الجمعة - الموافق 19 أبريل 2024م

 (3) فجر التاريخ “الدولة الفرعونية القديمة 1-3” بقلم الكاتب والباحث: محمد السني

Spread the love

 

 

أوضحنا سابقًا كيف كان الاستقلال الوطني بمفهومه التقدمي، هدفًا أساسيًا من أهداف الثورة المصرية (25-30)، وذلك في مقالتنا

الأولى بعنوان “الثورة والاستقلال الوطني”، ثم تطرقنا إلى مرحلة نشأة الأسرات الفرعونية، التي توافقت مرحلتها الحقيقية مع الطور الأثري المعروف “النقادا الثالثة”، والتي تعرف أحيانًا باسم “الأسرة صفر”، أو عصر ما قبل الأسرات المتأخر، وتميز عصر نشأة الأسرات بميزتين، أولهما أن ذلك العصر هو الذي بدأ فيه المصري مرحلة التوحيد السياسي، وثانيهما أنه العصر الذي بدأت فيه عملية تدوين اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية). كما يوجد دلائل أثرية قوية على امتداد الوجود المصري في ذلك العصر إلي جنوب فلسطين، فيما عرف بالمستعمرات، أو المستودعات التجارية. حيث بدأ تكوين الدولة أثناء تلك الحقبة، وربما قبل ذلك، وظهرت الكثير من المدن الدولة في تلك الفترة على جانبي نهر النيل، ولكنها تقلصت على مر القرون إلى ثلاث مدن كبرى في صعيد مصر، هم ثينيس، ونخن، ونقادا، ثم دخلت مدينة نخن تحت حكم أسرة ثينيس، بعدها سعت مملكة الصعيد إلى تحقيق الوحدة مع مملكة الدلتا، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، خاضت حروبًا قاسية، تُوجت بالوحدة بين المملكتين، ويعد دبوس الملك العقرب وصلاية الملك نارمر من أهم الآثار التي تدل رسومها على الحروب التي دارت بين الطرفين، فالملك العقرب حارب أهل الشمال وانتصر عليهم، ولكن نارمر هو الذي حقق الوحدة بين القطرين بدليل تتويجه بتاج الصعيد الأبيض والشمال الأحمر. وفي حقيقة الأمر فإن توحيد مصر الذي استهل المرحلة التاريخية لا يعد خضوع إحدى الممالك القائمة لمملكة أخرى بل هو توسع لدولة مكتملة راسخة البنيان بالفعل، وقد أسست مدينة منف عند رأس الدلتا حتى تتيسر الهيمنة على كافة أنحاء البلاد التي ضُمت حديثًا. ومهدت مرحلة نشأة الأسرات الطريق لولادة حضارة من أعرق الحضارات في العالم القديم وهي الحضارة الفرعونية، باعتبارها حجر الأساس ومركز الارتكاز للحضارة الإنسانية.

قسم المؤرخون العصر الفرعوني إلى ثلاثين أسرة حاكمة (ما بين 3200 ق.م تقريبًا حتى 332 ق.م)، بدأت بعصرالأسر المبكرة (3200 – 2780)، والتي تقع مابين عصر نشأة الأسرات وحلول الدولة القديمة. وقد أصبح نارمر (مينا) أول ملك في عصر الأسر الفرعونية المبكرة، والذي تكون من الأسرتين الأولى والثانية، كما يُطلق عليه الباحثون اسم العصر العتيق، أو العصر الثيني نسبة إلى مدينة ثنى الواقعة على مقربة من أبيدوس في مصر العليا والتي كانت الموطن الأصلي الأول لملوك هذا العصر، وقد فكر الملك مينا في اختيار موقعة يستطيع أن يحكم منها مصر، فقام بإنشاء قلعة محاطة بسور أبيض وأسماها (من – نفر) وتعنى الميناء الجميل، والتي أصبحت فيما بعد عاصمة لمصر في عصر الدولة القديمة، ثم أسماها الإغريق بعد ذلك ممفيس، ثم أطلق عليها العرب عند غزو مصر منف. ومن أهم آثار هذا العصر “المصاطب” إذ بنى كل ملك من ملوك الأسرة الأولى مصطبتين واحدة في الشمال والأخرى في الجنوب لتكون إحداهما (ربما الشمالية) مقبرة للملك.

شكل ملوك الأسرة الأولى الفرعونية (3200 – 3000 ق.م) تسعة ملوك، أشهرهم الملك “دن” الذي عاق قطاع الطرق الذين كانوا يغيرون على سكان الدلتا الغربية، وهو أول ملك فكر في تنظيم مياه النيل وفيضانه في منطقة الفيوم، وكان أول من حبس الأوقاف على المعابد، وقد دفن في العرابة المدفونة في مقبرة كُسيت أرضيتها بقطع من الجرانيت، وهو أول ملك ذُكر قبل اسمه لقب “نيسوت – بيتي” ويعني بذلك ملك الوجه القبلي والبحري. وصور في حجر مرتديًا التاج الأبيض رمز الوجه القبلي، ثم مرتديًا التاج الأحمر رمز الوجه البحري. وقد كشف في سقارة عن مقبرة لوزيره حماكا بها أقراص من الحجر والنحاس والخشب والعاج ومحلاة بمناظر بديعة وبعضها مطعم بقطع من المرمر. فضلًا عن أنه إبان عصر الملك “دن” ظهرت بوادر تطور ملموس في مظاهر التقدم الفكري قد تكون انعكاس لظاهرة الإصلاح السياسي. وفي حكم الملك عزايب، ابن الملك دن نفذت لأول مرة عملية الإحصاء في التاريخ المصري. كما احتفل بعض الملوك في الأسرة الأولى بعيد (الحب – سد) أي العيد الثلاثيني للحكم. ويبدو أن ملكة تدعى “مرت نيت” اغتصبت منصب الوصاية على العرش، ولا شك أن هذا الفعل قوبل بالإعتراض والرفض. ويتضح ذلك من محو وكشط اسم هذه الملكة واسم “عنخ إيب” من على أوانيهما التي عثر عليها في مقبرة “سمرخت”. ومن المحتمل أن تكون المنازعات السياسية هي التي أدت إلى ظهور أسرة حاكمة جديدة، ألا وهي الأسرة الثانية، ولقد تم هذا التغيير في إطار من العنف، والدليل على ذلك ما لحق بمقابر الأسرة الأولى من سلب ونهب وتدمير في ذلك الوقت. وتكونت الأسرة الفرعونية الثانية حسب ما جاء في “حجر باليرمو”، من ثمانية ملوك، كان أولهم هو الملك “حتب سخم وى”. وأتى بعده الملك كاكاو الذي دعى إلى عبادة العجل أبيس في منف والعجل منفيس في عين شمس، وعبادة الكبش في منديس. وفي عهد خلفه “بر إب سن” حدث انقلاب عظيم في عين شمس، وذلك أنه أعاد عاصمة الملك ثانية إلى العرابة المدفونة وغير اسمه الحوري إلى الإله ست، وقد ختمت هذه الأسرة بالملك “خع سخم وى” الذي رجع إلى السياسة الحورية. وبالرغم من أن مانيتو يذكر أن العاصمة ظلت في ثينيس، مثلما كان الحال في الأسرة الأولى، فإن على الأقل الملوك الثلاثة الأوائل من الأسرة مدفونون في سقارة، مما قد يدل على أن مركز الثقل السياسي قد انتقل إلى منف.

وفيما عدا التحول والتغيير السياسي الذي حدث لمصر فإنها تعد خلال الأسرتين الأولتين دولة راسخة التنظيم حول شخصية الفرعون. وكانت عمليات جمع وإعداد وتسويق المواد الاستهلاكية تتم من خلال عدة مؤسسات، مثل إدارة مخازن الغلال، والخزينة (الخاصة بالمواد المصنعة)، والمصانع الملكية المنتجة للنبيذ والزيوت التي يشرف علهيا موظف مسؤول لمراجعة تاريخ الإنتاج وتطابقها مع المواصفات المطلوبة، كذلك إعداد بيانات نصف سنوية لإحصاء كميات الذهب والأراضي الزراعية، وفقًا لعادات لا شك أنها سباقة للفترة التاريخية التي كان الملك يقوم فيها بصفة دورية بتحصيل الضرائب متجولًا في سائر الأقاليم. ويلاحظ أن منطقة مصر السفلى بصفة خاصة كان يديرها موظفون يحملون أختامًا يسمون “بحاملي أختام ملك الشمال”. وللحصول على بعض المواد الثمينة غير الموجودة في وادي النيل (كالذهب وأخشاب البناء) كان يتم إرسال حملات اقتصادية حربية (إلى مناجم ومحاجر الصحاري)، وعقد علاقات تجارية (مع مدينة جبيل)، ولذلك أصبح لزامًا على الجيش أن يعمل باستمرار على تأمين الحدود من هجمات الليبيين والبدو الآسيويين أو العشائر النوبية. وكانت توفر للفرعون ضروريات العناية الشخصية لارتباطها بكيانه الذاتي، وكان العديد منها يكرس من أجل فرعون واحد. وكان لهذا التنظيم المدني نظيرًا رمزيًا داخل نظام أيديولوجي متقن الإعداد، كان الفرعون بمثابة محوره الأساسي إذ يمثل القوى العظمى التي ينتظم العالم ويدور من حولها، ولذا فإن كيانه الشخصي، بل إن كافة الأدوات والأشخاص المتصلة به اتصالًا قريبًا كان ينالها نصيب من تلك القوى. وتعد مؤسسات الدولة إلى حد ما بمثابة أماكن خاصة بخدمة الفرعون، ويقوم العاملون بها بالعناية بأحد مظاهره المتعددة. وتفسر الأحداث التي تمر بالمجتمع، وتعلن من خلال موسوعة خاصة بالعمال الملكية ومدونة بحوليات محددة لكل عام أهميته، وإقامة التماثيل، وتشييد المعابد من أجل الآلهة، ومزاولة الإحتفالات الملكية واعياد اليوبيل، والجري حول الجدران، وقمع الثورات، والانتصار على العشائر المجاورة. ولم تكن المصادر التاريخية اللازمة للمجال الإداري ترتكز على الوضع الرقمي لسنوات الحكم، بل كانت ترتكز على تمييز هذه السنوات من خلال الأحداث الرئيسية التي مرت بها. وبالطبع فإن هذا التقنين الأيدولوجي كان مفتوحًا على مصراعيه، ولذلك نجد أن مراسم الفراعنة (المكونة من مجموع أسمائهم المختلفة ومظاهر صورهم) قد استمرت في تطور دائمًا أبدًا. ومن ناحية أخرى وبالرغم من أن الوثائق المعاصرة لم تكن تقتصر على النصوص المقتضبة ذات الطابع الرسمي، فإن بعض الدلائل توحي بظهور الأدب الديني والسحر الطبي منذ العصر الثيني بفضل تشجيع الفراعنة وتأثيرهم. واحتفظ هذا العصر في الوقت نفسه في مراحله الأولى على الأقل ببعض العلامات والعادات العريقة القدم. ولعل أوضح مثال على ذلك أنه في جنازة أحد كبار الشخصيات قُتل رفاقه ليصاحبوه في مقبرته. كما شجعت الحاشية الفرعونية في الأسرة المصرية الأولى الفنون والصناعات المختلفة، ولم يكتف المصريون بصناعة الآلات والأواني من الحجر والعظم والعاج والفخار والخشب بدقتهم المعروفة، كما كان في عصر ما قبل الاسرات. بل تخطوا ذلك إلى صناعة آلاتهم من المعادن والأحجار الكريمة وشبه الكريمة بمهارة فائقة. وكذلك نجد أن أعمال النقش والنحت والتلوين عظيمة. ونشاهد منذ بداية هذا العصر التاريخي ظهور فن الطب وجمع المتون الدينية وتأليفها. وظهرت مهارة المهندسين المعماريين في تشييد المقابر الملكية وظهر استخدام الأحجار الجيرية والجرانيتية في البناء.

أُطلق على الأسرات التي تلت “عصر الأسرات المبكرة”، اسم “الدولة القديمة” وكان من أوائل حكام هذة الفترة الملك زوسر صاحب المجموعة الهرمية بسقارة (الهرم المدرج). ويطلق المؤرخون على عصر الدولة القديمة اسم “عصر بناة الأهرام”، إشارة إلى تلك الأهرامات الضخمة التى بنيت فى بطن الصحراء عن شمال الوادي، من إقليم الفيوم جنوبًا إلى الجيزة شمالًا. وترجع الفكرة فى بناء الأهرامات إلى اعتقاد المصريين القدماء فى خلود الروح، وإلى اعتقادهم فى البعث مرة أخرى وبوجود حياة أبدية. ولهذا بنى المصريون القدماء مقبرة حصينة توضع فيها الجثة بعد تحنيطها، وتزود بمجموعة كاملة من حاجيات الميت كالأدوات وقطع الأثاث وأنواع الأطعمة والشراب التى كان يستعملها فى حياته، حتى إذا ما جاءت الروح وحلت في الجثة، عاد الإنسان إلى حياته الأبدية. ونقشت جدران المقبرة بالمناظر المعتادة، لتدخل السرور على الميت. وما يميز هذه الدولة أنها كانت تتمتع بتنظيم على مستوى فائق من الدقة، يهيمن بشكل منهجي على الممتلكات والرعايا في البلاد، وقادر على تأمين الحدود، وتموين البلاد بالسلع المستوردة. وبذلك نجحت أجهزة الدولة بفضل فاعليتها في اجتذاب العديد من المواد وتعبئة الجهود الكافية، لكي يتمكن الفراعنة من إقامة هذه المنشآت الضخمة، ونعني بذلك الأهرام ومجموعاتها الملحقة بها، وبقدر ما تكلفته من مواد، وما بذل في بنائها من جهود، تحددت درجة مقدرة النظام القائم، وتكونت الدولة القديمة من عدد أربع أسرات (من الأسرة الثالثة حتي نهاية الأسرة السادسة)، وحكمت هذه الدولة حوالي من 2780 ق.م الي 2230 ق.م. وتطورت الحضارة المصرية تطورًا سريعًا في عهد الدولة القديمة. فزادت قوتها عن طريق الحكومة المركزية والإدارة الفاعلة والتقنية المتقدمة والكتابة الهيروغليفية المتطورة والفن الناهض. وخلال هذه الدولة استقر الفرعون في مدينة منف العاصمة، حيث كان يهيمن على مصر الموحدة، التي كانت تُعد مركزًا للعالم الذي يضم بعض مناطق بدأت تدخل في نطاق الحركة المصرية ولكن بدرجات متفاوتة، مثل واحة الداخلة التي أُدمجت في النطاق الاقتصادي والاجتماعي للبلاد. كما استغلت مناجم شبه جزيرة سيناء بشكل منتظم بواسطة حملات ذات طابع متخصص أكثر منه عسكري. وتم احتواء النوبة وتوثقت الروابط والاتصالات مع الجنوب ليس فقط مع الوكالة التجارية التقليدية في بلاد بونت ولكن مع إمارات دنقلة. وأخيرا ظلت جبيل والساحل اللبناني بمثابة شركاء تجاريين على درجة كبيرة من الأهمية.

بسبب ثروة مصر ونمائها، واكتفائها الذاتي من الموارد الطبيعية الأساسية اللازمة للحياة والحضارة، وتوفر كافة عوامل التقدم والتطور آنذاك من مناخ وماء وتربة مثاليين، إضافة على أنه لم تكن تشكلت الامبراطوريات الشرق بعد، لذا لم تكن هناك سياسة توسعية في آسيا وغيرها، حيث كانت مصر في ذلك الوقت الدولة الأكبر والأقوى في نطاق العالم القديم، ولا يوجد لها جيران أقوياء وأنداد يهددون مصالحها الاستراتيجية، أو يهددون كيانها الراسخ بحكم التفرد، واستطاعت مصر خلال تلك الفترة الحد من نزوح الأجناس المحيطة بمصر، مما أدى إلى تشكل الشخصية المصرية المميزة، ونتيجة لتلك الأسباب تمتعت مصر باستقلال تام منقطع النظير، كان بدوره عامل أساسيًا لتواصل الحضارة المصرية دون إنقطاع لأكثر من 1000 عام، وفي حقيقة الأمر كان الفرعون يهتم أساسًا بتنظيم الأمور الداخلية للبلاد، معتمدًا في ذلك على طبقة من علية القوم، وعلى وزيره، وكبار الموظفين أو المسؤولين المحليين الذين كان يقوم بتعيينهم ومكافأتهم بعطاياه المشتملة غالبًا على جزء من المراسيم الكهنوتية الجنائزية الملكية، والمكافآت العينية، أو في هيئة خدمات متعلقة بالحرفيين الملكيين من أجل تشييد الآثار الجنائزية الخاصة بهم. وكان هؤلاء الموظفون الكبار يقومون بالإشراف على هيئة ضخمة من الموظفين والإداريين الذين يملكون كافة الوسائل الفنية الخاصة بالكتابة، كما يقومون بتقدير وتسجيل وإحصاء وتنظيم الإنتاج، وإدارة القوى العاملة. وهذا التنظيم الاجتماعي – الاقتصادي نفسه كان يؤيده نظام أيديولوجي متمركز بالطبع حول الفرعون الذي كان هو المالك الأساسي للأراضي والموارد. كما أن مختلف قطاعات الأنشطة كانت تتطابق مع تعدد مظاهر شخصيته، فهناك الأملاك الخاصة بالتاج الملكي والمنشآت والمعابد الجنائزية، و”مدن الأهرام” والقصور، والموظفون القائمون بالعناية به يوميًا… إلخ. كما أن إدارة المعابد كانت خاضعة كذلك لمراقبة مندوبي الملك.

تُعد الدولة القديمة بمثابة الفترة الكلاسيكية التقليدية للحضارة المصرية. وكان القدماء يدركون ذلك جيدًا، ولذلك اتخذوها في وقت لاحق كنموذج احتذوه بشكل أو بآخر. ولا ريب أن العناصر الثقافية الأساسية قد ابتكرت في تلك الفترة، وكان العديد منها قد لامس فترة العصر الثيني أو على الأقل أنها قد وضعت لها أسسًا قانونية وعقلانية وأصبح لها منهج وأقانيم خاصة لأعمال بلغت درجة من التفوق والامتياز لا مثيل لها مطلقًا. وهذه الفترة قدمت إلينا أعمال أدبية مثل “الحكم”، وبحوثًا دينية، ونظريات علمية في الطب والهندسة، عملت كلها على تغذية الثقافة الفرعونية حتى لحظة أفولها. أما الأدب التخيلي فإنه استطاع الوصول حتى الدولة الوسطى في المجال الكلاسيكي التقليدي. وكانت مصر إبان الدولة القديمة على جانب كبير من الخير والرخاء، وكان الأمن سائدًا وحياة الناس هادئة مستقرة. وازدهرت الآداب والعلوم والفنون، وتقدمت الرحلات على أيدي الرحالة المصريين، كما قامت حركة بناء ضخمة، وذلك بفضل ما توافر لمصر من ثروات طبيعية. وهكذا عاشت مصر أزهى عصورها فى عصر الدولة القديمة، هذا العصر الذي اجتمع فيه نشاط الفكر إلى جانب نشاط العمل والتنفيذ، ونجد أن تماثيل الملوك والخاصة، وكذلك اللوحات المصورة والمحفورة في عصر الدولة القديمة، عكست مفاهيم فنية، هدفها خدمة طقوس الآلهة والملوك والموتى، ونجد للتماثيل الملكية أوضاعًا تقليدية ذات خطوط مثالية للوجه، تسعى لتصوير الشخصيات الملكية، في بنيان جسدي قوي، وأحيانًا مع بعض اللمسات الواقعية، التي هي أقل حدة لتفاصيل الوجه. أما تماثيل الخاصة، فقد اتبعت نفس المفاهيم الفنية، ولكن كانت لديها حرية أكبر في الحركة، وتنوع أكثر لأوضاعهم. وقد حفر الفنانون تماثيل جالسة للكتاب، وتماثيل لأشخاص واقفة أو راكعة أو عابدة، وأخرى منشغلة بالأعمال المنزلية. قد بدأت اللوحات المحفورة (الحفر البارز والحفر الغائر) والمصورة بملء الفراغات الموجودة على جدران المعابد والمقابر، لتصوير أنشطة الحياة اليومية في المنازل والضيعات والورش، وقد نفذت بنسب جيدة، وتفاصيل دقيقة، خاصة تلك الموجودة في مقابر سقارة. وكانت هناك أيضًا مناظر ترفيهية، وأخرى تصور تقديم القرابين. هذه المناظر نفذت أحيانًا بحركات حرة، لمجموعات العمال.

نمت وتطورت بعض مظاهر التعارض المزدوج بشكل متواز. فأولًا من الناحية الفكرية، نجد أن العصر الثيني ينحصر في نطاق عالم محدود من التجربة الملموسة، فبعد أن كانت المكانة العليا من نصيب الفرعون في نطاق الملكية، أصبحت ابتداءً من الدولة القديمة من نصيب إله الشمس الخالق، داخل مضمون أكثر عالمية. ففي الحقيقة كان الفرعون يحتل مكانة سامية، ولكنها على أي حال مكانة المرؤوس والتابع، أي مكانة وكيل ونائب هذا الإله الأعظم فوق الأرض، كما كان يعتبر بشكل مجازي ابنًا له من الناحية الدينية الأسطورية، ويقوم الإله الخالق باختيار هذا الوكيل كما يحلو له، حتى لو اقتضى الأمر فصم عرى التسلسل الأسري، وهذا ما تبينه لنا الأسطورة التي تحكي أن الأسرة الخامسة قد انبثقت وتولدت من اقتران الإله “رع” بزوجة أحد الكهنة البسطاء في بلدة سخبو (بلدة صغيرة بالقرب من عين شمس) لإنجاب الفراعنة الثلاثة الأوائل لهذه الأسرة. هذا بالإضافة إلى التعارض في مجال ممارسة السلطة، فالمفهوم الذي كان سائدًا خلال العصر الثيني كان يقتضي انتساب أصحاب المناصب العليا إلى أسرة الفرعون، إذ كانت ممارستهم لوظائفهم تستلزم أن يكونوا مؤتمنين، من خلال قرابتهم له، على جزء من القوى التي يجسدها هذا الفرعون. بيد أن هذه الضرورة أخذت تتلاشى تدريجيا، فمنذ بداية الأسرة الخامسة أصبح من المستطاع أن توكل المهام الكبرى إلى بعض الأفراد الذين لا تربطهم صلة دم بالفرعون. بل والأدهى من ذلك أن أصحاب هذه المهام الكبرى حاولوا، اعتمادًا على العرف الخاص بالإنتقال الوراثي للوظيفة، أن يكونوا لأنفسهم سلالة تمتلك بمفردها بعض الوظائف العليا. ولقد تجسد هذا الاتجاه، على مستوى المؤسسات المحلية (مثل المعابد الجنائزية الخاصة بالملوك الأوائل، ومعابد الآلهة)، أو على مستوى الحكام المحليين، لدرجة أنه منذ قيام الأسرة السادسة تكونت سلطات ومراكز نفوذ إقليمية، كان على الفرعون أن يعمل لها حسابًا، بل ويتفاوض اتجاه استقلالي عن الفرعون، أدى في نهاية المطاف إلى انهيار الدولة القديمة في نهاية الأسرة السادسة.

عاشت مصر فى عهد الدولة القديمة قوية متحدة متماسكة لفترة طويلة، إلى أن دب فيها الضعف، وقلت هيبة ملوكها، وبدأت تزداد سلطة حكام الأقاليم خاصة فى الأسرة السادسة. وقد انتهز هؤلاء الحكام فرصة ضعف الملوك، وأخذوا يعملون على تركيز السلطة فى أيديهم، والاستقلال بحكم أقاليمهم، ومحاولة الانفصال عن فرعون. وخيم الظلام على مصر، وتدهورت أحوالها، وحلت بها الفوضى. حدث ذلك فى عهد الملك “بيبى الثاني” الذي حكم البلاد حوالي قرن من الزمان، الأمر الذي أدى إلى سقوط الأسرة السادسة في عهد خلفائه، وانتهاء عهد الدولة القديمة. وعن وصف مصر الفرعونية بعد سقوط الأسرة السادسة، يقول أحد الحكماء “انظر، لقد تغيرت البلاد، وتبدلت أحوالها وساءت، وليس أدل على ذلك من أننا نرى النيل يوافينا بفيضه، والناس على الرغم من ذلك نيام لا ينهضون لخير، ولا يعملون فى زرع أو ضرع، لا لأنهم يكرهون الزرع والضرع، ولكن لأنهم لا يعرفون ماذا يطالعهم به الغد من شرور وأهوال”. وبذلك دخلت مصر مرحلة جديدة أطلق عليها “الفترة الانتقالية الأولى”، أو عصر الاضمحلال الأول.

يُطلق مصطلح “الفترة الانتقالية الأولى” في التاريخ المصري القديم على الفترة من نهاية الأسرة السادسة وانهيار السلطة الملكية المركزية، حتى إعادة توحيد البلاد على يد الأسرة الحادية عشرة (العصر الوسيط). وكانت فترة اضطرابات وقلاقل، حيث انهار نظام الحكم المركزي وتسمى كل من استطاع باسم فرعون. وتم تقطيع أوصال وحدة مصر وإضعاف السلطة الفرعونية تدريجيًا أمام حركات اِلانفصال المحلية، وتأكيد مبدأ الإنتقال الوراثي للوظائف. وكان حكام الأقاليم يعتبرون وظائفهم كأنها من ممتلكاتهم الشخصية العائلية، فراحوا يتصرفون تصرف الطغاة المستبدين في إماراتهم، معتمدين في ذلك على فئة من الناس يولونهم رعايتهم، ويغدقون عليهم المكافآت، مثلما كان يفعل الفرعون مع جلسائه وحاشيته. وفضلا عن ذلك أخذ هؤلاء الحكام يتجاهلون الملك الضعيف الجالس على العرش، ولا يعترفون إلا بسلطته الإسمية البحتة، ويعملون كذلك على جمع الألقاب المدنية مثل “الحاكم” و”الرئيس الأعظم للمقاطعة”، بالإضافة إلى الألقاب الدينية مثل “رئيس الأنبياء” الذي كان مكلفًا بالإشراف على أملاك المعابد. كما كانوا يتفاخرون بحمل لقب “رئيس الجنوب” الذي كان في الأصل معنيًا بالإِشراف على مقاطعات مصر العليا أو على الأقل على جزء منها. وبالطبع فقد ترك العديد من هؤلاء الحكام العنان لطموحاتهم. فقد كانوا يتحدون طواعية أو قسرًا مع غيرهم من حكام الأقاليم ليكونوا تكتلًا يتيح لهم مواجهة التكلات الأخرى المجاورة، مما أدى إلى تكوين هذه التكتلات وتفككها بصورة مستمرة. وكنتيجة لهذه التمزقات الإقطاعية تعددت المجاعات التي كانت تذكر دائمًا في العديد من الكتابات. ولا ريب أن تلك المرحلة تركت بصمات عميقة واضحة على الحضارة المصرية، ليس فقط من الناحية المادية بسبب الخسائر والتحطيم، وإنما فكريًا وأيديولوجيًا بصفة خاصة. فمن جهة صاغت رؤية متشائمة عن الكون عملت على تغذية تيار من الأفكار التي استقرت بعد ذلك في التراث الثقافي الأدبي، ولكن من جهة أخرى حدث تطبيق “للديمقراطية” في المعتقدات الجنائزية. فبعد أن كان المصير الشمسي في الماضي من حق الفرعون وحده بعد الموت، أصبح البسطاء يتطلعون إلى نفس هذا المصير بعد ذلك. وكانت النصوص التي تصور هذا المصير تحرر لمصلحتهم الشخصية، واستوحيت “نصوص التوابيت” الخاصة على نطاق واسع من مجموعة نصوص الأهرام الملكية.

ساعدت بعض التغيرات المناخية على استفحال هذا التدهور، حيث تدعي إحدى النظريات أن انخفاضًا في درجة حرارة الكوكب قد أدى إلى انخفاض مخيف في مستوى الأمطار الموسمية، وبالتالي إلى انخفاض مستوى فيضان النيل، وأن ذلك الانخفاض في مستوى الفيضان قد تتابع لعقدين أو ثلاثة في أواخر حكم بيبي الثاني، منذ نحو 2200 سنة قبل الميلاد، ويظهر ذلك في انخفاض مستوى المياه في بحيرة منخفض الفيوم انخفاضًا ملحوظًا، مما أدى إلى مجاعة هائلة، ولعل المثل المصري القديم عن انخفاض مستوى النهر حتى لتعبره على الأقدام دليل على تلك المأساة، ولما كان هذا الانخفاض في مستوى الأمطار عالميًا فإنه لم يكن يشمل شرق أفريقيا فحسب، بل امتد إلى الشرق الأوسط، مما أدى إلى نزوح جماعات هائلة من سكان شرق النيل وغربه إلى وادي النيل التماسًا للغذاء. وتفصيل ذلك أن البدو رغم الهزيمة المنكرة التي لحقت بهم في عهد بيبي الأول لم يفقدوا الأمل في غزو مصر التي كانت في تلك الفترة تزخر بالثراء والغنى، وقد سنحت لهم الفرصة في عهد بيبي الثاني لنيل مآربهم إذ كانت الأحوال مهيئة لذلك فقد كان كل حاكم من حكام المقاطعات الوراثيين في الوجه القبلي منهمكًا في المحافظة على مقاطعته التي تعد بمثابة مملكة صغيرة مستقلة ضد المجاعة، أما في الوجه البحري فيحتمل أن القوم كانوا ملتفين حول الملك حيث مقر حكمه، لكن على أية حال كان موقف الحكومة المصرية في هذا العهد في حالة يرثى لها، وكانت الضرائب في مصر تحدد سنويًا على أساس مستوى الفيضان أي على أساس مقدار ما يمكن للفلاح زراعته لا على ما يزرعه فعلا، وربما كان ارتفاع الضرائب في ظل انخفاض المحاصيل هو الشرارة الأولى التي أدت إلى أول ثورة اجتماعية سجلها التاريخ. وقد كان من جراء امتداد الفوضى أن ساد البلاد الخوف وانتشر القحط، وعم الانحلال الخلقي وعدم المبالاة بالتقاليد الدينية والمعتقدات الموروثة، والواقع أن أزمة هذا العصر قد طال أمدها فأثرت على أذهان القوم، وبخاصة على أفكار الحكماء وأهل الفكر وعلى خيال القصاصين، فنراهم يصورون ما حاق بالبلاد من ضعف وشدة وما قاست من ويلات وخراب بعبارات مؤثرة قوية خارجة من الأعماق، بينما يشير بعضها الآخر إلى غزو الساميين حاملي السهام.

وأهم ما وصل إلينا من هذا العصر كتاب “تحذيرات نبي”، وهو من الكتب الأدبية النادرة في حسن تركيبها وتأثيرها في النفس، حتى أن أدباء العصور التالية كانوا يحتذون منه نموذجًا أدبيًا يدرس. وتصف لنا هذه القطعة الأدبية أول انقلاب اجتماعي معروف في التاريخ، ولعلنا لا نبالغ إذا ما شبهناه بالثورات الاجتماعية الكبرى في القرن العشرين. وموضوع هذه التحذيرات هو أنه حاقت بالبلاد مصيبة شنعاء في عهد أحد حكام الأزمان القديمة، فثار عامة الناس على الموظفين وعلية القوم، وعصى الجند المرتزقة من الأجانب قادة البلاد، ويحتمل أن الساميين قد هددوا الحدود الشرقية أيضا، وبذلك انحل الحكم المنظم في مصر بالجملة. لكن الملك الطاعن في السن كان يعيش في طمأنينة في قصره، لأنه كان يغذى على الأكاذيب، وعندئذ ظهر حكيم يدعى “إي بور” وأخبر الملك بكل الحقيقة فوصف له البؤس الذي عم البلاد وتنبأ بما سيأتي بعد، وحرض سامعيه على أن يحاربوا أعداء البلاد، وذكرهم بأن العبادات لابد أن تعاد إلى ما كانت عليه. ويبدوا أن العهد الذي حدث فيه هذا الانحلال لابد وأن يكون في نهاية الدولة القديمة، وذلك أنه في ختام الأسرة السادسة اختفت مصر عن الأعين فجأة وصارت في ظلمة كأن مصيبة عظمى قد نزلت بها، وأن ما ذكر هنا من أن الملك الذي كان يخاطبه الحكيم كان مسنًا ليتفق تمامًا مع الحقائق التاريخية، لأن الملك الذي اختفت معه الدولة القديمة لابد وأن يكون بيبي الثاني الذي جلس على العرش في السنة السادسة من عمره، وحكم أربعة وتسعين عامًا، كما نقل المصريين أنفسهم. يبتدئ المتن بوصف البؤس العام الذي حل بالبلاد من سرقة وقتل وتخريب وقحط، وتفكك الإدارة، والقضاء على التجارة الخارجية، وغزو الأجانب، وتولية الغوغاء مراكز الطبقات العليا، فيذكر الحكيم أن أهل الصحراء قد حلوا مكان المصريين في كل مكان وأصبحت البلاد ملأى بالعصابات، حتى أن الرجل كان يذهب ليحرث أرضه ومعه درعه، وشحبت الوجوه وكثر عدد المجرمين ولم يعد هناك رجال محترمون، وفقد الناس الثقة في الأمن، وعلى الرغم من فيضان النيل فقد أحجم الفلاحون عن الذهاب لفلاحة أرضهم خشية اللصوص وقطاع الطرق، وصارت النساء عواقر ولم يعد هناك حمل، بسبب إعراض خنوم (إله الخلق) عن هذا العمل غير المجدي. وأصبح المعوزين يمتلكون أشياء جميلة، بينما نجد الأشراف في حزن لا يشاطرون أهليهم أفراحهم، ثم أن القلوب صارت ثائرة والوباء انبعث في كل الأرض، والدم أريق في كل مكان، وكثر عدد الموتى حتى أصبحت جثثهم من الكثرة بحيث استحال دفنها، ولذلك فإنها ألقيت في الماء كالماشية الميتة، وأصبح أصحاب الأصل الرفيع مفعمين بالحزن بينما امتلأ الفقراء سرورًا، وكل بلدة تنادي قائلة، فليقص أصحاب الجاه عنا، وصارت الأرض تدور كعجلة الفخاري، فأصبح اللص صاحب ثروة، وتحول النهر إلى دماء عافتها النفوس، ودمرت البلاد وصار الوجه القبلي صحراء جرداء، وأصبحت التماسيح في تخمة بما قد سلبت، وانتشر حفارو القبور في كل مكان بسبب كثرة الموتى، وخربت البيوت، وأصبح المصريون لا يرون الآن. وصار الذهب واللازورد والفضة والياقوت تحلي جيد الجواري بينما تمشي السيدات النبيلات في طول البلاد يقلن “ليت لدينا بعض الشيء لنأكل”، وصارت أعضاؤهن في حالة يرثى لها لما عليها من خرق بالية وقلوبهن تنفطر حزنًا عندما يشاهدون أنفسهن على حالتهن هذه. وأصبح مهندسو السفن الملكية يشتغلون عمالًا عاديين، ولم يعد الناس يذهبون إلى ببلوص (جبيل لبنان) لإحضار خشب الأرز لأجل الموميات وأصبحت المدن لا تؤدي الضرائب بسبب القلائل وأصبحت الخزينة من غير دخل. وقُضي على الضحك فلم يعد يسمع، بينما أخذ الحزن يمشي في طول البلاد وعرضها ممزوجًا بالأسى، وكره الناس الحياة حتى أصبح كل واحد منهم يقول “ياليتني مت قبل هذا”، والأطفال الصغار يقولون “كان يجب عليه ألا يجعلنا على قيد الحياة”، وأولاد الأمراء يضرب بهم عرض الحائط، والأطفال حديثو الولادة يلقون على قارعة الطريق… وبعد ذلك يأخذ الحكيم في وصف مصائب حلت بالبلاد تفوق بمراحل تلك التي سبق أن شكا منها، إذ تنهار الملكية وينتصر العامة، وهنا يظهر ثانية كيف أن الأغنياء قد صاروا فقراء بينما أصبح الغوغاء أثرياء فيقول “انظر، فقد حدثت أشياء لم تحدث فيما مضى، إذ اغتصب الفقراء القبر الملكي، وأصبح الملك الذي دفن كصقر يرقد على نعش، وآل الأمر إلى أن حرمت البلاد الملكية بسبب بعض القوم الذين لا شعور لهم، وأظهر الناس العداء للملك الذي جعل الأرضين في سلام. وأفشيت الأسرار الملكية وصار مقر الملك رأسًا على عقب، وامتلأت الأرض بالعصابات واغتصب الجبناء الرجال الشجعان، وأصبح من لم يكن في مقدوره أن يصنع لنفسه تابوتا يملك قبرًا قد اغتصبه لنفسه، وألقي بأرباب المكان الطاهرعلى قارعة الطريق، وحدث أن الذي لم يكن يستطيع أن يقيم لنفسه حجرة أن ملك فناءً مسورًا، وطرد حكام البلاد وأصبحوا ينامون في المخازن، واضطرت السيدات الكريمات إلى الرقاد على الفراش الخشن، وأصبح الرجل الميسور ينام ظمآنًا، وذلك الذي كان يستجدي العقار صار يملك الجعة المسكرة، والذين كانوا يملكون الملابس أصبحوا في خرق بالية، وذلك الذي لا ينسج لنفسه أصبح يمتلك الكتان الجميل، ومن لم يبن لنفسه قاربًا أصبح الآن صاحب سفن، ومن لم يكن له ما يظله أصبح يملك الأفياء… وينتقل الحكيم بعد ذلك إلى مخاطبة الملك المسن فيقول له “إن القيادة والفطنة والصدق معك، ولكنك لا تنتفع بها، فالفوضى ضاربة أطنابها في طول البلاد وعرضها، ولكنك مع ذلك تغذى بالأكاذيب التي تتلى عليك، فالبلاد قش ملتهب والإنسانية منحلة، ليتك تذوق بعض هذا البؤس بنفسك. بعد ذلك يصف لنا الوقت السعيد الذي يحفظه المستقبل، فيذكر أنه عندما تشيد أيدي الناس الأهرام، وتحفر البرك وتنشئ للمعبودات مزارع فيها أشجار، وعندما يكون السرور شاملًا وكبار الموظفين واقفين ينظرون إلى الأفراح وهم يرتدون أجمل الثياب، وعندما تكون الأسرة الوثيرة ووسادات العظماء محمية بالتعاويذ التي تقيهم الأرواح الشريرة… ونخلص من هذا المتن أن المجاعة قد حدثت، تلتها ثورة اجتماعية، واكبها غزو أجنبي أطاح بالدولة من أساسها. ولابد أن ذلك الغزو قد بدأ من شرق الدلتا بواسطة الساميين، ولعله أمتد حتى شمل أجزاء من الوجه القبلي كما يظن العالم “بتري”، ولعل بعضهم قد تسمى فرعونا على نحو ما نرى من الأسماء السامية في ملوك الأسرة السابعة.. ولعل الأسرة السابعة المنفية نفسها هي بقية الأسرة السادسة التي حكمت من نفس المكان وقد أظهرت الاعتراف بسيادة الساميين في الدلتا عليها لفترة ما، يدل على ذلك تذبذب الأسماء فيها بين المصرية والسامية.

عندما ضعفت مصر، وعم فيها الفساد، وظغيان حكام المقاطعات، وغابت الوطنية المصرية، تحللت الدولة وأصبحت بما تملك من ثروات وموارد هائلة، مطمعًا للرابضين على حدودها، والمتمرسين علي الحروب والاغارة والفروسية، وحياة الترحال والتنقل والمغامرة، والاعتياد على نهب وسلب مغانهم من الأوطان الأسيرة، سواء الساميين القادمين من الشرق أو الليبيين القادمين من الغرب، أو النوبيين القادمين من الجنوب، في حين اعتاد المصري طيلة فترة الاستقرار والنماء السابقة، على الحياة المستقرة، والعيش في سلام، واعتاد حياة التعاون والتعاضد والتعايش، بما يمكن أن نسمية بالحياة الناعمة، ولكن استطاعت مصر بطغيان هويتها أن تهضمهم وتمصرهم، ولأنهم جاؤوا أفرادًا، أو جماعات بشخوصهم، ولم يكونوا خاضعين لإمبراطوريات خارجية، أو ينتمون سياسيًا لبلد آخر، فقد أُعتبروا مصريين، وأٌعتبرت أسرهم الحاكمة (أسر مصرية) ولم تكن احتلالًا، وأن اعتلائهم للمناصب العليا، وتكوينهم للأسر الحاكمة لم يفقد مصر استقلالها من الناحية السياسية الموصوعية، رغم أن المصريين لم يسموهم فراعنة، بل ملوكًا. وفي هذا الوقت نجد مصر مقسمة ثلاثة أقسام، ففي الوجة البحري كانت الدلتا في يد الساميين القادمين من الشام، وفي مصر الوسطى كان حكام أهناس من الجنس الليبي هم المسيطرون، وفي الوحه القبلي كانت البلاد ملتفة حول حكام طيبة، والظاهر أنه كان من جراء الحركة التي قام بها حكام المقاطعات للمحافظة على مقاطعاتهم من المجاعة منذ الأسرة السادسة، أن انفصل الأمراء المحليين بما تحت أيديهم من مقاطعات. ويبدو أن حاكم مقاطعة قفط آنس من نفسه القوة فضم إلى مقاطعته المقاطعات السبع العليا من الوجه القبلي، وأسس مملكة مستقلة تحت سلطانه عن أسرة منف، وهي المملكة الثامنة القفطية، والمرجح أن هذه الأسرة قد مكثت نحو أربعين سنة. ونجد في قائمة العرابة المدفونة أسماء 17 ملكًا حكموا زمنًا في عهد هذه الأسرة، وإذا حكمنا من خلال الاسماء التي ذكرتها قائمة العرابة المدفونة فنجد نفر كا رع، وددف رع، ونفر إر كا رع…، وغيرها من الاسماء المصرية الصميمة مما يرجح أن سيادة الساميين لم تصل قط إلى ذلك العمق. وقد كانت نقطة ضعف ملوكها أن غمروا وزرائهم الذين كانوا ينتخبون من أسرة خاصة بسلطة واسعة، حتى أنهم كانوا في الواقع هم المسيطرون الحقيقيون على شؤون المملكة. كان مقر فراعنة الأسرتين التاسعة والعاشرة مدينة هيراكليو بوليس، وتعرف الآن باسم اهناس المدينة، ويظن بعض المؤرخين أن ملوكها من أصل ليبي، وأنهم غزوا مصر عن طريق الفيوم حتى وصلوا إلى مدينة أهناس، واتخذوها عاصمة لملكهم، لما لها من مكانة تاريخية ودينية، فضلا عن كونها أعظم مدينة صادفتهم أثتاء زحفهم على البلاد. ولا ريب أن دخول الليبيين مصر عن طريق الفيوم لا يبتعد كثيرًا عن فترة دخول الساميين الشرقيين، إذ نجدهم يستولون في عام 2175 على مقاطعات الأسرة السابعة المنفية في شمال الصعيد مما عجل بسقوطها، وتشكيل الأسرة العاشرة في هيراكليو بوليس، ويبدو أن البلاد كانت في ارتباك شديد ومشاحنات من طرفيها، ولم يكن في مقدور فرعون إهناس أن يقبض على زمام الأمور، والواقع أن سلطان فراعنة أهناس كان ضئيلًا، بل منعدمًا فيما خلف حدود مدينة طينة وبلدة العرابة المدفونة، وكذلك كان نفوذه في شمال طيبة نفسها ضعيفًا، ويرجع ذلك إلى أن الأمراء المحليين في أسيوط، وإن كانوا يدينون بسلطان ملوك أهناس إلا أنهم كانوا في الواقع أعظم منهم قوة، وكانوا يعملون لحفظ كيان الفرعون الآخذ في الانهيار. وإذا كان الحاكم ذا بأس وقوة فإنه في بعض التحالفات والتكتلات القوية حينذا، وشيئًا فشيئًا تجمع المتنازعون في المنطقة الواقعة ما بين هراكليوبوليس التي تتشابه مع النمط المنفي، وتهيمن على الدلتا وجزء من مصر الوسطى، معتمدين في ذلك على سلطة عائلة حكام أسيوط الشديدة البأس، وعلى الأسرة الطيبية الطموحة التي كانت قد استطاعت من قبل وبمساعدة قفط الاستيلاء على مصر العليا. ونجحت هذه الأسرة في فرض سيطرتها على كافة أنحاء مصر، لتضع بذلك نهاية عصر الانتقال الأول. وكان انتصار الأسرة الحادية عشرة على الأسرة العاشرة التي عاصرتها، إيذانا ببزوغ فجر العصر الفرعوني الوسيط… وهو موضوع مقالتنا القادمة.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك