الخميس - الموافق 18 أبريل 2024م

(30) الوهابية وحصاد العلقم.. بقلم الكاتب والباحث: محمد السني

Spread the love

استمر مسلسل المشاحنات الطائفية، واتسع نطاقها الجغرافي مع الاجتياح الوهابي للأمة المصرية إبان حكم السادات،وكانت أشهر تلك المشاحنات في هذه المرحلة ما تم من اعتداءاتوقتل بالسلاح الأبيض لبعض الطلبة المسيحيين بأيادي الجماعات الوهابية في أسيوط 1978. ثمالاعتداءات على الطلبة المسحيين المقيمينبالمدينة الجامعية بالإسكندرية 1980. ثمالإعتداءات على الشرطة والمسيحيين في محافظة أسيوط صباح عيد الأضحىالتي راح ضحيتها مئة وثمانية عشرجنديًا وضابطًامن قوات الشرطة وذُبح فيها ضباط أقباط1981. ثم أتت أحداث (الزاوية الحمراء) الشهيرةفي17 يونيو1981 التي استمرت ثلاثة أيام، وأُعتبرت تلك الأحداث الطائفية التي حدثت في غضون عهد الساداتبداية لسلسة أحداث إرهابية همجية تحدث من حين لآخر ضد المواطنين المصريين المسيحيين، فبات جُرح هذه الأحداث مفتوحًا لا يندمل، فمن حينها عرف المصريون كلمة مسيحى ومسلم فكان قبل هذا التوقيت لا يُسأل مَن مسيحى ومَن مسلم. لتتغير هُوية مصر المسالمة والمتنوعة والمتعايشة، وتزرع الكراهية بين المصريين وبعضهم البعض، ولم تُوضع الحلول الجذرية منذ البداية لهذا الوباء الذي أصبح ظاهرة اجتماعية منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي. والتي أصبحت أحد معالم عدم الاسقرار السياسي إبان الحقبة الساداتية حيث كان متوسط عمر الوزارة سبعة شهور ونصف، فقد عين السادات مئة وثلاثة وثمانين وزيرًا في سنوات حكمه حتى عام 1980في ثماني عشرة وزارة.
باتت الجماعاتالوهابية صداعًا في رأس حكم السادات خاصة بعد توقيعه لاتفاقية السلام. التي كانت الفاصل القاسم النهائي في علاقتهم بالسادات، فانقلب عليهم بعدما ناهضوا اتفاقياته ونشاطاته من أجل تحقيق السلام وشجعوا القوى المختلفة على الانقلاب ضده، فبدأ في اعتقالهم وسجنهم مع بقية الفئات المعارضة لاتفاقية السلام من أجل اتمام خطواتها دون أي عراقيل.استغل السادات أحداث الزاوية الحمراء وقام في الثالث من سبتمبر1981م بحملة اعتقالات موسعة شملت ما بين شخصيات معارضة ومثقفين وأعضاء جماعات وهابية، ولم يكن الأمر مقتصرًا هذه المرة على أنها حملة اعتقالات موسعة أو على كبر عدد المعتقلين بل شمل الأمر اعتقال عدد كبير من الأساقفة ورجال الكنيسة.وفي الخامس من سبتمبر 1981 وقف السادات أمام أعضاء مجلس النواب، ليخطب فيهم بخصوص ما اسماه محاولات إثارة الفتنة الطائفية مستشهدًا ببعض بيانات الجماعات الوهابية عامة وجماعة الإخوان المسلمين خاصة، ملقيًا بيانًا يحتوي على ثمانية قرارات مختلفة، مستندًا على المادتين 73 و74 من الدستور الدائم (دستور 71 وقتها). وقد شملت الاعتقالات قائمة من أبرز الشخصيات السياسية والثقافية والقانونية المعروفة ومن التيارات الفكرية والحزبية كافة، الناصري، والوفدي، والماركسي، والمستقل،ومن ليس محدد الاتجاه، إضافة إلى قيادات التيار الوهابي، والكثير من رجال الدين المسيحي،إلى جانب غير المعروفين من الطلبة والأساتذة والصحافيين ومن لا يمكن تصنيفهم على أي مستوى. بدت الهجمةغير منطقية للجميع، وغير متوقعة، وغير مدروسة، وصفها البعض بالجنون، والحماقة، والتخبط في أقل التقديرات. شملت الاعتقالات ستة وثلاثين شخصيةمن الأحزاب التي اسماها المناهضة (المعارضة) منهم ستة عشرمن حزب التجمع، وسبعة من حزب العمل،وثلاثةمن حزب الوفد، إضافة إلى اثنتي عشرة مضبوطين بتهمة التخابر مع السوفييت، هكذا صنف السادات المعتقلين في حملة الثالث من سبتمبر. شملت أيضا الهجمة اغلاق ستة مجلات وحل جمعية دينية ونقل خمسة وستين استاذًا جامعيًا وثلاثة وستين صحفيًا إلى وظائف أخرى.وقال السادات في خطابه أنه تم إلقاء القبض على ما يقرب من ألف وخمسمائة شخصية معارضة تسعى لإثارة الفتن والمعارضة، إلا أن الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكلالذي كان من ضمن المعتقلين في تلك الحملة، أكد أن عدد المعتقلين قد بلغ ما يقرب من ثلاثة آلاف معتقل. وعلى الرغم من الزعم بأن تلك الحملة من الاعتقالات هدفها وقف الفتنة الطائفية والداعين لها، إلا أن وراء تلك الحملة هدف آخر وهو إسكات المعارضين لاتفاقية (كامب ديفيد)، فكان هؤلاء المعارضون يرون أن تلك الاتفاقية ما هي إلا ادعاء لسلام وهمي بين مصر وإسرائيل، وأن من حق فلسطين استعادة باقي أراضيها التي تضع قوات الاحتلال يديها عليها. وكانأبرز الشخصيات التي تم اعتقالهاالبابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، الذي عُزل من منصبه، ونُفي إلى وادي النطرون، وستة عشر أسقفًا من قيادات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية،ويُذكر أن البابا شنودة الثالث كان قد عارض زيارة السادات إلى (الكنيست الإسرائيلي) عام 1977م وعارض أيضًا توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع رئيس الوزراء الإسرائيلي(مناحم بيغين)، فرفض البابا السفر مع وفد الرئيس إلى إسرائيل، كما أصدر المجمع المقدس بتاريخ 26 مارس1980م قرارًا يمنع المسيحيين من السفر والحج إلى القدس والأراضي الفلسطينية الواقعة تحت سيطرة قوات الاحتلال، وهو ما أعتبره السادات تحديًا لسياساته. وكان من بين المعتقلين محمد حسنين هيكل، وصلاح عيسي، وعبد العظيم عطا(وزير الري السابق في عهد السادات)، وفؤاد سراج الدين، وحلمي مراد، وعبد المنعم تليمة، وجابر عصفور، وميلاد حنا، وخالد الكيلاني، وعبد المحسن طه، وسيد البحراوي، وصبري المتولي، وحسن حنفي، وصافيناز كاظم، وفريدة النقاش، وشاهندة مقلد، وأمينة رشيد، وفتحي رضوان، ونوال السعداوي، وعواطف عبد الرحمن، ولطيفة الزيات، وأبو العز الحريري، وحمدين صباحي، ولطيفة الزيات،وأحمد فؤاد نجم، وعبد المنعم أبو الفتوح،ومحمد عبد القدوس،ومرشد جماعة الإخوان عمر التلمساني،والشيخحافظ سلامة، والشيخ عبد الحميد كشك،والشيخ أحمد المحلاوي،ومحمد حبيب… إلخ. وصدر قرار من الرئيس السادات في الخامس من سبتمبر بالتحفظ عليهم في مكان أمين لمدة خمس سنوات تطبيقًا لقانون العيب، ولذلك كانت التحقيقات مجرد دردشة ولا علاقة لها بالحبس من عدمه.لم يكن هذا القرار أكثر أهمية وخطورة ضمن ٩ قرارات أخرى أصدرها السادات تحت قبة مجلس الشعب وبدأت أجهزة الدولة في العمل بها فوراً، والتي جاءت كالتالي: أولًا: حظر استغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية أو حزبية، وحظر استغلال دور العبادة لهذا الغرض أو في المساس بالوحدة الوطنية. ثانيًا: التحفظ على بعض الأشخاص الذين توافرت قبلهم دلائل جدية على أنهم قد ارتكبوا أو شاركوا أو جندوا أو استغلوا على أية صورة كانت الأحداث التي هددت الوحدة الوطنية. ثالثًا: التحفظ على أموال بعض الهيئات والمنظمات والجماعات والجمعيات التي مارست نشاطًا أو أعمالًا هددت الوحدة الوطنية. رابعًا: حل بعض الجمعيات المشهرة، وفقًا لأحكام القانون رقم 22 لسنة 14 في شأن الجمعيات والمؤسسات الخاصة والتي مارست نشاطًا هدد الوحدة الوطنية. خامسًا: إلغاء التراخيص الممنوحة بإصدار بعض الصحف والمطبوعات مع التحفظ على أموالها ومقارها. سادسًا: نقل بعض أعضاء هيئة التدريس والجامعات والمعاهد العليا الذين قامت دلائل جدية على أنهم مارسوا نشاطًا له تأثير ضار في تكوين الرأي العام. سابعًا: نقل بعض الصحفيين وغيرهم من العاملين في المؤسسات الصحفية القومية وبعض العاملين في اتحاد الإذاعة والتليفزيون والمجلس الأعلى للثقافة الذين قامت دلائل جدية على أنهم مارسوا نشاطًا له تأثير ضار في تكوين الرأي العام أو هدد الوحدة الوطنية إلى هيئة الاستعلامات. ثامنًا: إلغاء قرار رئيس الجمهورية رقم 2782 لسنة 71 بتعيين الأنبا شنودة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وتشكيل لجنة للقيام بالمهام الباباوية من خمسة من الأساقفة. وهكذا اختلط الحابل بالنابل عن قصد وتدبير، وقادت مجمل تلك الأحداث إلى أن جرد السادات معارضيه من أية وسائل يمكن من خلالها إيصال آرائهم أو يتعاملوا بها مع المواطنين.
لم يعد لدى السادات جديدًا يقدمه لأمريكا وإسرائيل والغرب، خاصة بعد أن أصبح معزولًا عربيًا بعد توقيعه على معاهدة الصلح المنفرد مع إسرائيل عام 1979، ومكروهًا داخليًا بعد أن وضع أسس الاستبداد والخراب والتجريفوالظلامية والفساد، واعتقل كل رموز المعارضة في فجر الخامس من سبتمبر عام 1981. فكان اغتيال السادات هو الرد في حادثةالمنصة في السادس من اكتوبر 1981 علي يد أحد الفصائل الوهابية التي أنشأها السادات بنفسه.وكان الأمريكيون بناءً على طلب السادات قد تولوا مسئولية حمايتة وزودوه بنظام كامل للأمن تكلفت معداتة 20 مليون دولار وكان ضمن ترتيبات الأمن ايضًا وجود فرقة خاصة لمكافحة الإرهاب الدولي، ومن المفارقات أن هذة الفرقة تم تكليفها بأن ترابض وراء المنصة حتى لا يفسد وجود أفرادها على المنصة مهابة منظرها ويعطي الانطباع بوجود تدابير أمن مشددة، كانت فرقة مكافحة الإرهاب على بعد ستين مترًا من مكان وجود السادات وكان مغتالوة على بعد ثلاثين مترًا فقط وحين هرع أفرادها بسرعة للمشاركة في حمايتة كان جهدهم عبثًا لا طائل منه. تم الاغتيال على يد أربعة أشخاصجميعهم ينتمون لتنظيم الجهاد الإسلامي، منهم ضابطان بالجيش المصري هما الملازم أول خالد الإسلامبولي ضابط عامل باللواء 333 مدفعية، والملازم أول مهندس احتياط عطا طايل حميدة رحيل، وحسين عباس قناص بالقوات المسلحة وعبد الحميد عبد السلام ضابط سابق بالدفاع الجوي،ومحمد عبد السلام فرج أميرهم والمخطط للاغتيال والمنظر الفكري لتنظيم الجهاد، وهو الشخص الذي وضع أول سطر في قضية مقتل السادات قبل اغتياله بعدة أعوام وذلك بمؤلفه الصغير الحجم والذي حمل عنوان (الفريضة الغائبة) الذي اعتبره الكثيرون أنه كان ترخيصًا بقتل السادات، إذ كان يدعو إلى الجهاد على أساس أنه الفريضة الغائبة. وكان الشيخ عمر عبد الرحمن من رجال الدين المتطرفين والمتورطين في اغتيال السادات حيث سأله وقتها أحد أعضاء التنظيم: “هل يحل دم حاكم لا يحكم طبقا لما أنزل الله؟” فكان رد عمر عبد الرحمن عليه:”نعم يحل دم هذا الحاكم لأنه يكون قد خرج إلى دائرة الكفر”، ما جعل مراقبون يؤكدون أن فتواه ضمن أبرز الفتاوى التي استند إليها قتلة السادات في تنفيذ عمليتهم التي أنهت حياتة.وقد أثار مقتل السادات بهذه الطريقة، ووسط جيشه وأمنه، الكثير من التساؤلات لدى البعض، فمن الثابتوالمعروف أن التنظيمات الإرهابية الوهابية منذ نشأتها الأولى على يد حسن البنا عام 1928 (جماعة الإخوان المسلمين)، تعمل دائما تحت المراقبة المشددة لأجهزة المخابرات الغربية خاصة جهازي الـ MI6 البريطاني والـ CIA الأمريكي،ومن المعروف أيضًا أن أجهزة المخابرات الغربية الكبرى قد توصلت مع الوقت والخبرة إلى كيفية استخدام التنظيمات الإرهابية التي تعمل تحت راية الإسلام الوهابي في تنفيذ أغراضها (أغراض تلك الأجهزة) دون أن يعلم أفراد تلك التنظيمات أنهم يعملون لحساب تلك الأجهزة، بل وهم يحسبون أنهم يفعلون ما يرضي الله ورسوله، سواءً عن طريق اختراق تلك التنظيمات بعملائها، أو عن طريق تجنيد زعماء تلك التنظيمات، أو عن طريق تكوين تلك التنظيمات من الأساس كما حدث منذ البداية بتشكيل جماعة الإخوان عن طريق المخابرات البريطانية. فهل كانت عملية اغتيال السادات عملية استخباراتية أمريكية بالأساس (بعد أن أصبح كارتًا محروقًا)، وأوكل تنفيذها لأفراد من تنظيم الجهاد في مصر، سواء كان هؤلاء الأفراد يعلمون أنهم يقومون بالعملية لحساب الإدارة الأمريكية أو لا يعلمون ذلك؟؟.
في مذكراته، كشف محيي عيسى، القيادي الإخواني الحالي والسابق بالجماعة الإسلامية،كواليس جديدة حول اغتيال السادات، وذلك بإبلاغه هو وأبو العلا ماضي رئيس حزب الوسط والإخواني السابق، الدكتور سيد عبدالستار المليجي عضو مجلس شورى الإخوان السابق بموعد قتل السادات والتفاصيل الدقيقة لعملية اغتياله تمهيدًا للانقلاب عليه وعلى حكمه لصالح الإسلاميين، وطالب الثنائي المليجي بإبلاغ قيادات جماعة الإخوان المسلمين بميعاد وتفاصيل الاغتيال، واستطلاع رأيهم بشأن مشاركة الجماعة الإسلامية في تلك العملية الإرهابية، إلا أن المليجي بعد 24 ساعة مهلة، أبلغ الثنائي الذين كانا ينتميان وقتها للجماعة الإسلامية بعدم إبلاغه قيادات الإخوان بمسألة اغتيال السادات كونه لم يقابل أحدا منهم طوال الأربعة والعشرين ساعة الماضية، مطالبًا إياهم بنسيان أمر الاغتيال، وإبلاغ الجماعة الإسلامية بالتراجع عن هذا المخطط الذي يرفضه هو بشكل شخصي، ويرفضه معه أعضاء وقيادات الجماعة بشكل مبدئي. وأوضح عيسى في مذكراته أنه بعد هذا الرفض المستتر من جماعة الإخوان لعملية اغتيال السادات والمشاركة في انقلاب الجماعة الإسلامية على حكمه وفقًا لما أبلغه به عبدالستار المليجي، نفذت الجماعة الإسلامية عملية الاغتيال بمفردها، وقام بعدها هو وزميله أبو العلا ماضي بتغيير بطاقتيهما وتزوير بطاقتين جديدتين بأسماء أخرى كي يبعدا عن الحملات الأمنية القوية التي خرجت للقبض على كل أعضاء الجماعة الإسلامية، كما قام الثنائي أيضًا بتغيير محل إقامتهما بعد أن تم رصده أمنيًا، وقد ساعدهم في تغيير مكان الإقامة الدكتور عبدالستار المليجي الذي أسكنهما أحد المناطق الصحراوية البعيدة عن أعين الأمن، على الرغم من رفضه الأولي لعملية اغتيال السادات. وعن تلك الواقعة بتفاصيلها الدقيقة التي قصها محيي عيسى، أكد الدكتور سيد عبدالستار المليجي، القيادي الإخواني السابق، في مذكراته المعروفة باسم (تجربتي مع الإخوان) والتي نشرها بعد خروجه من الجماعة وانشقاقه عنها، ما أكده محيي عيسى من علم الإخوان لموعد اغتيال الرئيس السادات، ورفضهم المشاركة في العملية أو تبليغ قوات الأمن بما تحيكه الجماعة الإسلامية من مخطط، واكتفت الجماعة بتهريب أبرز قياداتها ولعل أبرزهم مصطفى مشهور مرشد الإخوان الذي خرج من مصر قبل تنفيذ عملية الاغتيال بأربعة وعشرين ساعة تقريبًا. وبشهادة القيادي الإخواني الحالي محيي عيسى في مذكراته، وبشهادة القيادي الإخواني المنشق الدكتور سيد عبدالستار المليجي، تأكد مشاركة جماعة الإخوان المسلمين في عملية اغتيال السادات، وجاءت المشاركة في عدم إبلاغها قوات الأمن بما تجهز له الجماعة الإسلامية وبعض الجماعات الجهادية الأخرى لاغتيال السادات أثناء احتفالات نصر أكتوبر العظيم. وبعيدًا عن الخوض في كل تلك الأقاويل عن حادثة اغتيال السادات إلا أن جميعها تشير إلى سيطرة كبيرة للقوى الوهابية داخل الجيش المصري وهو ما كان واضحًا وبشدة في فكرة الهجوم بشكل مباشر على المنصة من الأمام، كما كان واضحًا أيضًا في البدائل التي كانت مطروحة آنذاك منها مهاجمة المنصة بواسطة إحدى طائرات العرض العسكري أو مهاجمة استراحة السادات أثناء إقامته فيها. وأشارت وسائل الإعلام العالمية عن السبب الحقيقى في الاختلاف بين جنازة جمال عبد الناصر وبين جنازةأنور السادات ولماذا كانت القاهره هادئه وعدم اهتمام الجماهيركما لو كان مواطنًا عاديًا.
وهكذا، تؤكد لنا مجمل الأحداث، أن الوهابية زُرعت في مصر بفعل فاعل، مع سبق الإصرار والترصد، وأن هذا الغزو الفكري الوهابي كان جزءً من استراتيجية الدولة السعودية الوهابية الثالثة كما أقر بذلك المنظر والمؤرخ الرسمي للوهابية (عثمان بن بشر)، وكما أوضحته الوثائق السعودية والبريطانية التي أشرنا إلى بعضها تباعا، والتي توافرت لانجاحها عوامل عديدة ومتوالية، بدءً بتبني الاحتلال البريطاني لهذه الرغبة السعودية، وكذا التوجه البريطاني لتكرار نموذج السعودية الوهابية المؤيد والمساند والداعم بشكل مطلق لتحقيق أهداف الاستعمار القديم في الإقليم، ثم ما تبع ذلك من استخدام الملك فاروق لتنظيم الإخوان المسلمين الوهابي لمواجهة الحركة الليبرالية الوليدة والواعدة منذ اندلاع ثورة 1919 وما تولد عنها من حراك سياسي استثنائي كاد أن يثمر عن مولد دولة مدنية حديثة وديمقراطية بقيادة الطبقة الوسطى الوليدة آنذاك. وكانت البداية اختراق الأزهر الشريف عن طريق رشيد رضا (1860-1930) بواسطة حافظ وهبة مستشار الملك عبد العزيز بن سعود، وعن طريق رشيد رضا تم ادخال العقيدة الوهابية إلى الأزهر بذريعة تنقية الدين من الشوائب والخرافات والتعاليم الصوفية، وإعادة الدين إلى أصوله النقية. ثم تمكنت الوهابية مع بداية العشرينات من استطاب محب الدين الخطيب (1886-1969) الذي وفد إلى مصر فارًا من وجه العثمانيين بالشام، وقام بتأسيس المطبعة السلفية ومكتبتها في منطقة الروضة، والتي شهدت مولد أول الكتب الوهابية التيمية والحنبلية التي تخدم الخط الوهابي. وكان محمود خطاب السبكي أول مصري يلعب دورًا في حرث الأرض المصرية ووضع البذرة الوهابية عن طريق تحويل (الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة) إلى المذهب الوهابي التكفيري، ومن ثم بدأت عملية هدم مكونات هُوية الأمة المصرية من عادات وتقاليد وسمات شخصة. ثم تبعه الشيخ محمد حامد الفقي وهو أحد رجال الأزهر المتشددين الذي أسس (جمعية أنصار السنة المحمدية) 1926، والتي تبنت الوهابية قلبًا وقالبًا، وركزت نشاطها داخل الأزهر وخارجه. ثم قدّم رشيد رضا العميل الوهابي البريطاني، قدّم المدرس الشاب حسن البنا (1906-1946) إلى حافظ وهبة، وهو الذي قام بصياغة أهداف الجماعة التي تبناها حسن البنا آنذاك، وتتلخص في العودة على أصول الإسلام الأولى (المدرسة الوهابية) ومجابهة المد الوطني لحزب الوفد ومناهضة أفكاره الليبرالية، ومقاومة الفكر الاشتراكي، ودعم شرعية الملك ومقاومة الفكر التنويري والديمقراطية، وقطع كل محاولة للوصول إلى منابع الحضارة الحديثة. كما نجحت الجماعة من خلال نشاطها من وضع أسس نموها السريع خاصة وسط الطبقة الوسطى الحديثة. ومع اقتراب النصف الثاني من الأربعينات من القرن الماضي كانت الشخصيات الوهابية قد غطت وجه مصر وتنوعت أدوارهم وأشكالهم، وتسربوا إلى كافة المناشط السياسية والاجتماعية والحكومية وكذلك الجيش والشرطة، وأصبحوا جزءً من النظام السياسي. وحتى هذا الحين اتبع الإخوان مبدأ (التقية) مع الملك. ولعب الإخوان طيلة هذه الحقبة أدورًا سلبية سواء داخل الحركة الطلابية أو الحركة العمالية، حيث وصلت رغبتهم في منافسة الوفد والاشتراكيين إلى حد تخريب الإضرابات وتقسيم المظاهرات مما دعم الميول داخل القصر للاهتمام بهم ودعمهم وتأييدهم. كما اتاحت القضية الفلسطينية إمكانات عدة أمام الإخوان، حيث كانت حرب فلسطين فرصة ذهبية أمام حسن البنا ليحشد ترسانة ضخمة ويدرب رجاله علنا تحت ستار الإعداد لحرب فلسطين. ومنذ البداية قدم الإخوان أنفسهم للسفارة الأمريكية على أنهم ذراعهم في مصر لمحاربة الشيوعية، والتصرف ضمن استراتيجيتها كما أوضحنا سابقًا، وقمنا بتقديم ما يكفي من الوثائق التي كشفت عرض الإخوان على الأمريكان تصفية القضية الفلسطسنية وتوطين الفلسطينيين خارج فلسطين. وبينا كيف حصلوا على أموال من الإنجليز، وسجل حسن البنا هذا في مذكراته. وظل الإخوان طيلة هذه الحقبة ينكرون رغبتهم في الوصول إلى السلطة وممارسة اللعبة السياسية رغم أن كل أفعالهم كانت منخرطة في السياسة. لقد سعى حسن البنا إلى بناء منظمة من الكوادر تتلقى تربية وإعدادًا خاصًا وتُعد لتكون (ميليشيا) سرية مسلمة مهمتها أن تستولي على الحكم بتحرك إنقلابي. وقد بدأ التنظيم نشاطه بعمليات استهدفت الطائفة اليهودية المصرية من محال ومصانع وأفراد تأكيدا لرؤيتهم للصراع ضد الصهيونية بصفتها دين يهودي وليس كيانًا استعماريًا استيطانيًا. وعلى الجانب الآخر نشطت الجماعة عن طريق الجيش الإسلامي (ميليشيا الإخوان – التنظيم الخاص)، في ضرب عنق كل المعارضين بالسيف تطبيقاً لمنهج (البنا)، فشهدت مصر فيما بين (1945 – 1949) سلسلة من أعمال العنف تم خلالها اغتيال أحمد ماهر رئيس الوزراء في 24 من فبراير 1945م، كما تم استخدام العنف ضد الطلبة الوفديين واليساريين داخل حرم الجامعة 1946م. وفي صباح 22 مارس 1948 اُغتيل المستشار أحمد الخازندار أمام منزله في حلوان، وبعده بشهور لقي رئيس الوزراء المصري محمود فهمي النقراشي مصرعه، عند ديوان وزارة الداخلية. وفي 15 نوفمبر 1948قام عدد من أعضاء النظام الخاص بجماعة الإخوان المسلمين في مصر بنقل أوراق خاصة بالنظام وبعض الأسلحة والمتفجرات في سيارة جيب من إحدي الشقق بحي المحمدي إلى شقة أحد الإخوان بالعباسية، إلا أنه تم الاشتباه في السيارة التي لم تكن تحمل أرقامًا وتم القبض على أعضاء التنظيم والسيارة لينكشف بذلك النظام الخاص السري لجماعة الإخوان المسلمين. وأدى هذا الحادث وغيره إلى إعلان محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء آنذاك أمرًا عسكريًا بحل جماعة الإخوان المسلمين في 8 ديسمبر 1948، واعتقال أعضائها، وتأميم ممتلكاتها، وفصل موظفي الدولة والطلبة المنتمين لها، وكان هذا القرار سببًا جعل النظام الخاص يقوم بقتل النقراشي في 28 ديسمبر 1948. مما دفع الملك إلى إهدار دم الجماعة ومؤسسها، حيث تصاعد الصدام حادًا بين الدولة وبين جماعة الإخوان المسلمين وهو الصدام الذي وصل ذروته باغتيال حسن البنا في 12 فبراير 1949م.وهكذا أصيبت الأمة المصرية بسرطان الوهابية التكفيرية بعد أن كانت في معزل عن الطائفية والمذهبية التي اجتاحت العراق والشام واليمن بعد انتهاء دور شبه الجزيرة العربية وخروجها من التاريخ الإنساني. حيث كانت الأمة المصرية أكثر انفتاحًا وتسامحًا وتعايشًا مع الآخر ورافضة للاتجاهات التكفيرية والظلامية، لما تمتلكه من رصيد حضاري وإنساني راقي في أغلبه. فبدأت مواجهة فكرية طاحنة بين حركة المجددين، والمحافظين الجدد (الوهابيين)، تمكنت خلالها الفاشية الدينية التي اجتاحت مصر بزعامة الأزهر (بصيغته الوهابية) والإخوان المسلمين الوهابيين من الانقضاض على كل مكتسبات الأمة المصرية الفكرية والثقافية والتنويرية والاجتماعية والسياسية، كما سعوا لتأييد وتأصيل الفكر الاستبدادي، فمهدت الأمة المصرية لقبول أي نوع من الاستبداد. وأصبح إعمال العقل جريمة يُحارب صاحبها في مصر، وهي التي قادت أحد أهم عظماء الأمة المصرية وهو طه حسين إلى أروقة المحاكم، بدعوى الإساءة المتعمدة للدين الإسلامي والقرآن الكريم. كما سعى الأزهر والإخوان المسلمين إلى قتل أفكار الإمام محمد عبده وإجهاض دعوات قاسم أمين وأحمد لطفي السيد لتحرير المرأة، علاوة على الإساءة المعنوية البالغة لهم ولأعمالهم الفكرية والتنويرية الهامة، وتكرر هذا مع أغلب مفكري ومبدعي مصر، فأجهضت الوهابية عامدة متعمدة المشروع التنويري الأول والأهم في تارخ الأمة المصرية.
تخلف الإخوان المسلمين عن تأييد ثورة 23 يوليو 1952، ولم يصدر بيان منهم إلا بعد تأكدهم من نجاحها، فاتجهوا إلى فرض وصايتهم الظلامية والرجعية على تنظيم الضباط الأحرار الذي نجح بالفعل في إحداث تغيير نوعي في طبيعة الحكم، وذلك بإسقاط رأس السلطة السياسية، وإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، وتطبيق قانون الإصلاح الزراعي، وهي الوصاية التي رفضها عبد الناصر رفضًا تامًا. وعندما حدث تباين بين أجنحة مجلس قيادة ثورة يوليو 1952 حول مستقبل الديمقراطية في مصر، وقف الإخوان والرجعيون في الداخل وحلفائهم الأمريكان والوهابيون السعوديون في الخارج، إلى جانب منع إقامة حياة نيابية. وكان هؤلاء جميعا يرون أن عودة الحياة النيابية ستؤدي إلى إتاحة المجال للقوى الوطنية الديمقراطية لممارسة نشاطها السياسي والثقافي الفعال، لهذا اتفقوا جميعًا على تأييد حل الأحزاب وعدم إقامة حياة نيابية وسارت في نفس الاتجاه الصحافة الصفراء. ومنذئذ استمرت محاولات الإخوان لسرقة الثورة، واستخدموا كل الوسائل القذرة من تآمر مع كل أعداء التطور والتغيير والتحديث في الداخل والخارج، واستغلال التناقضات التي برزت بين أعضاء مجلس قيادة الثورة بما يدعم هدفهم بالاستيلاء على السلطة، كما ورفعوا شعارات متناقضة للغاية تبعًا لتحالفاتهم المرحلية، وممارسة العنف والقوة المسلحة التي وصلت إلى حد محاولة اغتيال رأس السلطة (عبد الناصر) في حادث المنشية الشهير، علاوة على ما ثبت من خطط دموية ومؤامرات خيانة للأمة المصرية لا حصر لها، التي لم يُكتب النجاح لأغلبها، وقد قمنا بنشر ما يكفي من وثائق ووقائع تاريخية لتوضيح تلك الأحداث. وأوضحنا كيف أدى صراعهم المستميت على السلطة واستغلالهم لحالة الفوران الثوري في هذه المرحلة إلى انكشافهم وفضح أهدافهم ونواياهم، وهزيمتهم السياسية الساحقة على أيدي الجناح الأقوى داخل مجلس قيادة الثورة بقيادة عبد الناصر، وفي النهاية كان حظر نشاط الجماعة. ثم تعامل الإخوان مع العدوان الثلاثي على مصر 1956 بانتهازية شديدة مدعين (الحياد) كما وصف بعض المؤرخين موقفهم في تلك الفترة، وإن كانوا ينتظرون هزيمة حكومة الثورة وقتها، حيث رفض الإخوان وجناحهم المسلح المشاركة في المقاومة الشعبية في بورسعيد ومدن القناة على اعتبار أن ذلك سيكون دعمًا لحكم ضباط ثورة يوليو، وحتى المشاركة في التعبئة الشعبية تقاعسوا عنها، كما اعترف قادتهم. ليس من شك أن ما قام به وصنعه ناصر في مصر قد مثل في حينه إنجازًا هائلًا، ونقلة نوعية على صعيد التفكير وفتح آفاق العمل الجدي بغية تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي وفك التبعية الكولونيالية لبلد متخلف، ودفعه نحو إحداث تحولات اقتصادية واجتماعية كبرى، بهدف إنجاز التنمية المستقلة، فيما بلغت القوة الناعمة المصرية ذروتها وازدهرت المجلات الثقافية وفنون السينما والمسرح كأحد أضلاع مشروع نهضة مصر. كما أنه لم تقع حادثة طائفية واحدة بين المسلمين والمسيحيين في عهد عبد الناصر، وانحسرت دعاوى تكفير الآخر ومعاداته. وذلك رغم تأخر الإصلاح السياسي الذي وعدت به الثورة في بداية مسيرتها والذي تأجل مرارًا وتكرارًا حتى توارى من أجندة السلطة السياسية، والذي نعتبره أحد أهم أسباب تآكل إنجازات ثورة يوليو نفسها وتبخر الأسس والثوابت الوطنية التي تبنهتا وحققت فيها إنجازات هائلة. وقد أفضى التأخر في الإصلاح السياسي إلى تفريغ الشخصية المصرية من روح تحمل المسؤولية والمشاركة الفعالة في الشأن العام، وغرس مبدأ التواكل والاعتماد على فكر الزعيم الأوحد والأقدر وانتظاره إن لم يكن موجودًا، ودعم حالة التعايش والتقبل والتكيف مع الاستبداد، فاصبحت بذلك خارج التاريخ ومتطلباته وتجلياته، وقدمت النموذج المؤهل تمامًا للتجنيد في المنظمات التكفيرية والإرهابية الفاشية في حالة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الحادة وغياب الهُوية. كما استمر تغييب التاريخ المصري الحقيقي شديد التنوع، والمازج للحضارات، والخاضع للهيمنة الموضوعية للتاريخ الفرعوني الحاضن للحقب الإغريقية واليونانية والرومانية والقبطية وأخيرًا العربية، والتركيز على الحلقة الأخيرة فقط في تاريخنا العريق وهي الانتماء العربي، والإيحاء بأن تاريخنا يبدأ عام 641م، بما يعني في الحقيقة استمرار حالة الانفصام التام عن التاريخ المصري الحقيقي وهو ما ألقينا الضوء عليه سابقًا بشيء من التفصيل في كتابنا الأسبق عن (الأمة المصرية – قومية متفردة). كما شهدت الحقبة الناصرية التوسع في إدخال الكليات العلمية لجامعة الأزهر والتي أصبحت فيما بعد أوكارًا لإعداد العناصر الوهابية الإرهابية مما يؤكد أنه لم يكن مسلكًا حكيمًا. وظل للإسلام السياسي المُدجن حضور مؤثر في المشروع الناصري، وإن جاء استحضاره في سياق دعم وشرعنة مشروع تحديثي جذري يمس بنية المجتمع المصري، في إطار البحث عن اجتهاد ديني يتواءم ومشروع عبد الناصر. كما يبدو من النقاشات التي كانت تدور حول قضايا المرأة والتأميم وحجم الملكيات المسموح بها، وهي تظهر حرصًا بالغًا على تقديم اجتهاد ديني يدعم هذا التوجه الجديد. بل أكثر من ذلك، استوعب ناصر قطاعات من الإسلاميين وإدماجها ضمن مشروعه، بل وتوظيفها ضمن هذا المشروع. وهو الأمر الذي لم يضيف شيئًا لعبد الناصر لأن إنجازاته الهائلة، وسجله الوطني ناصع البياض، وما حققه من خطوات كبيرة وجادة في طريق العدالة الاجتماعية، هي من حققت له شعبيته الجارفة وذلك كما أوضحنا سابقًا بشيء من التفصيل. كما أن عبد الناصر لم يقتلع الجذور الفكرية الوهابية بالشكل الواجب، حيث لم يستطع (أو لم يشأ) إحداث الثورة الثقافية، وإنجاز قضية التنوير المؤجلة منذ نهضة محمد علي، وذلك باحداث قطيعة مع بقايا مظاهر العصور الوسطى الاجتماعية والثقافية والفكرية، حيث كان ناصر يمكنه إنجاز تلك المهام التاريخية الهامة والملحة بما يملكه من رصيد نضالي كبير، وشعبية جماهيرية طاغية، ونزاهة واستقامة منقطعة النظير، وتأثير إيجابي كبير على المحيط العربي والإقليمي. وهو الأمر الذي يدحض التفسير السائد بأن النكسة كانت المسؤولة عن ظاهرة العودة إلى الإسلام السياسي أو المد الإسلامي الوهابي، وأنها كانت الجدار الذي انكسر فأخرج لنا المارد الإسلامي الوهابي من القمقم، فضلًا عما تستند إليه من قراءة خاطئة للحقبة التي سبقت النكسة ووضع الإسلام الوهابي فيها. كما أن هناك علاقة عضوية وثيقة بين أسلوب الحكم الذي سارت عليه ثورة 23 يوليو وبين انتشار التطرف والعنف الديني، ذلك لأن أسلوب الحكم هذا كان يتجه بطبيعته إلى أن يطبق على الشعب كله نفس القيم السلوكية المطبقة في الجيش ويميل إلى جعل العلاقة بين الحاكم والمحكوم أشبه بالعلاقة بين القائد وجنوده لا بين مواطنين أكفاء عقلاء متساويين، وهكذا كان المواطن الذي اتجه عهد الثورة إلى تشكيله هو المواطن المطيع الذي يمتنع قدر الإمكان عن التحليل والمناقشة والتفكير المستقل والذي يفكر له الزعماء والقواد وما عليه سوى التنفيذ. فهناك عنف بنائي أو تكويني يجمع بين تلك الرؤية الشمولية التسلطية وأساليب الجماعات الوهابية المتطرفة ويشكل أساسًا قويًا للجمع بينهما. ولذلك ظلت العوامل الموضوعية والذاتية باقية لتسمح بتكرار تجربة الإخوان المسلمين الكارثية مرة أخرى. فكان الإحياء الثاني لجماعة الإخوان المسلمين في مصر على أيدي سيد قطب (1906 – 1966) الذي حمل الفكر الوهابي التيمي الحنبلي، وأضاف إليه فكرًا لا يقل رجعية وظلامية واستبدادًا عن سابقيه، وهو فكر أبو الأعلى المودودي الذي تطابقت أفكاره وآراءه الفقهية مع الوهابية ولكن بصيغة عصرية كما أوضحنا سابقًا بشيء من التفصيل. وتجسدت آراء سيد قطب عن (الجاهلية الحديثة) في كتابية (معالم على الطريق) و (في ظلال القرآن)، وهي نقل حرفي عن نظرية (الحاكمية) لأبو الأعلى المودودي، دون أن ينسبها لصاحبها كعادتهم. ومن جانبه وافق المرشد العام حسن الهضيبي على كتاب سيد قطب، حيث أُرسل إليه من السجن وراجعه ملزمة ملزمة وأمر بطباعته. وفيه كفر سيد قطب كل المجتمعات فيما عدا ما أطلق عليه المجتمع الإسلامي. وبهذا خرج الإخوان من السجون بفكر سيد قطب الوهابي الإرهابي القائم على تكفير الحاكم وعامة الشعب، كما وجدوا في انتظارهم خارج السجون مجموعات موازية على قدر عالي من التنظيم ويعملون على نشر فكر الجماعة خارج السجون، وتمكنوا من اختراق الجيش والشرطة، وتجنيد عدد لا بأس به من شباب الجامعات خاصة في كليتي العلوم والهندسة اللتين يمكن لعناصرهما أن يتمكنوا من إعداد المتفجرات بأيسر الطرق. والتقت المجموعات المختلفة من الإخوان حول فكرة واحدة هي تكفير المجتمع ومن ثم استباحته واغتيال رموزه وتدمير منشآته. اتهم الإخوان أنفسهم أهم قيادات إحياء الجيل الثاني للإخوان، فاتهموا (عبد العزيز علي) الوزير السابق ورأس التنظيم الجديد بأنه على صلة مشبوهة بالأمريكيين، كما اتهموا زينب الغزالي (المرأة الحديدية) بأنها على صلة غامضة بالسعودية الوهابية، حيث تم تجنيد أعضاء التنظيم الجديد داخل السعودية عن طريقها، ولكن الهضيبي ساندهما ضد هذه الحملة واستطاع إطفاء نارها. واصلت السعودية الوهابية حربها الضروس ضد التجربة النهضوية التحديثية المصرية، المعادية للهيمنة الغربية على مصر والمنطقة، وكثفت المملكة تحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ماكشفته بوضوع وصراحة الوثائق الأمريكية المفرج عنها حديثًا والتي نشرنا أهمها، والتي تؤكد التعاون الوثيق بين الطرفين في حرب اليمن لإنهاك عبد الناصر، وسط هذه الظروف تحرك الإخوان المسلمون لإسقاط النظام بإنقلاب عسكري وإحداث قدر هائل من التخريب يشبه إلى حد كبير حريق القاهرة 1951، كما أشارت اعترافات المتهمين وكذلك ما كتبوه في مذكراتهم لاحقا، وأكدوا جميعا أن تمويل التنظيم كان يأتي من الخارج وخاصة من السعودية الوهابية.بل أن إحدى الوثائق الهامة للغاية والتي قمنا بنشرها أوضحت كيف حرضت السعودية بكل وضوح وصراحة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل على ضرب مصر وسوريا وما تبقى من فلطسن حتى يتم التخلص تمامًا من الدول العربية المتصدرة لحركة التحرر الوطني العربي والعالمي آنذاك، والتي كانت معادية في وجهة نظرهم للمصالح الأمريكية والغربية ووجود المملكة السعودية والملكيات العربية الرجعية التي لم يختلف أدوارهم عن دور رائدتهم السعودية الوهابية،وهو ما تم بالفعل بهزيمة 1967، وقد أوضحنا ذلك بالمستندات والوثائق التي صدرت عن أطراف الصارع وقتئذ والتي تم الإفراج عنها.
كان للسادات علاقة وثيقة بتنظيم الإخوان المسلمين حسب ما ذكره في كتابه (صفحات مجهولة)، كما كان عضوًا في تنظيم الحرس الحديدي الذي أنشأه الملك ليتجسس على رجال الجيش وللحفاظ على سلامته ولاغتيال معارضيه. ويشير السادات في مذكراته إلى صداقته الوثيقة بالملك فيصل منذ كان الأخير وليًا لعهد السعودية، وكان السادات يعمل سكرتيرًا للمؤتمر الإسلامي، ويقول السادات أنه ظل صديقًا للملك فيصل برغم حرب اليمن التي كانت مصر والسعودية خلالها في معسكرين متصارعين، وكان السادات هو المسؤول السياسي من الجانب المصري عن الثورة اليمنية. كما ربطت صداقة وثيقة بين السادات وكمال أدهم المشرف على المخابرات السعودية، وتوثقت هذه الصداقات خلال حرب اليمن. وهو أمر يثير الشكوك خاصة بعد أن نشرت جريدة (الواشنطن بوست) في عددها الصادر في 24 فبراير 1977 وعلى صفحتها الأولى خبر يقول: “أن كمال أدهم كان طوال الستينات يمد السادات بدخل ثايت”، ولم يصدر عن السادات أي تكذيب لهذا الخبر. واستطاع فيصل بعد أن خلف أخيه (الملك سعود) أن يساوم عبد الناصر في قضية اليمن نظير تعيين السادات نائبًا أوحد له حتى تنجح مفاوضات اليمن ووافق عبد الناصر على الفور، وكان هذا جزء من تكتيك اتبعه عبد الناصر بعد هزيمة 1967 بالجنوح ناحية اليمين لتقليل الخصومات الإقليمية، وخاصة المعسكر العربي. ومن الثابت أن السادات سعى لمصالحة مع الإخوان نهاية الستينات، وكان وقتها نائبًا لرئيس الجمهورية، ولكن باءت محاولته بالفشل بعد انكشاف أمره. ومنذ بداية عهد السادات في نوفمبر 1970 يزور كمال أدهم (مدير المخابرات السعودية) مصر ويلتقي السادات وينقل له نصائح الملك فيصل بضرورة خروج السوفييت من الصراع في الشرق الأوسط لكي يدخل الأمريكيون من أجل حل المشكلة القائمة. كما طلب الملك فيصل من السادات أن يفتح صفحة جديدة مع جماعة الإخوان المسلمين ويقابل وفدًا من قادتهم الذين كانوا يعيشون في السعودية عقب صراعهم مع عبد الناصر وأن ينسق معهم سياسيًا وإعلاميًا لتصفية الاتجاهات والأفكار الناصرية واليسارية على الساحة المصرية، أي نقل مصر من خانة اليسار كدولة تسير على طريق الاشتراكية وتسعى للنهوض والتقدم والعدالة الاجتماعية، إلى أقصى اليمين كدولة تابعة لدول مركز الرأسمالية العالمية وحارس على تحقيق مصالحها في مصر والمنطقة، أسوة واقتضاء بالسعودية الوهابية، وهو ما تم بالفعل. وفي مطلع عام 1971 حدث شيء لم يكن له سابقة في تاريخ الأزهر، ففي تلك السنة عقد الملك فيصل ما يكاد أن يكون اتفاقية مع شيخ الأزهر الشريف الأسبق الشيخ (عبد الحليم محمود)، وفي الاتصالات التي سبقت الاتفاق فإن الملك فيصل عرض على مشيخة الأزهر اعتمادات مالية ومساعدات تصل إلى مئة مليون دولارًا لكي يتولى الشيخ قيادة حملة دعوة ضد (الشيوعية والإلحاد)، وهي المبالغ التي دأبت الحكومة المصرية على الاستحواذ عليها مقابل استبدالها بعملة مصرية، واندفع الشيخ إلى برنامج إعلامي كبير، فهذا البرنامج كان الإطلالة الرسمية العلنية الأولى للوهابية لإحداث تغييرات في موازين القوى المحلية، وإبراز اليسار أو الشيوعية أو الماركسية مرادفًا للإلحاد. ثم ذهبت السعودية الوهابية إلى منحنى أكثر خطورة من إفساد الأزهر، وذلك حين قام الملك فيصل برعاية المصالح التاريخية بين السلطة المصرية ممثلة في السادات وبين الإخوان المسلمين. وتم ذلك اللقاء التاريخي في صيف عام 1971 في استراحة الرئاسة بجناكليس في الإسكندرية، في إطار من السرية المطلقة، حيث قال لهم السادات أنه يواجه نفس المشاكل التي قاسوا منها، ويشاركهم أهدافهم في مقاومة الإلحاد والشيوعية، وعرض عليهم استعداده لتسهيل عودتهم إلى النشاط العلني في مصر. ولإثبات جديته في تعهده لهم، وتأكيدا للتحالف الاستراتيجي بينهم، أقر السادات في دستور 1971 أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وأن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي من مصادر التشريع، كما تبنى شعار (دولة العلم والإيمان). وبعد انتصار السادات على مراكز القوى، ركز جهوده لمواجهة الحركة الطلابية المتصاعدة بقيادة اليسار بشقيه الناصري والماركسي، التي انتفضت مطالبة بتحرير الأرض، حيث كانت الحركة الطلابية اليسارية صداعا في رأس السادات، وصل هذا الصداع إلى ذروته مع اعصام (الكعكة الحجرية) الشهير في ميدان التحرير عام 1972 الذي قاده اليسار والمثقفين وكان له صدى واسع عالميًا. ومنذ ذلك اليوم اعتقد السادات واهمًا أن الخطر الحقيقي على نظام حكمه يأتي من اليساريين والشيوعيين والناصريين خاصة الطلاب منهم، لأنهم يسطرون على الجامعات عن طريق الاتحادات الطلابية. وعلى الفور اجتمع السادات مع مرشد الإخوان السجين حسن الهضيبي، وسرعان ما تم الإفراج عن الهضيبي وعن قيادات ورموز بارزة في حركة الإخوان، وتمت الصفقة التي يبحث كل طرف من أطرافها عن مصلحة خاصة به، السادات يراوده كيفية مساعدة الإخوان له في مواجهة الحركة الطلابية اليسارية المعارضة علاوة على إرضاء حلفاءه الوهابيين والأمريكان الذين أوصلوه إلى سدة الحكم، والإخوان يبحثون عن أمل لبعثهم من جديد، واقترن هذا بعودة أعداد غفيرة من الخارج الذين حققوا ثروات في بلدان المهجر، ليضيفوا إليها قوة اقتصادية طاغية، ثم لتبدأ ثانية في تنظيم شُعبها على مستوى المحافظات. كما قرر السادات إنشاء تيار ديني بين طلاب الجامعات تكون مهمته ضرب اليسار، وأعطى لمحمد عثمان إسماعيل (محافظ أسيوط وقتها) صلاحيات مطلقة لتنفيذ هدفين: الأول خلق تيار إسلامي يوازي الاتجاه اليساري في المجتمع ككل، والثاني أن يكون هذا الشباب أداة لضرب الطلبة اليساريين داخل الجامعات. وبدوره استقطب إسماعيل في البداية مجموعات من شباب (جمعية أنصار السنة) و(الجمعية الشرعية) و(جماعة التبليغ والدعوة)، وتم إنشاء تنظيم جديد باسم (شباب الإسلام) بجامعة القاهرة وجامعات أخرى، وقد بدأ التنظيم بمساعدة صريحة من الأمن واستخدامه لمواجهة وتصفية الجماعات اليسارية. بدأ تنظيم (شباب الإسلام) الوهابي الفكر والمنهج بالقيام بالعديد من الأنشطة داخل الجامعة من معسكرات صيفية وتنظيم لرحلات الحج والعمرة وذلك بتمويل مباشر من الدولة. وعملت جماعة (شباب الإسلام) على تغيير بعض أنماط الحياة بالجامعات مثل تغيير البرنامج الدراسي ودعوة الطلاب إلى الاشتراك في الأنشطة ودروس القرآن والحديث وفرضت وقف المحاضرات والأنشطة الأخرى في أوقات الصلاة والفصل بين الجنسين في قاعات المحاضرات ومنعت إقامة الحفلات الموسيقية والفنية وأي صور أخرى للهو داخل الجامعات. ومثلت هذه الندوات الخطوة الأولى للاجتياح الوهابي للأمة المصرية، وكان يجب أن يعقبها خطوات أخرى في اتجاه الوهبنة، وبالتالي تم الدفع ببعض كوادر الوهابيين وهم من قام باقتراح دعوة بعض الشيوخ من خارج الأزهر أمثال الشيخ مصطفى درويش والشيخ عبد الله السماوي والشيخ محمد السويفي وغيرهم من دعاة الإخوان الوهابيين، وخلال عامين من 72 – 74 استطاعت هذه الكوادر أن تغير بعض المفاهيم التي كانت تسيطر على توجه الندوة مثل الطرق الصوفية ومفهوم الالتزام بالسلام لدى الشباب وخاصة الفتيات اللاتي كن يلبسن الملابس القصيرة ويظهرن شعورهن ويحضرن هذه الندوات فانتشر الحجاب وظهرت اللحى بين الشباب وارتفع الآذان الوهابي في كل مكان بالجامعة، كما سيطروا على منابر المساجد الكبرى في مختلف المحافظات. وكانت التعليمات لرؤساء الجامعات والمحافظين بتيسير كافة أمورهم داخل الجامعات وخارجها. واقترن هذا الاجتياح الوهابي مع بداية ظهور جماعات جديدة أكثر تطرفا تحت مسميات أخرى. وتطورت الأمور لكي تصبح هذه الجماعات هي أداة هذه التنظيمات على المستوى القاعدي في الجامعات وخارجها في القاهرة وباقي المحافظات. ومنذ بداية حكمه وضع السادات العديد من فئات المجتمع المصري في خط المواجهة ضده، ومنهم الكنيسة والبابا شنودة مما خلق علاقة متوترة مع المسيحيين، فكان الإفراج عن الجماعات الوهابية الراديكالية وإعطائهم الفرصة وعودتهم مرة أخرى للحياة السياسية والساحة، أحد أهم أسباب الفتن الطائفية في عهد السادات، وما لبث أن انقلب السادات على المشروع المصري النهضوي، الذي أُسس على التنمية المستقلة، والعدالة الاجتماعية، واستقلال القرار الوطني، والسعي الدؤوب للحاق بحضارة العصر الحديث رغم الصعوبات والتحديات الهائلة. فكانت سياسات الانفتاح الاقتصادي غير المدروس والمقترن بالفساد على كافة المستويات، وارتكاب العديد من السياسات التابعة، الاقتصادية والسياسية بل والثقافية (الوهابية)، التي أدت في مجملها إلى سحق الطبقة الوسطى المصرية (العمود الفقري للمجتمع)، والتجريف الفكري والثقافي والأدبي والفني والعلمي، ووقوع المجتمع فريسة للأصولية الدينية الوهابية التي تميل للإقصاء والتكفير، ناهيك عن مناخ دولي في السبعينات مدعوم من صعود دور السعودية الوهابية بعد زيادة ثرواتها من النفط بشكل هائل، ساعد على صعود أكبر للإسلام الوهابي. وانعكس ذلك على موقف الطبقة الوسطى الفكري فتحولت إلى الاتجاهات المحافظة وساندت الجمود بل والارتداد إلى الماضي. وكانت هجرة المصريين إلى السعودية للعمل قد اخذت بعدًا جديدًا أخذ يتصاعد تأثيره بانبهار الطبقات الكادحة بالثراء السعودي وربطه (بتقوى) سكان الجزيرة العربية كما صوره مشايخ الوهابية. ومع إطلاق سياسة الانفتاح الاقتصادي عاد الكثير من إخوان المهجر إلى مصر، ووجدوا أمامهم فرص ضخمة لاستثمار مدخراتهم. وتحول العمود الفقري للجماعة من الطبقة الوسطى الحديثة قبل الحقبة الناصرية إلى رجال أعمال ذوي صلات وطيدة بالنظام السعودي. وأعاد الإخوان إصدار مجلة الدعوة التي تميزت بمواقف شديدة الرجعية والابتعاد التام عن نقد النظام الاجتماعي والاقتصادي في مصر.
وبينما كان السادات يسعى إلى توظيف الوهابيين لضرب خصومه السياسيين والمثقفين في حركة كارثية في حق الأمة المصرية، كان التلمساني (مرشد الإخوان) من جانبه يخدع السادات، ويعقد صفقة تاريخية في سرية تامة مع (الجماعة الإسلامية) التي انتشرت بشكل مرعب في ربوع مصر، وهو التحالف الذي لم يُعلن عنه رسميا إلا عام 1979، بعد أن سيطرت الجماعات الإسلامية على اتحادات الطلاب. واقترن هذا السواد الوهابي الذي غطى وجه مصر بالاستبداد السياسي المستتر بديكور ديمقراطي، حيث تزايد فصل أعضاء مجلس النواب واضطهاد وتشريد المثقفين. واستمر فتح الباب على مصراعيه للوهابية التكفيرية، وكان موقف الوهابيين قد تجاوز التقابل التقليدي بين الغرب المستعمر والصليبية ليتضمن هجومًا على الأقباط وتحريضًا صريحًا ضدهم، واستمر معه بالضرورة مسلسل الفتنة الطائفية. وفي عام 1975 صدرت (اللائحة التنفيذية) لقانون الأزهر رقم 103 لسنة 1961، وذلك بقرار جمهوري رقم 250 لسنة 1975، التي حولت مجمع البحوث الإسلامية إلى جهة تصادر الكتب وتقف لحرية الفكر بالمرصاد، ومحكمة تفتيش لكل كتاب يتعرض للشأن الإسلامي ولو في بضعة أسطر. وتكتمل منظومة التبعية بالتحالفات الاستخباراتية مثل (نادي السفاري) 1976، بين عملاء أمريكا في الإقليم، مصر وإيران والسعودية والمغرب وفرنسا، الذي هدف إلى اجهاض الانتفاضات الشعبية ودعم الحكومات العميلة في للغرب والولايات المتحدة في إفريقيا بحجة محاربة المد الشيوعي. كما أدت سياسات الانفتاح الاقتصادي إلى زيادة الإفقار للطبقات الكادحة التي خرجت في انتفاضة 1977،التي أدانها الإسلام الوهابي بقوة كما أوضحنا سابقا. إلا أن الغضبة لم تدفع السادات إلى العودة إلى وعيه، بل زادت من ابتعاده عن عموم شعبه، ومن المؤكد أن السادات بعد تلك الأحداث، لم يعد كما كان قبلها، فكان أهم تأثيرات الانتفاضة عليه دفعه إلى سير لارجعة فيه، في طريق التحالف مع الأمريكان والإسرائيليين والوهابيين، بكل ما تطلبه ذلك من تنازلات وتفريط في الأمن القومي المصري بل ومستقبل الوطن ذاته. وبعد الفشل الزريع لسياسات السادات الاقتصادية العشوائية والتابعة، وقراراته السياسية الغوغائية، فقد ماتبقى من رصيده السياسي في الشارع المصري باتفاقية السلام المنفردة والمهينة والمذلة مع إسرائيل، والتي افقدته شرعيته هو ونظامة بتفريطه في الأمن القومي المصري والسيادة المصرية الكاملة على أراضيها في سيناء،فانفجرت حركات المعارضة الشعبية والرفض العارم في الشارع المصري لزيارة السادات للقدس رغم التضليل الإعلامي الهائل الذي مارسه النظام. هنا تمرد عليه ربيبه السرطاني متمثلًا في الإسلام الوهابي بكل فصائله،بعد أن تأكد أن السادات أصبح (كارتًا محروقًا) لدى حلفائهما وأصدقائهما الرجعيين والاستعماريين، فقاموا برفض اتفاقيات كامب ديفيد، ولكن من منظور ديني فقط وليس من منظور سياسي وتاريخي وحضاري واستعماري، وذلك للتعتيم على الطبيعة الاستعمارية للكيان الصهيوني والدوافع الحقيقية لخلق هذا الكيان في تلك المنطقة والمهام الحقيقية الموكلة إلى هذا الكيان الاستعماري، باعتبار الكيان الصهيوني رأس حربة للوجه الاستعماري للرأسمالية العالمية. وذلك خوفا من لفت الأنظار إلى الدور المنطوط بالتيار الوهابي وهو دور موازي ومكمل للدور الذي يقوم به الكيان الصهيوني، وهو إعاقة ومحاربة القوى المدنية الليبرالية والتقدمية والمستنيرة، وإعاقة إنجاز قضيتي التنوير والثورة الثقافية باعتبارهما مهمة تاريخية ملحة للشعوب النامية لاستكمال نهوضها واللحاق بحضارة العصر الحديث. وجميعها ممارسات تتكامل مع الأهداف الحقيقية للوجه الاسعماري للغرب المتمثلة في تطويع حكام دول المنطقة وإخضاعها لهيمنة دول مركز الرأسمالية العالمية، وذلك لضمان السيطرة على الأسواق والاستيلاء على المواد الخام وخاصة البترول بأسعار زهيدة للغاية. ولكن الوهابيون عززوا رفضهم لاتفاقيات كامب ديفيد من منطلقات دينية إسلامية فقط،وجعلوا من هذا الاتفاق حرامًا ومحرمًا وشرحت الأحاديث النبوية والآيات القرآنية وكل الروايات عن مواقف الصحابة والتابعين، لقد تم التحريم لدرجة أن الوقوف في مساحة الاتفاقات التي أبرمها السادات يكون محرمًا وكفرًا وتحت طائلة إقامة الحد على السادات نفسه، ومن هذا المنطلق هاجمت (مجلة الدعوة) الاتفاقية، مما تسبب في حرج وضيق شديدين للسادات خاصة أن الاتفاق بينه وبين التلمساني لم يكن ينص على معارضة سياسات السادات علنًا.كما سلحت الثورةالإيرانيةالفكرالسياسيالشيعيبمفاهيمفقهيةجديدةحولأهميةالعملالسياسيالهادفإلىاستلامسلطةالدولةمنخلالنقلفكرةعودة(الإمامالمنتظر)السلبيةإلىالتحركالسياسيالفاعلنحواستلامالسلطةوكالةعنالإمامالغائب (ولايةالفقيه).وقد أحدث هذا التحول الفقهي الذي وضع الإمام الخميني ركائزه الفقهية حراكًا فقهيًا كبيرًا في الفكر السياسي الشيعيجرت ترجمته عبر رفض الشيعة لآليات الإقصاء التاريخي المفروض عليهم،علاوة عن أن التغيرات الفقهية في الفكر السياسي الشيعي تزامنت وتغيرات هامة في الفكر السنيالوهابي بعد الغزو السوفيتي لأفغانستان من على قاعدة محاربة (الفكر الإلحادي الوافد) ناهيك عن محاربة (المحتلين) خلال إغناء مفهوم الجهاد الإسلامي وترصينه فقهيًا، وبذلك ساعدت التغيرات الفقهية في الفكر السياسي فصائل الإسلامالسياسي الوهابيعلىترسيخ نشاطها السياسي على قواعد شرعية دينية أيديولوجية. وكان ما يُسمى (مقاومة المجاهدين) للاحتلال السوفيتي لأفغانستان هو المجال الحيوي الأكبر لتبني أمريكا والغرب للجماعات الوهابية الإرهابية، والمعروف تاريخيًا أن لا الرئيس السادات ولا الملك فهد ولا الرئيس الباكستاني وقتها (ضياء الحق)، كان له القرار أو كلمة الفصل في اختيار سبيل مواجهة السوفييت في أفغانستان، وإنما كان الأمر اختيارًا أمريكيًا خالصًا قاده الرئيس الأمريكي جيمي كارتر برؤية مستشاره للأمن القومي(بريجنيسكي) التي قامت على فكرة استنفار القوى الإسلامية في العالم كله ضد السوفييت بتكوين تحالف إسلامي واسع يتحمل عبء مقاومة السوفييت في أفغانستان، وإلى القاهرة جاء بريجنيسكي لتنفيذ رؤيته مع السادات، ولم يجد أي صعوبة في تسييد الرؤية الأمريكية، فقد كان نظام السادات ونهجه منفذًا أمينًا وأرضًا خصبة لكل ما تفعله أمريكا في المنطقة.وهكذا كانت (هندسة أمريكا) للسادات في التعامل مع الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، ودارت العجلة ليس بفضل رؤية السادات، وإنما تنفيذًا للمخطط الأمريكى، وبذلك أعطى السادات للجماعات الوهابية مشروعية سياسية تغطت بها، فتحولت منابر المساجد والزوايا في أرجاء مصر إلى أماكن يتبارى الشيوخ الوهابيون فيها على الدعوة إلى الانضمام لـ(الجهاد الأفغاني)، وتحولت ساحات الجامعات وقاعات المحاضرات إلى نفس الغرض، إضافة إلى ممارسات أخرى جعلت من قضية أفغانستان حديث كل بيت في مصر، وبالطبع تراجعت القضية الفلسطينية، وأصبح الحديث عن العاصمة الأفغانية (كابل) أهم بمراحل من الحديث عن (القدس)و(المسجد الأقصى)، وازدحمت الجامعات بمعارض الصور والكتب التي ملأت العقول بالخرافات، مثل تدمير دبابة سوفيتية بحفنة من التراب، وأخرى بغصن شجرة، وثالثة بمجرد الدعاء، وكان ذلك بمثابة عملية تمهيد لتجريف العقل المصري بامتياز، وإعادته إلى العصور الوسطى تحت سمع وبصر نظام السادات وبتشجيع منه. ومثّل الجهاد في أفغانستان مرحلة مهمة في تطور الجماعات الوهابية، فقد شارك في الجهاد آلاف الأشخاص من عدة دول عربية، إلا أن الحرب خلفت مجموعة كبيرة من الأشخاص المدربين على القتال والذين يحملون أفكارًا متطرفة عادوا بها إلى بلادهم. ويمكننا رصد ثلاثة مجالات رئيسية شكلت العمود الفقري للمد الإسلامي منذ السبعينات، وهي المساجد الأهلية، والمؤسسات والجمعيات الخيرية الإسلامية (الخدمية والثقافية والصحية والتعليمية)، والمؤسسات الرأسمالية الإسلامية (البنوك والشركات والمطابع… الخ).تزامن هذا السواد الحالك وتلك الظلامية المهلكة نتيجة لاجتياح السرطان الوهابي للأمة المصرية، تزامن مع فضائح الفساد الكبرى التي طارت في الأفق للسادات وأسرته ونظامه. وتم توظيف نمط التدين الوهابي الصحراوي وهو نوع من الإسلام الشكلي الذي يتميز بالانشغال بقشور الدين وطقوسه دون مضامينه،وهو إسلام اللحى والجلباب القصير وتوقف العمل في مواعيد الصلاة ومنع الاختلاط والتحريمات والمخاوف اللامتناهية، فالإسلام الصحراوي يقوم بعملية فصل تام بين الدين وحياة الناس الفعلية وبين الايمان ومشاكل الفرد أو المجتمع، ويبعد أذهان الشعوب التي تدين به عن المشاكل الداخلية والخارجية لمجتمعاتها ولا يمس أطماع الدول الرأسمالية الكبرى في ثرواتهم. وظل الوهابيون يعتقدون أنه بمجرد الإعلان عن تطبيق حكم الشريعة في بلد ستتغير الأوضاع بين عشية وضحاها ولا يدركون طبيعة التعقيدات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمعات المعاصرة، وطُرحت العديد من الحجج للترويج لرؤيتهم ورسالتهم،مثل صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، والصورة المثالية للعصور الإسلامية القديمة، وقُدمت حججا عقلية لتفنيد رؤية الوهابيين في تلك القضايا. وهكذا نجد أن السادات هو من وضع أسس الخراب والاضمحلال الحضاري التاريخي للأمة المصرية، بعد أن كانت تسعى جاهدة للحاق بحضارة العصر الحديث رغم الصعوبات التحديات الهائلة، ولكنها لم تعدم الطرق والوسائل التي تمكنها من تحقيق إنجازات على طريق التقدم والتطور، لتجد الأمة المصرية طريق الانحدار المتواصل وسط توسيع الفجوة الحضارية بين الأمة المصرية والحضارة الإنسانية الحديثة، والتي تزداد كل يوم، وتمهد الطريق لمرحلة الهيمنة الفكرية الوهابية على الأمة المصرية. ولذلك فإن عصر السادات زرع ألغامًا أمام العقل المصري، ووضع إطارًا دينيًا للتيار الوهابي الطامح للحكم كي يتهم خصومه السياسيين بالكفر بحجة إنكار تطبيق الشريعة، وقُدر لهذه الألغام أن تنفجر في وجه السادات نفسه وأدت إلى مقتله، حين اتهمه التيار السلفي بالكفر، وتوالى انفجار الألغام حتى يومنا هذا.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك