان والشخصيات يختارهم الوالي. ولم يتغير هذا الوضع إلا بتولي الخديوي إسماعيل حكم مصر. ولم يبدأ إسماعيل من فراغ، فجمع المجلس الخصوصي برئاسته في 22 أكتوبر سنة 1866م، وأصدر أمرًا إلى راغب باشا بتأسيس (مجلس شورى النواب)، وذكر في أمر الإنشاء “إن مجالس الشورى شوهدت منافعها ومحسناتها الجليلة في الممالك المتعددة، وأنني عاينت في أهالي مملكتي من الأهلية والاستعداد ما يؤيد حصول هذا الأمل، وما القصد من هذا إلا التشاور والتعاون على توسيع عمارية ومدنية الوطن، والاقتطاف من ثمار مآثر انضمام الآراء في الأمور النافعة”. وأصدر مع هذا الأمر بعد المداولة مع المجلس المخصوص لائحة بتأسيس مجلس شورى النواب وانتخاب أعضائه، وأصدر أمره إلى ناظر الداخلية وإلى مفتش عموم الأقاليم لنشر اللائحة بين الأهالي، وإجراء انتخاب أعضاء المجلس الجديد على مقتضاها. وقد صدر المرسوم الخديوي بإنشاء المجلس في شهر نوفمبر سنة 1866، متضمنا اللائحة الأساسية واللائحة النظامية للمجلس، وشكلت اللائحتان في مضمونهما أول وثيقة نيابية لها شكل دستوري، ولكنهما ليستا دستورًا بالمعنى المتعارف عليه، وكانت اللائحة الأولى تعرف باللائحة الأساسية، وتضمنت ثماني عشرة مادة اشتملت على نظام الانتخابات، والشروط القانونية الواجبة للياقة العضو المرشح، وفترات انعقاد  المجلس، ومواعيد انعقاد جلساته، وتضمنت سلطات المجلس في “التداول في الشؤون الداخلية، ورفع نصائح إلى الخديوي”، أما الثانية فكانت تعرف باللائحة النظامية  وعدد موادها إحدى وستون، وهي تحدد نظام عمل المجلس، أو ما يسمى الآن اللائحة الداخلية. وتأثرت لوائح مجلس شورى النواب بشدة بالنظم البرلمانية التي كان معمولًا بها في أوروبا في ذلك الوقت، خاصة الهيئة التشريعية الفرنسية، والحقيقة أن مجلس شورى النواب هو أول مجلس نيابي منتخب من الشعب المصري، وواكب تكوين المجلس ظهور الرأي العام المصري الذي تشكل مع انطلاق الصحافة المصرية والحركة التحررية ضد التدخل الأجنبي الذي كان في ازدياد في نهاية حكم الخديوي إسماعيل. وأُجريت الانتخابات في 18 نوفمبر سنة 1866، وانعقد مجلس شورى النواب لأول مرة في ٢٥ نوفمبر سنة ١٨٦٦م، إذ اجتمع الأعضاء بمكان الانعقاد (بالقلعة) برئاسة إسماعيل راغب باشا الذي عُين رئيسًا للمجلس في دور انعقاده الأول، وحضر الخديوي حفل الافتتاح، بصحبه من أركان حكومته، وافتتحه إسماعيل بخطبة العرش التي كانت تُسمى بمقالة الافتتاح، وكانت تلك هي أول خطبة عرش في التاريخ السياسي المصري.. وهذا نص الأمر الصادر من جناب الخديوي في الثاني أكتوبر سنة 1866م إلى سعادة إسماعيل باشا راغب عن تأسيس مجلس شورى النواب وتعيينه رئيسًا له. أمر كريم إلى سعادة راغب باشا “حيث أن مجالس الشورى شوهدت منافعها ومحسناتها الجليلة في الممالك المتمدنة، كان أملي تشكيل مجلس شورى بمصر يُنتخب أعضاءه من الأهالي، فالآن أشكر الله تعالى على أني عاينت في أهالي مملكتنا من الأهلية والاستعداد ما يؤيد حصول هذا الأمل، فصممنا على تأسيس المجلس المذكور، ولذا صار عقد المجلس الخصوصي برياستنا، وصارت المداولة بحضور أربابه لدينا في تنظيم لائحة كيفية تأسيسه وانتخاب أعضائه، وصار أعمالها حسب ما هو موضح أدناه، تحتوي على ثمانية عشر بندًا، وقد عيناكم برياسة ذلك المجلس، وصدر أمرنا على تلك اللائحة لناظر الداخلية لإجراء مقتضاه، كما صدر أمرنا أيضًا إلى مفتش عموم الأقاليم لنشرها إلى أهالي الأقاليم لأجل انتخاب الأعضاء بموجبها، وأصدرنا هذا لكم لمعلوميتكم  بذلك، وانتخاب ما يلزم لكم من الكتاب واستحضار الدفاتر والأوراق اللازمة لهذا الخصوص بمعرفتكم، وما القصد من هذا التشاور والتعاون على توسيع عمارة ومدنية الوطن، والاقتطاف من ثمار مآثر انضمام الآراء في الأمور النافعة فنسأل الله أن يوفقنا في كل الأمور”. وقد قام المؤرخ عبد الرحمن الرافعي باستخلاص القواعد الأساسية في مجموع اللائحتين وذلك في الجزء الثاني من كتابه “عصر إسماعيل”، وأوجزها في اثنتي عشرة نقطة كالآتي: أولًا أن المجلس لم يكن له سلطة قطعية في أي أمر من الأمور، وهو وإن كان يصدر قرارات فيما يعرض عليه من الأمور إلا أن هذه القرارات لا تعدو أن تكون توصيات ترفع للخديوي وله فيها القول الفصل، ولم تحدد اللائحة الأساسية ولا اللائحة النظامية المسائل التي يبدي فيها رأيه، بل عبر عنها بأنها المسائل التي تراها الحكومة من خصائصه، وأُشير في بعض المواد إلى أنها المسائل المتعلقة بالمنافع الداخلية، ويبدي رأيه أيضًا في المقترحات التي يتقدم بها الأعضاء. وثانيا يتألف المجلس من عدد من الأعضاء لا يزيد عن خمسة وسبعين عضوًا، ينتخبون لمدة ثلاث سنوات ويتولى انتخابهم عمد البلاد ومشايخها في المديريات، وجماعة الأعيان في القاهرة والإسكندرية ودمياط. وكان عدد نواب كل مديرية بحسب التعداد، فينتخب واحد أو اثنان عن كل قسم من أقسام المديرية بحسب كبر القسم أو صغره، وينتخب ثلاثة نواب عن القاهرة، واثنان عن الإسكندرية، وواحد عن دمياط. وثالثا يشترط فيمن يُنتخب عضوًا أن يكون مصريًا، ومن المتصفين بالرشد والكمال، ولا تقل سنه عن خمس وعشرون سنة، وأن لا يكون ممن صدرت ضدهم أحكام جنائية بالليمان أو المحكوم عليهم بالإفلاس، أو الطرد من وظائف الحكومة بحكم قضائي. ورابعا اُشترط في العضو العلم بالقراءة والكتابة في الانتخاب السابع، أي بعد ثمان عشرة سنة على تأسيس هذا النظام، لأن مدة كل مجلس ثلاث سنوات، ومعنى ذلك أن النواب كانوا يُعفون من هذا الشرط في الانتخابات الست الأولى. ولوحظ في هذا التمييز أن هذه المدة تكفي لانتشار التعليم في البلاد، بحيث يشترط في الأعضاء بعد انقضائها أن يكون لهم دراية بالقراءة والكتابة. واُشترط في الناخبين أن يكون لهم إلمام بالقراءة والكتابة في الانتخاب الحادي عشر، أي بعد ثلاثين سنة على الانتخاب الأول. وخامسًا يحصل انتخاب نواب كل مديرية في عاصمتها، وكل ناخب ينتخب العضو النائب عن قسمه، ويناط فرز أوراق الانتخاب بلجنة مؤلفة من المدير (المحافظ) والوكيل وناظر قلم الدعاوى (ما يعادل رئيس نيابة في الوقت الحالي)وقاضى المديرية. وسادسًا يجتمع المجلس شهرين في كل سنة من منتصف ديسمبر إلى منتصف فبراير باستثناء المجلس الأول الذي يجتمع من 10 نوفمبر إلى 10 يناير، ويكون اجتماعه في القاهرة، وجلساته سرية، وللخديوي جمع المجلس أو تأخيره أو إطالة مدة اجتماعه أو تبديل أعضاؤه (حل المجلس وإجراء انتخابات جديدة). وسابعًا تعيين رئيس مجلس شورى النواب ووكيله منوط بالخديوي دون أن يكون للمجلس رأي أو ترشيح في هذا التعيين. وثامنًا يفتتح الخديوي المجلس بخطبة العرش، ويقدم المجلس جوابه عنها بكتاب لا يقطع فيه بشيء من الأمور التي يقتضي نظرها المجلس. وتاسًعا ينتخب المجلس من بين أعضائه أقلامًا ( لجانًا)، ومن أعمالها فحص صحة نيابة الأعضاء، وتعرض قراراتها على هيئة المجلس، ومن يقرر المجلس صحة انتخابهم تعرض أسماؤهم على الخديوي ليعطى تصديقا على عضوية كل منهم. وعاشرًا للمجلس توقيع عقوبات على من يتخلف من الأعضاء بدون عذر عن حضور الجلسات. والحادي عشر يتمتع الأعضاء أثناء انعقاد المجلس بشيء من الحصانة النيابية، فلا ترفع عليهم دعاوى جنائية في أثناء الانعقاد إلا إذا ارتكب أحدهم جريمة القتل. والثاني عشر إدارة الجلسات منوطة برئيس المجلس، ولا يجوز للعضو أن يتكلم إلا إذا طلب الكلام وأذن له الرئيس بذلك، ولا يتكلم إلا وهو في موضعه، وتصدر القرارات بطريقة أخذ الآراء علانية وبالأغلبية، وعلى المجلس أن يحترم رأي الأقلية، وأن يصغى لأقوالها وملاحظاتها. والثالث عشر أعضاء المجلس يحضرون إلى المجلس بملابس (الحشمة اللائقة) وجلوسهم فيه يكون (بهيئة الأدب)، ولا يجوز لأي عضو نشر مناقشات المجلس أو طبعها إلا بإذن من الرئيس، وإلا كان عرضة للجزاء الذي يوقعه المجلس.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك