الخميس - الموافق 18 أبريل 2024م

(16) التسلل الوهابي للأمة المصرية (غرس البذرة).. بقلم الكاتب والباحث: محمد السني

Spread the love

ألقينا الضوء سابقًا في مقالتين متصلتين، على الجذور الفكرية للوهابية، ثم تطرقنا لنشأة الحركة الوهابية في مقالتين متصلتين، ثم نشأة وملامح وسقوط الدولة الوهابية السعودية الأولى في ثلاث مقالات متصلة، ومقالة عن نشأة وسقوط الدولة السعودية الثانية، ومقالتين متصلتين عن التأسيس الثاني للدولة المصرية الحديثة، ومقالتين متصلتين عن الدولة السعودية الثالثة، وثلاث مقالات متصلة عن الأمة المصرية قبل الغزو الفكري الوهابي، ومقالتنا هذهعن التسلل الوهابي للأمة المصرية (غرس البذرة)..حيث حالت الصراعات الداخلية بين الوهابيين وخصومهم، وبين آل سعود والوهابيين المتشددين من تيار الإخوان، بالإضافة إلى الصراعات بين آل سعود وخصومهم من القبائل التي كانت تنازعهم الحكم والسيطرة، وكذلك البيئة الصحراوية شديدة البؤس والضحالة البشرية والاقتصادية والحضارية آنذاك.حالت دون انتشار الوهابية خارج حدود الجزيرة العربية في مراحلها الأولى. ومن جانبها كانت مصر قد اتخذت مسارًا مغايرًا تمامًا بالسعي الدؤوب للحاق بحضارة العصر الحديث كما أوضحنا سابقًا، حيث كانت تمر بنهضة تاريخية شاملة، بدأها محمد علي وأفضت إلى نشأة مصر الحديثة، وظهر التدين المصري كمزيج من المذهب السني والمذهب الشيعي الموروث عن الفاطميين كحالة فريدة لاحتواء الأمة المصرية للتعدد المذهبي، علاوة على التعايش الديني الموروث منذ قرون عديدة.والذي دعمه وأصله انتشار التعليم الحديث في مصر، والحضور الطاغي والاستثنائي للنخبة الفكرية والثقافية والأدبية على الساحة المصرية إبان تلك الحقبة. وبذلك مثلت مصر القوة العربية الناعمة بامتياز، الأمر الذي ساعد على خلق عقل عربي عام يلتف حول النموذج الحضاري المصري، فكانت حصانة العقل المصري أشد صرامة من أن تعبرها تلك الأفكار الظلامية. والخلاصة أن الساحة لم تكن خالية أمام الوهابية في تلك الفترة فقد كانت مليئة بالصعوبات والعقبات والتحديات التي حالت دون انتشارها وبروزها في الساحة المصرية والتأثير على العقل المصري وتشكيله. ورغم أن الصوفية في مصر كانت تمثل شيء من تغييب العقل إلا أنها كانت أبعد ما تكون عن التكفير والعنف والظلامية، باعتبارها حالة صفاء نفسي وإنساني في المقام الأول.ولكن مع العقد الثالث منالقرن العشرين، ظهرت عوامل سلبية كثيرة اجتماعية واقتصادية وسياسية، منها الفوارق الطبقية الحادة التي اجتاحت مصر في النصف الأول من القرن الماضي، واحتكار طبقة الإقطاعيين وحلفائهم للعمل العام والسياسي بعد ذبول وهج ثورة 1919م، وانشغال الأمة المصرية بقضية التحرر الوطني ومقاومة الاحتلال الإنجليزي.وكان الكيان الوهابي الوليد (الدولة السعودية الثالثة) قد استقر بدرجة كافية بعد معاهدات التبعية والهيمنة البريطانية الكاملة التي كرست الاحتلال المقنع للكيان الجديد كما أوضحنا سابقًا، وتلاقت مصالحهما في مناهضة كافة حركات التحرر المحيطة بالكيان الوهابيالوليد، وأيضًا لنجاح التجربة الوهابية السعودية في تطويع شعوب شبه الجزيرة العربية وتدجينها بالقوة العسكرية والاستبداد المطلق لخدمة مصالح القوى الرجعيةوالاستعمارية في المنطقة، فكانت بذلك عامل هدم وتخريب لكل منجزات مصر الحضارية طيلة النصف الأول من القرن العشرين، وبصفة خاصة ما أنجزته الامة المصرية من قوة ناعمة فكرية وثقافية وأدبية وعلمية وطفرة سياسية استثنائية أصبحت مقلقة للقوى الظلامية الوهابية وحلفائهم الاستعماريين.وما إن قرب العقد الثاني من القرن العشرين على الانتهاء وتمكن ابن سعود من الحجاز، نشأ في مصر جبهة لتحرير الحجاز بدعم من الملك فؤاد وملك الأردن، رأى ابن سعود أن الأمر في مصر ينطوي على خطر داهم، كما أن تجربة إجهاض الدولة الوهابية السعودية الأولى على محمد علي كان ماثلًا دومًا في أذهان الوهابيين، لأسباب تتعلق بمستقبل الكيان الوهابي في صيغته الأخيرة، أو بمفهوم الثأر والانتقام من الدولة المصرية والذي تردد كثيرًا على ألسنة فقهائهم ومنظريهم. وعليه عمل الكيان الوهابي الجديد (الدولة السعودية الثالثة) على تطويق مصر بكافة السبل وبوتيرة أكثر سرعة لدفع الأمور بالشكل الذي يراه هو وما يخدم سياساته المستقبلية في المنطقة.كما أن الأنشطة الوهابية التي صاحبت إنشاء الكيانالسعودي الجديدكانت شديدة الحذر والمثابرة في التسلل إلى مصر، مستخدمة أسلوب “التقية” بامتياز.

يقدم لنا مؤرخ ومنظر الوهابية(محمد جلال كشك)تبريرًا لسبب سقوط التجربتين الأولتين لتكوين الدولة الوهابية السعودية،في الانغلاق داخل إطار الجزيرة العربية، وعدم القيام بنشر الوهابية إلى الدول المجاورة، وذلك بقوله:”إن نظرية (الثورة في بلد واحد) لا تصلح للتطبيق… وعليه لا بد من تصدير الثورة إذا ما أُريد لها أن تعيش، أن تقذف بجنينها إلى الخارج فتصدر العقيدة والرجال إلى البيئات التي تملك الموارد الطبيعية والقاعدة الحضارية القادرة على الدفاع عنها والتطور بها والانتشار”، وهو في هذا ينتقد موقف سعود الكبير الذي منع الحج وانغلق في اطار الجزيرة وذلك بقوله “لقد مر ما يقرب من عشر سنوات والسلطة السعودية تحكم الجزيرة، دون أن تنطلق الموجة خارج الحدود.. كان لابد أن تنطلق إلى الأمصار.. إلى الشام أو بغداد أو مصر، أو كلها معًا.. ولأنها لم تفعل، أصبحت كالجنين الذي تأخرت ولادته فتضخم واختنق في الرحم أو تفجر معه الرحم”. ولا شك أن هذا التبرير النظري رغم اعتمادة على مقولة ثورية صحيحة إلا أنها لا تتعلق بمجريات أحداث حركة رجعية إرهابية ضد حركة التاريخ ولا تمت للثورة بصلة، سواء الثورة السياسية أو الاجتماعية. كما أن سعود حاول احتلال الشام مرات عديدة وفشل، وكذلك بالنسبة للعراق.ولكنها في الحقيقة تعكس تصور مريض لنشر “دين جديد”.. ولما كان الفارق الحضاري الهائل بين الكيان الوهابي الجديد وبين دول الجوار مثل العراق والشام ومصر، هو العامل الأكثر قلقًا وإزعاجًا للسلطة الوهابية المستبدة والظلامية، حيث كانت تلك الشعوب وفي مقدمتهم مصر على بعد خطوات من اللحاق بحضارة القرن العشرين، بما تمتلكه من تطور اقتصادي نسبي وطبقة وسطى وليدة ونشطة، وحراك اجتماعي استثنائي، وحضور ثقافي تقدمي ومستنير، ونضوج سياسي ليبرالي كبير ومؤثر، علاوة على أن الفجوة الحضارية بيننا وبين الغرب لم تكن بهذا الإتساع. مما قد يزيد عزلة الكيان الاستبدادي الظلاميالوهابي الوليد. ولما كان خيار التنوير والثورة الثقافية والتنمية البشرية ومواكبة علوم وإنسانيات العصر الحديث أمرًا مستبعدًا تمامًا من قبل الوهابية،فكان التفكير جدي في عدم تمكين الآخرين من ذلك. كما كان الغزو الفكري الوهابي غير ذي جدوى بدون طمس هوية تلك الشعوب، وتغيير المكون الثقافي لها، وخلق البديل الثقافي (الوهابية)، ثقافة تسعى لتغيير مساره الحضاري، كمقدمة لامكانية التأثير في مسيرة تطوره بما لا يؤثر سلبًا على مستقل الوهابية ووجودها ذاته.وهي وإن بدت مهمة مستحيلة في هذا الوقت إلا أنها كانت مسألة وجود لهذا الكيان، ومن هنا كان الإصرار والدأب على السعي في هذا الطريق بكل السبل والإمكانات المتاحة لديهم.

بدأ الملك عبدالعزيز بن سعود  بكسب ولاء شيخ أزهري لامع من أصول شامية، وهو محمد رشيد رضا (1865-1935)، عن طريق مستشاره حافظ وهبة، وكان رشيد رضا  قد أتى إلى مصر في مطلع العقد الثاني للقرن العشرين حاملًا بين جوانحه الفكر السلفي على الرغم من تظاهره بأنه صوفي، متأثرًا بفكر (التقية)الوهابية،وكان يحسبه كثير من رجالات الأزهر والمشتغلين بالثقافة والشأن العام بأنه تلميذ الإمام المصلح والمجدد محمد عبده لشدة مجاراته للإمام ومحاباته له، وعدم اظهار حقيقته طلية حياة الأمام محمد عبده،ففي نص للإمام محمد عبده يمتدح فيه رشيد رضا فيقول: “إن في نفسي أمورًا ‏كثيرة أريد أن أقولها أو أكتبها للأمة، وقد اُبتليت بما شغلني عنها، وهو (يقصد: رشيد رضا) يقوم ببيانها الآن كما أعتقد وأريد،وإذا ذكرت له موضوعًا‏ ليكتب فيه، ‏فإنه يكتبه كما أحب، ويقول ما كنت أريد أن أقول، وإذا قلت له شيئًا مجملًا بسطه بما أرتضيه من البيان والتفصيل، فهو يتم ما بدأت ويفصل ما أجملت”.ومن مواقف رشيد رضا الإصلاحية الظاهرة في هذا الشأن آنذاك، أن كان يعلن أن الوحدة بين السنة والشيعة ضرورة ماسة، وأن من الممكن تحقيقها على قاعدتين: “الأولى أن تتعاون الطائفتان على ما يتفقان عليه، وأن تعذر إحداهما الأخرى في ما يختلفان فيه. والثانية أنه إذا تهجم أحد من إحدى الطائفتين على الطائفة الأخرى فالواجب أن يتولى الرد عليه من هم من طائفته”. وعلى هذه الصورة جرى تقديمه في العديد من المحافل ووسائل الإعلام المكتوب..ولكن بعد أن مات الإمام محمد عبده وخلفة رشيد رضا في مشيخة الأزهر، فإذا بهذا التلميذ يقوم بنشر تخرصات وإفك ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب على الساحة المصرية.وفي الحقيقة لم يكن رشيد رضا مؤهلًا للسير في طريق شيخه الإمام محمد عبده، في معارضته لشيوخ الأزهر، إذ كان الإمام بفكره ومصريته وأزهريته وتاريخه ومكانته وشخصيته أقدر على الصدام مع شيوخ الأزهر، فهو منهم وهم منه، وهو أعلاهم قدرًا وأرجحهم عقلًاوأكثرهم علمًا وشهرة، ومع ذلك فقد عانى منهم ما عانى في جهاده الإصلاحي، فكيف بتلميذه الوافد من الشام إذا كان فعلًا يريد السير في طريق شيخه الإمام؟.على أن رشيد رضا قد يوافق فكر أستاذه الإمام في الهجوم على التصوف وأوليائه، إلا أنه لا يوافقه في انتقاد الأحاديث الملفقة وفي انتقاده لتحجر الفكر الوهابي،وفي مساعيه في أصولًا للإسلام تخالف الأيدولوجيا الوهابية في عدة نقاط، مثل قيام الإيمان على أساس العقل، وتقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض بينهما، والابتعاد عن التكفير، والتفكر بسنن الله في الخالق أي بالاستدلال العقلي، وهدم السلطة الدينية والدولة الدينية على أساس أنه ليس في الإسلام سلطة دينية، والبعد عن الغلو في الدين، وأن القتال في الإسلام لرد الاعتداء وليس التكفير والإكراه في الدين، علاوة على أن الإمام محمد عبده عندما انتقد الصوفية كان جل تركيزه على تثبيط الهمم وتنشيط العقول وتعظيم وبيان دور العقل في احداث أي نهضة، ولم يكن ينتقص من قيمة التصوف كممارسة روحانية وإنسانية. ومن هناوجد رشيد فرصته في الزعامة ميسورة إذا هو تحالف مع ابن سعود، خصوصًا وقد جرت مياه كثيرة في النهر، إذ علا نفوذ ابن سعود في شبه الجزيرة العربية وبدأت الأحلام تتجمع حوله خصوصًا مع شبابه ومقدرته السياسية ودعم البريطانيين غير المحدود له. وفي هذا الجو أُتيح لرشيد رضا أن يثمر تحالفه مع ابن سعود في نشر الفكر الوهابي بعد أن احتل عبد العزيز الحجاز وجعل من مناسبة الحج منبرًا لنشر دعوته وتجميع الأمصار وإعداد الكوادر والخطط وتنفيذها،حتى أن عام 1926م الذي شهد أول موسم للحج بعد سقوط الحجاز في أيدي الوهابيين، كان أنشط الأعوام في نشر الفكر السلفي في مصر وخارجها. وأصبح رشيد رضا من اهم رموز الرجعية في مصر لمواجهة المتغيرات والتحولات السياسية والاجتماعية في تلك المرحلة، ومناهضة رموز التنوير والعقلانية من المثقفين والمفكرين الليبراليين واليساريين المصريين والعرب آنذاك. وقد جاء رشيد رضا من بلاده في الشام محملًا بالفكر السلفي مع كراهية موروثة للمسيحيين استقاها من بيئته الشامية، إضافة إلى ارتباطه المصلحي مع الملك عبد العزيز بن سعود، وعلى العكس من الإمام محمد عبده استغل رشيد رضا تخلف ورجعية بعض مشايخ الأزهر، وأخذ يدعو للفكر الوهابي بعد توطيد علاقته بآل سعود لقاء دعمهم له بالمال، حيث برزت مع هذا التحول الفروقات المذهبية والخصومات الفكرية التي أعادت معها السجالات الاحتجاجية حول بعض المفاهيم والظواهر والقضايا، التي يفهمها كل طرف بشكل مختلف، وقام بشن حملة استباقية على الشيعة وأبرز هذا الاختلاف على انه تناقض مركزي في الاعتقاد، وأمام هذه القضية نرى شذوذ رضا حين أبرز القضايا التي أُهملت وتجنب الخوض فيها مع الإصلاحيين البارزين أمثال محمد عبده والكواكبي ومحمد إقبال الذين تعاملوا مع هذا الشأن بوعي كبير وبأفق واسع وتغليب المصلحة العامة والمقاصد العليا.وعن طريق رشيد رضا تم إدخال العقيدة الوهابية إلى الأزهر بذريعة تنقية الدين من الشوائب والخرافات والتعاليم الصوفية، وإعادة الدين إلى أصوله النقية!.

قام رشيد رضا بتأسيس مجلة (المنار) ودار (الوعظ والإرشاد) التي اعتمدت عليها الوهابيةفي نشر كتب السلفية الوهابية بدعم مباشر من عبد العزيز بن سعود، وليس هناك دليل أوضح على عمالة رشيد رضا للوهابية من أن تفرد له صفحات وأبحاث في الندوة التي نظمتها وزارة (الدعوة والإرشاد) –وهنا نلاحظ التطابق بين اسم الوزارة واسم دار النشر التي أقامها رشيد رضا في مصر -فقد جاء بالنص:”كما اهتم الملك عبد العزيز – رحمه الله – بإرسال الدعاة إلى خارج البلاد – كما سبقت الإشارة لذلك – للتعريف بالمنهج السلفي ودحض الشبه المثارة حوله. ووجه اهتمامه – رحمه الله – إلى دعم العلماء السلفيين في البلاد الإسلامية الذين أخذت أقلامهم تصول وتجول في مناصرة الدعوة السلفية والذب عنها كأمثال الشيخ محمد رشيد رضا، ومحمد حامد الفقي، ومحمد خليل الهراس، وعبد الرحمن الوكيل وغيرهم. قد كان للشيخ محمد رشيد رضا جهود كبيرة في مناصرة الدعوة السلفية وأتباعها، فكتب مقالات عديدة في صحف مصر ومجلاتها كصحيفة الأهرام ومجلة المنار يشرح فيها حركة (ابن عبد الوهاب) ومبادئها وأهدافها، وحالة أتباعها في عصره وأنهم الأمل الوحيد في إعادة ما للمسلمين من عز ومجد لأن عقيدتهم تقوم على مبادئ الإسلام الصحيح كما أنزله الله على رسوله محمد (ص). قد ساعد الملك عبد العزيز محمد رشيد رضا وغيره في تمويل وطبع الكتب السلفية التي تقوم بطباعتها مطبعة المنار، كما دعم محمد حامد الفقي لطباعة عدد كبير من الكتب على نفقته الخاصة. في الشام قام محمد بهجت البيطار بدعم من الملك عبد العزيزبنشر الدعوة السلفية من خلال نشاطاته الدعوية المتنوعة. ممن كان له جهد كبير في نشر الدعوة السلفية في سوريا وعبد القادر بدران الذي قام بتحرير العديد من المؤلفات في نصرة الدعوة السلفية، وأغلبها طبع على نفقة الملك عبد العزيز، وغير هؤلاء كثير. هذه ولاشك جهود عظيمة إذا قورنت بقلة الإمكانات وصعوبة الظروف وبدائية الاتصالات والمواصلات” راجع أعمال ندوة وزارة الإرشاد والدعوة (الدعوة في زمن الملك عبد العزيز) الرياض 8/6/1999م.وفى رسالة إلى الأمير شكيب أرسلان قال رشيد رضا أنه قد تلقى حوالة مالية بمبلغ (716) جنيه من وكيل مالية الحجاز وطالبهم بزيادة المبلغ لأنه يمر بضائقة مالية.ورغم ذلك انبرى له غير واحد من علماء الأزهر الأجلاء ومنهم على سبيل المثال فضيلة الشيخ العلامة يوسف الدجوى، وبدأت المعركة تستعر أوارها حتى بدأ محمد رشيد رضا يسفر عن وجهة القبيح بإنشاء دار خاصة لطباعة كتب ابنتيمية وابن القيم الجوزية ومحمد بن عبد الوهاب والدفاع عن الوهابية مستغلًا بعض ما كتبه الإمام محمد عبده في التلبيس على الناس والعوام. كما قام بالرد عليه العديد من العلماء، حيث يقول العلامة المحدث النسابة محمد العربي بن التباني المكي الحسني في كتابه (براءة الأشعريين): “… وحامل راية سلخ كلام العلماء من تأليفهم وتحريفه في هذا العصر صاحب مجلة المنار فمن ذلك أن شيخ مشايخنا المحدث فالحًا الظاهري نقل في كتابه أنجح المساعي في صفتي السامع والواعي في أحكام المساجد عن ابن قدامة الحنبلي قبل أن يطبع بدهر اتفاق المذاهب الأربعة على إباحة التوسل بالأولياء والصالحين أحياءً وأمواتًا فلما طبعه صاحب المنار سلخ منه هذا الكلام، وأما تحريفه لكلام العلماء وتقوله عليهم وطعنه فيهم وفي الأحاديث الصحيحة التي لا توافق هواه أو هوى التيميين (يقصد أتباع ابن عبد الوهاب التيمى) في مجلته وفي تعاليقه فشيء لا يُحصر”.أما الدكتور موفق بني المرجة في كتابه(صحوة الرجل المريض) كتب يقول: “ورغم هذه المواقف المشهودة لرشيد رضا إلا أننا لا نملك إلا أن نذكر الواقعة التالية التي تلقي بعض الظلال حول شخصيته الفكرية وانتماءاته السياسية فقد وقف رشيد رضا يقول في خطبة مرتجلة في احتفال الأرمن في القاهرة بشهداء الحرية:”يعلم كثير من الأرمن الحاضرين أنني من مؤسسي إحدى جمعيات الأحرار الماسونيين التي سبقت غيره إلى التأليف بين جميع العثمانيين بالفعل قبل أن تفكر في ذلك جمعياتنا في أوروبا،بل إن هذا الفقير هو رئيس اللجنة المؤسسة لهذه الجمعية الماسونية التي من بعض أعضاء إدارتها أحد خطباء الأرمن في هذا الاحتفال” وعلق فارس نمر على هذا الكلام بقوله:”إن تأثير هذه الوقفة أعظم من تأثير المنار في عشر سنين”. محمد رشيد رضا ومجلته المنار كانت معولًا لهدم المذاهب الفقهية وسار في ذلك مسيرة على منهج (ابن تيمية) و(محمد بن عبد الوهاب) والسبب في ذلك هو أنه كان يحب منهم خروجهم عن جادة العلماءوعدم التقييد بأقوالهم بل يأخذون ما يترجح لديهم من دليل مع عدم تأهلهم لذلك وهي نقطة التقائهم جميعا. كما قام أحد تلاميذ الشيخ الدجوى وهو الشيخ عبدالرافع نصر بالرد عليه في كتاب (صواعق من نار في الرد على صاحب المنار)، وممن قاموا بالرد على رشيد رضا أيضًا كل من العلامة الكوثرى، والشيخ مصطفى صبري.

تحول رضا من صديق ومتعاون مع العلمانيين واللادينيين والماسون إلى واحد من أكبر دعاة السلفية الوهابية، فقد تعاون مع “رفيق العظم” و”اسكندر عمون” و”داود بركات” رئيس تحرير الأهرام، و”حقي العظم” و”شبلي شميل” في تأسيس حزب (اللامركزية العثماني) في مصر سنة 1913م، والذي كان يؤيد جماعة (الاتحاد والترقي) ذات المنحى العلماني والتي كانت تهدف إلى إلغاء الخلافة الإسلامية. كما أسس رشيد نفسه حزبًا سريًا باسم”الجامعة العربية” وكان دوره هو التنسيق بين أطراف متعددة لدعم نشاط الاتحاديين ضد الخلافة العثمانية، في تلك الفترة كان انقسام المواقف بين قادة العرب على أشده بين من يرى ضرورة الالتحام مع تركيا في مواجهة بريطانيا وبين من يرى الوقوف ضد الأتراك وعلى رأس هؤلاء الشيخ رشيد رضا وتلميذه محب الدين الخطيب.ويبدو واضحًا من خلال العرض الذي قدمه الدكتور عبد الرحمن برج في ترجمته للوثائق البريطانية للمؤلف “هاري المر بارنز”، عن السبب الحقيقي الذي دفع المخابرات البريطانية لتوظيف رشيد رضا في خدمة الأهداف الاستعماريةفي تلك الأثناء. فيذكر أن رشيد رضا أرسل عدة رسائل يحملها مبعوثون موقعة باسمه الحركي (الناموس) إلى بعض الشخصيات العربية ملخصًا فيها موقف حزبه من الحرب. يقول رشيد (الناموس) في وثيقته:”علمنا من ثقة (؟!) أن إنجلترا أقنعت حلفاءها بعدم التعدي على بلاد العرب إلا بقدر الضرورة القاضية بمقاومة الترك المحاربين وتعترف مع حلفائها باستقلالهم إن هم أعلنوه من تلقاء أنفسهم وحينئذ تحمي جميع سواحلهم من كل من يتعدى عليهم من الترك أو غيرهم وأنها تساعدهم بقدر ما يقتضيه الحال ولا تطلب أن يكون لها في بلادهم رأي ولا قوة عسكرية ولا غير عسكرية وهي لا تطلب منهم أن يساعدوها على حرب ولا غيره (!!). ويمضي موضحًا: “أن غرض بريطانيا من سياستها الجديدة مع العرب هو إقناع مسلمي الهند أنهم حماة الإسلام والسلطة الإسلامية المستقلة وتكثير أصدقائها من المسلمين بدلًا من تكثير أعدائها، كما يرى المركز العام للجامعة العربية (تنظيمه السري) أن العرب قد سنحت لهم الآن الفرصة لجمع كلمتهم إن هم اغتنموها بل هي عناية إلهية بالدين والحرم وقوم رسول الله (ص) وأن يقووا أنفسهم فإن سقطت حكومة الترك (لا قدر الله) يكون للإسلام دولة كبرى مستقلة. أما إذا فرضنا أن الإنجليز مخادعون فيما يقولون أو فرضنا أن الله لم يسخرهم غيرة على دينه وحرمه أليس من الواجب أن نكون أشد اجتهادًا في جمع كلمتنا؟!!.”.وبخصوص الحض على خذلان العثمانيين يقول: لقد قام أنور باشا ناظر الحربية العثمانية أخيرًا بدعوة دينية وقد ثبت لدى الجامعة العربية (الحزب السري) أن الغرض من ذلك سياسي لا ديني وهو إغراء دولة ألمانيا وخداع العرب حتى لا يعملوا لأنفسهم شيئا وحتى يتمكن أنور باشا من استخدام ما لديهم من الرجال والمال عند الحاجة إليه.وفي الوقت الذي يتحدث (الناموس) بثقة عن سياسة بريطانية جديدة تجاه العرب دفعته لاتخاذ هذا الموقف والسعي لتعميمه نراه يعتمد مبدأ التشكيك في عقيدة خصوم بريطانيا العظمى ويتساءل عن صدق إيمانهم!!.وتشير نفس الوثائق إلى أن خيوط مؤامرة بث الفرقة بين المسلمين قد انطلقت قديما من لندن. وهذه نقطة في غاية الخطورة وهي تفجير قضية الطائفية في مصر، ومما يثبت ضلوع رشيد رضا في العمالة الإنجليزية أنه أول من فجر هذه القضية في العصر الحديث والمعاصر من خلال مقالاته ومن خلال كتابه “السنة والشيعة”. إن هذا النهج السلفي الوهابي الذي اتبعه رشيد رضا استتبع معه قطيعة بين أهم منظومتين إسلاميتين، السنة والشيعية. بيد أن التفسير المنطقي الذي يفسر هجومه على الشيعة عامة وشيعة لبنان وسورياالذين كانوا عماد الثورة في سوريا الكبرى هو وجود ارتباط بينه وبين الاحتلال الفرنسي إضافة لعمالته للوهابية السعودية.

تمكنت الوهابية مع بداية العشرينيات من استقطاب محب الدين الخطيب (1886-1969م)الذي تنقل من العمل مع العثمانيين، ثم رحيله إلى مصر والالتحاق باستاذه محمد رشيد رضا العميل الوهابي الإنجليزي في مصر، ثم عاد مرة أخرى لخدمة الشريف(حسين) حتى يكون عينًا لابن سعود والإنجليز في الحجاز، وهو الدور نفسه الذي لعبه في دمشق مع فيصل بن الحسين. ثم وفد إلى مصر فارًا من وجه العثمانيين بالشام بعد اتهامه بالانتماء إلى حركة تحرير تركيا الفتاه المناهضة لدولة العثمانيين. حيث قام محب الدين الخطيب بتأسيس المطبعة السلفية ومكتبتها بمنطقة الروضة والتي شهدت ميلاد أول كتاب وهابي في مصر ثم توالت من بعد ذلك الكتب الوهابية والحنبلية والتيمية التي تخدم الخط الوهابي. وقام الخطيب الذي كان على صلة وثيقة بعبد العزيز بن باز أحد رموز الوهابية آنذاك بتحقيق كتاب فتح الباري شرح البخاري لابن حجر العسقلاني المصري والسطو عليه وحذف شروحات هامة منه تصطدم بالخط الوهابي، وقد أقر بذلك في مقدمة الكتاب الذي صدر فيما بعد عن طريق المطبعة السلفية،وأصبحت الطبعة الخاصة بفتح الباري التي نشرها الخطيب هي الطبعة الشائعة في مصر والمتداولة بين أيدي الشباب المسلم وعناصر التيارات الوهابية، وذلك بالإضافة إلى الكتب الأخرى التي قام بنشرها في دائرة الخط الوهابي. كما أصدر الخطيب مجلة (الزهراء) وهي مجلة أدبية اجتماعية دامت خمس سنين، ثم أسس جريدة (الفتح)، ثم تولى تحرير مجلة (الأزهر) ست سنوات.وفى عام 1930م حدثت محاولة ثانية لاستهداف الأزهر، عن طريق دس كتب ابن القيم، وابن تيمية لتدريسها فى المناهج الأزهرية بعد أن كانت ممنوعة داخل الجامعة منذ مائتي عام، ولكن الشيخ الدجوى (عضو هيئة كبار العلماء) نجح فى إجهاض هذه المحاولة ولم يكتف بذلك بل اتهم ابن تيمية بالخروج عن الإسلام..أما عن الدور الخطير الذي قام به محب الدين الخطيب في بث الفتنة بين الشيعة والسنة كانت من خلال كتبه وخاصة كتاب (الخطوط العريضة) وتذكر الوثائق البريطانية السابق الإشارة إليه،التي تتحدث عن مهمة الخطيب إلى منطقة الخليج ويترجمها الدكتور برج كالآتي:”لقد أرسلوا مندوبين يُعتمد عليهم واختاروهم بأنفسهم إلى الجزيرة العربية وفلسطين لكي يبلغوا الرسالة شفويًا إلى الزعماء العرب في تلك الأقطار ووضعت تحت تصرف قادة الحركة مبالغ ضخمة”. ووفق ما يوضحه أحمد راسم النفيس في جريدة القاهرة: “كانت هذه هي ترجمة المؤلف المهلهلة في حين تتحدث وثائق المخابرات البريطانية التي نشرها والمرسلة من شيتهام إلى مقر قيادته “أن قادة (الجامعة العربية) أرسلوا عملاء يمكن الوثوق بهم لتبليغ الرسالة المشار إليها كما حدد شيتهام مناطق انتشارهم طالًبا من عناصر الإدارة البريطانية تسهيل مهمتهم وتم تسليم مشغليهم كميات كافية من الأموال تمكينًا لهم من أداء مهمتهم. ولا يفوتنا أن ننوه إلى العناية الخاصة التي حظي بها محب الدين الخطيب من خلال رسالة موجهة إلى السير هنري مكماهون أورد المؤلف صورتها في كتابه تطلب منه التدخل للإفراج عنه بعد اعتقاله في البصرة وتؤكد أن الرجل كان مكلفًا بمهمة رسمية من قبل الإدارة البريطانية، لماذا؟!“.وبذلك كان محب الدينالخطيب يقف في نفس خندق الدين السلفي الوهابي مع استاذه وزميله في العمالة رشيد رضا، وهما من قاما بحرث الأرض وغرس البذرة.

كان محمود خطاب السبكي أول مصري يلعب دورًا في حرث الأرض المصرية ووضع البذرة الوهابية بعد الشامييان رشيد رضا ومحب الدين الخطيب،وهو يشترك مع سابقيه في أنه كان صوفيًا أشعريًا المشرب، وما يميزه أيضا عنهما أنه أنشأ مؤسسة (قانونية) اجتماعية وكان ذلك في تسعينات القرن التاسع عشر الميلادي،فالسبكى صاحب “الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة”، والتحق بالتعليم الأزهري على كبر ولهذا يمكن وصفه هو وسابقاه بأنهم من الدخلاء على علم الدين، وعندما تم إصدار قانون الجمعيات سجل السبكي جمعيته وفق هذا القانون عام 1913م، بعدها تحولت الجمعية من جمعية صوفية إلى جمعية وهابية بفضل صفقة مالية وهابية تم على اثرها تحويل مسار الجمعية تماما إلى الدين الوهابي الجديد،وظلت تعمل حتى اليوم ولها فروع كثيرة بكل محافظات مصر وعادة ما يقودها علماء من الأزهر الشريف تم استقطابهم على الأرضية الوهابية، ويتبع كل فرع من الفروع المتعددة والمنتشرة مسجدًا لإقامة الشعائر وإلقاء الدروس وحتى يكون المسجد مكانًا مستمرًاللاستقطاب. وكان الخطاب السياسي لمجلات هذه الجمعية ولبعض دعاتها في المساجد قائم على أسلوب هدم أهم مكونات الهُوية المصرية من عادات وتقاليد وسمات شخصية محبة للحياة ومبجلة للعلم والعلماء، ومتشوقة للفن والإبداع، ومخترعة للمرح والانتهاج، وإن تم ربط هذا العدوان على الهُوية المصرية من خلال النقد السياسي الجزئي العشوائي، فهو لا يطالب بتغيير شامل ومتكامل كما أنه لا يطرح برنامجًا متكاملًا ومحددًا للإصلاح أيا كان جوهره، بل يكتفي بتوجيه النقد للعديد من قضايا الفساد والفشل السياسي والاقتصادي وإن كان تركيزهم الأكبر على قضايا الأخلاقيات، ويقتصر تناولهم لأي من هذه القضايا على بعض جوانبها الجزئية دون الإطار الكلي لها الذي ينتظمه النسق السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي العام. وركزت الجمعية اهتمامها الأكبر على القضايا ذات الطابع الوهابي أو التي تتمحور حولها الوهابية كإطلاق مسمى البدع على كل شيء ثم الدعوة لتغييرها، أي الهجوم على كل ما يخالف النسق الأخلاقي البدوي، بما يعني تشويه أغلب مكونات الهوية المصرية لعدم الانسجام بين طبيعة الشعب المصري وبيئته الزراعية النهرية وتلك الأفكار والسلوكيات البدوية الصحراوية.وتم تكفير وتفسيق زوار الأضرحة عامة والصوفية خاصة، والدعوة لإبطال العمل بالمذاهب لأن دعاة الجمعية الشرعية مرجعهم الأساسي كتاب الشيخ محمود خطاب السبكي “الدين الخالص” وهو موسوعة فقهية حنبلية تيمية وهابية ضخمة تذكر معظم الآراء الفقهية بأدلتها ثم ترجح أحدها. وترىالجمعية أن مشكلة الأمة الإسلامية تكمن في البدع والخرافات التي دخلت على الدين ومنها العديد من طقوس التصوف، وانه إذا تم تنقية الدين من هذه البدع سوف يعود للأمة مجدها وعزها!. كما عملت الجمعية في مصر على خلق مجتمع جديد وغرس مؤسسات بديلة، وهي تمصيرلتجربة الهجرات التي أقامها الإخوان السعوديون،وتقوم بتكوين مجتمع جديد بعلاقات جديدة والعمل على هدم القديم وتخريبه، وقد وعي الشيخ السبكي إلى ضرورة إقامة مؤسسات بديلة وموازية للمؤسسات الحكومية، وفي إطار المؤسسات الاقتصادية قام السبكي بعمل صندوق خاص يحفظ موارد الجمعية واشتراكات الأعضاء واستثمار ذلك في مشروعات الجمعية، ونبه السبكي الجماهير على ضرورة مقاطعة البنوك الربوية، رغم أن الجمعية كانت تملك أكثر من حساب في أكثر من بنك من هذه البنوك سالفة الذكر. ودعا السبكي إلى مقاطعة المحاكم الحكومية التي لا تطبق الشريعة الإسلامية وأنشأ من جانبه عددًا من المحاكم الأهلية، وقد نص قانون الجمعية الأول على أن يعاون مجلس الإدارة لجنتان إحداهما لجنة المحكمين وتقوم هذه اللجنة بالتحكيم في المنازعات التي تنشأ بين الأعضاء أو الراغبين من الأهالي حتى لا يلجأ المسلمون إلى تحكيم القانون الوضعي في المحاكم وحتى تبقي الألفة بين المسلمين. وعندما توفى محمود السبكي في 7 يوليو 1933م عن عمر يناهز 75 عامـًا، نعاه رشيد رضا في مجلته بقوله:”… فاجأت المنية هذا الأستاذ الكبير، والعالم الشهير، وقد كان إمامًا في الهداية إلى العبادة والتقوى والنهي عن البدع والمعاصي يتبعه ألوف كثيرة منتشرون في القطر المصري كله يُنسبون إليه، وكان مواظبًا على التدريس وله مصنفات كثيرة مطبوعة آخرها شرح لسنن أبي داود صدر منه خمسة أجزاء، ولم أطلع على شيء منه، فرحمه الله تعالى، وجزاه أفضل الجزاء”. وردًا على متشددي الوهابية الذين انتقدوا السبكي رد رشيد بقوله:”اشتهر الشيخ محمود خطاب السبكي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا سيما البدع الفاشية والحث على السنن الصحيحة قولًا وخطابةً وتدريسًا وكتابةً مع العمل في زمن يقل فيه من يقوم بهذه الفريضة من العلماء، واشتهر أنه قد تاب على يديه وانتفع به خلق كثيرون حتى صار إمامًا يتبعه ألوف من الناس يُنسبون إليه فيُسمون السبكية، وأعرف أفرادًا منهم من الأزهريين وغير الأزهريين هم سلفيون بقدر ما يعلمون من مذهب السلف، ومنهم من له عناية بنشر مذهب السلف وكتبه كالأستاذ الشيخ منير الدمشقي الكتبي المشهور”.

استقطبت الوهابية بعد ذلك احد رجال الأزهر المتشددين وهو الشيخ محمد حامد الفقي (1892-1959م)، والذي قام بدوره بتأسيس قاعدة هامة للوهابيين في مصر وهى جماعة (أنصار السنة المحمدية) عام 1926م،وبمشاركة مجموعة أخرى هم: محمد عبد الوهاب البنا، ومحمد صالح الشريف، وعثمان صباح الخير، وحجازي فضل عبد الحميد، وكان جهد هؤلاء منصب على مهاجمة المؤسسة الدينية الرسمية(الأزهر)، وقد تبنت الوهابية قلبا وقالبا وأخذت تدعو لها من فوق المنابر وقامت بإصدار مجلة تحت اسم (الهدى النبوي) عام 1926م، غير اسمها فيما بعد إلى (التوحيد) التي مازالت تصدر حتى اليوم، كما تمكنتالوهابية من استقطاب العديد من رجال الأزهر وبعض رجال التعليم مثل عبد الرازق عفيفي وعبد الرحمن الوكيل ومحمد على عبد الرحيم (الذي كان له دوره البارز في فترة السبعينات داخل الجامعة المصرية حيث تمكن من تعبئة الطلاب بالأفكار الوهابية،وأولئك الطلاب هم الذين قامت على أكتافهم الجماعات الإسلامية فيما بعد). وكان الثلاثة المشار إليهم قد عملوا في مجال التدريس في الجزيرة العربية فترة طويلة. وعفيفي على وجه الخصوص أقام هناك إقامة دائمة حتى أصبح من هيئة كبار العلماء.. وقد عملت الجماعة طوال الفترة الملكية على السعي الحثيث دون أن تدخل في معارك مع أحد له وزنه وقيمته، ورغم أن مركزها الأول كان بحي عابدين بالقاهرة وسط العاصمة إلا أن نشاطها كان محصورًا في الطبقات الدنيا والقرى والأرياف، وكانت هذه الفترة كافية لتتمكن من الواقع الاجتماعي المصري والتأثير على العقل المسلم وتشكيله وذلك لكون الساحة لمصرية كانت مشغولة آنذاك بالقضية الوطنية ومقاومة الاحتلال الإنجليزي. فزاد عدد الفروع داخل القاهرة والجيزة وانتقلت إلى الإسكندرية وبعض المحافظات وبلغ أتباعها الآلاف، ومع تطور أعمال الجماعة الدعوية أنشأ الفقي مطبعة “السنة المحمدية” لنشر كتب السلف وبوجه خاص كتب ابن تيمية وابن القيم، وابن عبد الوهاب.كما تم استغلال الجناح المحافظ من الحزب الوطني من أنصار الخلافة العثمانية من أمثال الشيخ عبد العزيز جاويش واللواء محمد صالح حرب وعبد الرحمن عزام وعبد الحميد سعيد. ثم تأسست جمعية الشبان المسلمين الوهابية عام 1927م بمساعدة ودعم محب الدين الخطيب،حيث انتخب عبدالحميد سعيد ليكون أول رئيس للجمعية، وهي الجمعية التي ضمت في عضويتها الشاب النشيط (حسن البنا). وكانت هذه الجمعية تمثل نقلة نوعية في انتشار الوهابية في مصر، من خلال ربط الأفكار بالممارسة السياسية الفاعلة علىالساحة المصرية. تحت دعاوى بث الآداب الاسلامية والأخلاق الفاضلة والسعي لإنارة الأفكار بالمعارف والعمل على بث روح الشباب والفتوة والتمرس على الرياضة، والتي تم ترجمعتها بالعمل على هدم روح التسامح والتعايش التي تميزت بها مصر طول تاريخها باستثناء بعض الفترات الهامشية.

قدم رشيد رضا بدوره المدرس الشاب حسن البنا (1906-1946) الذي تتلمذ على يديه وارتبط بفكره السلفي وبمدرسة “الدعوة” وبمجلة “المنار”، إلى حافظ وهبة مستشار الملك عبدالعزيز بن سعود، وإلى السعودية. وهو الذي قام بصياغة أهداف الجماعة التي تبناها حسن البنا آنذاك، وتتلخص في العودة إلى أصول الإسلام الأولى (المدرسة الوهابية)، ومجابهة المد الوطني لحزب الوفد، ومناهضة أفكاره الليبرالية، ومقاومة الفكر الاشتراكي، ودعم شرعية الملك، ومقاومة الفكر التنويري والديمقراطية وقطع كل محاولة للوصول إلى منابع الحضارة الحديثة، واعترف حسن البنا في مذكراته (الدعوة والداعية) بصلته بحافظ وهبة والدوائر السعودية، وأنه كان وثيق الصلة بالسعودية ويتلقى منها المعونة، وكان حسن البنا يتمتع بإمكانيات تنظيمية كبيرة، فبعد أن هيأ شيوخه الأزهريون له القاعدة الأيديولوجية، قام هو بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928م على شكل تنظيمات شبه عسكرية بواجهة جمعيات خيرية، ولكنها تقوم بتدريب الأعضاء الشباب على السلاح وتحضيرهم للأعمال المسلحة ضد المعارضين، وبدعم مالي من السعودية مستغلين فقر حال الشباب في مصر، وبذلك تلخص فكر حسن البنا في بعث الإسلام الأصولي لا الاجتهاد فيه، وقطع كل محاولة للتصالح أو التوفيق مع الحضارة الغربية، على أساس أنها “حضارة مادية مريضة، ملوثة بالإلحاد، وأن إسلامنا وحده بشموليته وتفرده  قادر على التصدي لكل تفاصيل حياة الفرد والمجتمع دون حاجة إلى أي اقتباس أو استعارة من حضارات أجنبية”، وبذلك فإن الأخوان المسلمين في مصر هم الطبعة المصرية من الوهابية النجدية الأعرابية، ومن ذلك نعرف أن الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين هو عملية تغيير المسلمين من أهل السنة، من مذاهبهم المسالمة المتسامحة عبر قرون، إلى الوهابية التي تكفر ليس غير المسلمين من أصحاب الديانات الأخرى فحسب، بل وتكفر كل من لا ينتمي إليها حتى من المسلمين من أصحاب المذاهب الأخرى، وبالأخص الشيعة والصوفية بمختلف فرقهما وتفتي بقتلهمم.ومن ثم يمكن القول بأن علاقة المؤسس حسن البنا بفكر رشيد رضا وحركته السياسية قد قادته وجماعته من الإخوان المسلمين للارتباط بشكل أو آخر بالمذهب الوهابي والنظام السعودي من أجل تمصير التجربة الوهابية السعودية.كما لعب محب الدين الخطيب دورًا مشابهًا للتمهيد لحركة الإخوان المسلمين في مصر من خلال “المكتبة السلفية”، كمانشر بواسطة مطبعة “المنار” الكثير من مؤلفاتهم وغيرها من التراث السلفي الذي تقوم عليه الوهابية.

منذ البداية كان حسن البنا واضحًا وصريحًا في تنفيذ المهمة التي كُلف بها. وتبنى الفكر الوهابي على طريقة جماعة “الإخوان” السعودية، وهم التنظيم الأكثر تطرفًا وظلامية داخل منظومة الوهابية السعودية، حتى أن النظام السعودي نفسه لفظها في مرحلته الأخيرة بعد احتلال الحجاز، وتصادم معها، وانقض عليها حتى تم تصفية كل خلاياها التنظيمة والاقتصادية،وإلحاق فلولهم بالكيان الوهابي المدجن بزعامة آل الشيخ، الموالي بشكل كامل لسلطة آل سعود، وذلك كما أوضحنا سابقًا بشيء من التفصيل. ورغم هذا التصادم والعداء بينهما إلا ان الكيان السعودي رأى أن هذه الصيغة التكفيرية والإرهابية هي الأكثر فاعلية في تحقيق مساعيه لتغير الوجه الحضاري في مصر والدول المجاورة وتغيير مسار تلك الدول إلى مسار ظلامي واستبدادي.ووفقا لما ورد فى كتابه(مذكرات الدعوة والداعية)يذكر البنا أنه في مارس عام 1928م زاره ستة من أصدقائه حيث تمت بينهم بيعة للعمل على الإسلام، وعندما أرادوا أن يطلقوا على أنفسهم اسم جمعية أو نقابة أو ناد أو طريقة، رفض البنا كل هذه الأشياء الرسمية وقال لهم: “نحن الإخوان المسلمون”. إذن الاسم كان حاضرًا في ذهن المرشد بناء على الاتفاق والمهمة التي كُلف بها من قبل حافظ وهبة. هذه الخطوة كانت تستلزم نسف كل المذاهب والطرق القديمة التي لا تعبر عن الإسلام (من وجهة نظره) وأن إنكار هذه المذاهب الفقهية والطرق الصوفية لأنها لا تستقى من منبع الإسلام الصافي على حد وصفه: “يجب أن نستقي النظم الإسلامية من معين السهولة الأولى، وأن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية، حتى لا نقيد أنفسنا بغير ما يقيدنا به الله”. فهذا الفهم الوهابي للدين الذي تنقطع حدوده عند مفهوم السلف والتابعين وكأنه يطيح بجهد الأمة عبر ألف عام من الزمان. كما أنشأ حسن البنا فرق الرحلات أو الهجرات الجديدة بالصيغة المصرية،ففى عام 1934م عرض البنا على المؤتمر العام للإخوان إضافة مستوى رابع في العضوية الإخوانية وهي(الأخ المجاهد) والتدريب على الجهاد وتنفيذ أوامر الإسلام وبدأ البنا في إعداد هذه الفرقة المسماة(فرقة الرحلات). ومن الجدير بالذكر أن هذه الفرقة وفي خلال أقل من أربع سنوات كانت قد ضمت عددًا كبيرًا وانتظم فيها كم هائل احتشدوا في استقبال الملك فاروق ووصفت هذا الحشد مجلة الإخوان المسلمين “حشد لم يسبق له مثيل”.. وعلى نفس المنهج الوهابي كان “البنا” يسعى لإقامة الخلافة الإسلامية (حكومة الإخوان المسلمين)، فيقول البنا: (هل في منهاج الإخوان المسلمين أن يطالبوا بالحكم؟ولا أدع هؤلاء المتسائلين أيضا في حيرة ولا نبخل عليهم بالجواب (!!) فالإخوان المسلمون يسيرون في جميع خطواتهم على هدي الإسلام الحنيف كما فهموه، وهذا الإسلام الذي يؤمن به الإخوان يجعل الحكومة ركنًا من أركانه ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد، وعلى هذا فالإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل هذا العبء وأداء الأمانة والحكم بمنهج إسلامي قرآني فهم جنوده وأنصاره وأعوانه وإن لم يجدوا فالحكم من منهجهم وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله”. وفي الوقت الذي كانت تسعى فيه الجماعة المصرية للتحرر من الاستعمار وفساد الملك كانت الجماعات الوهابية في مصر تسعى بكل ما أوتيت من قوة لالتهام أكبر قدر من الجماعة المصرية وتوسع نشاطها من القضايا العقائدية حتى الحديث عن العادات والتقاليد وشرعيتها، أي أن هذه الجماعات عملت على أن تقبض على مصر قبضًا كاملًا. وفى الوقت الذي كانت جماعة الإخوان المسلمين تحاول نقل عمليات التصفية للخصوم السياسيين والأيدلوجيين، كان رشيد رضا يتولى مهمة شرح مبادئ الوهابية وسيرة محمد بن عبد الوهاب مؤسس الدعوة الوهابية وأحمد بن حنبل الذي استمدت منه الدعوة أصولها الفقهية وأحمد بن تيمية الذي بذر بذور الدعوة وتلميذه ابن القيم وأتباعهم مؤكدًا أنهم وحدهم هم الموحدون وغيرهم من المسلمين مشركين.

هكذا.. بعد أن كانت مصر تحاول جاهدة مواكبة حضارة العصر الحديث، وانجزت خطوات كبيرة ومهمة في الطريق إلى التقدم والتطور والحداثة والديمقراطية، واستطاعت التغلب على الكثير من العقبات المجتمعية والسلطوية الموروثة في حدود استطاعتها ولكن بشكل متواصل ومتراكم ومتطور في أغلب الأحوال. وذلك رغم الاحتلال والفوارق الطبقية الحادة. هنا جاء السرطان الوهابي ليخلق حصانة اجتماعية للظلامية والرجعية وتغييب العقل بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الأمة المصرية. تلبست بسمات هادمة ومخربة ومجرفة لكل ما هو متقدم ومستنير وتقدمي وجميل في مسيرتنا من أجل التقدم والتحرر. فنجد غالبيتهم يتفقون في سمات مشتركة كارثية على أي شعب أو دولة أو أمة تحاول النهوض، وخاصة وأن الأمة المصرية لم تكن قد تخلصت تمامًا من بقايا سمات العصور الوسطى، وتلك مرحلة حرجةوقابلة للانتكاسة التي قد تؤخر انجاز مهمتها التاريخية… وقد كان. فقد ترك الوهابيون العقل والنظر واخذوا بظاهر الخبر فكل ما كتبه ابن تيمية التكفيري والظلامي هو بنظرهم كلام إلهي، ومشروعهم الديني كله مختزل في مسائل القبور والسحر والعذاب ولا شيء غير هذا. وهم داعمون للاستبداد بتكرارهم للحديث الملفق (وأطع الأمير وان جلد ظهرك واخذ مالك وهتك عرضك) والكثير غيره، وأصبح لديهم الراد على ابن تيمية كالراد على الله، واقصائيون أحاديون ظلاميون انقراضيون لايفكرون سوى بالماضي المنقرض. ويكتسون بذهنية ديماغوجية (اللاواقعية واللاعقلية)، لا تجد أبدًا في خطبهم ومحاضراتهم كلاما عن التسامح الديني أو اليسر في الإسلام أو محاربة التطرف أو الغلو في الدين.وكل من يخالف أفكارهم رجس من عمل الشيطان،ويسمون التجديد والحضارة هرطقة، وأدعياء ناصية الحق، وأسرى النصوص الصفراء،ويعطون لأنفسهم الوصاية على الناسليتدخلوا بخصوصياتهم، وجعلوا الجنة مقاطعة لأتباعهم وجعلوا النار لمخالفيهم، ومن أخص خصائصهم اليقين في موارد الظن وفرض الوصايا وتقديس المرجعيات (أشخاص وهيئات وجماعات). ولديهم سوء الظن بكل من ليس وهابيًا، والارتياب من كل جديد، ويعتبرون المسائل الاجتهادية أو الخلافية من المسائل العقدية أو من الثوابت التي تخرج من الملة، ويعتبرونأنفسهم الممثل الشرعي والأمين الوحيد للدين. وأنهم المتحدثون باسم الله، يرون أنفسهم ملاك الحقيقة المطلقة الذين يحملون الأحكام المسبقة والأوصاف والتوصيفات الجاهزة لكل من يخالفهم أو يخطئهم أو يريد تنويرهم، ولا يرون الحق إلا فيما يقولون، ويتحالفون مع أي سلطة ولولا هذه الحصانة لما كان لهم وجود، وخطابهم افتخاري وعقليتهم هجائية، لا يفرقون بين الدين والتدين ولا بين المبادئ والأشخاص، ويجسدون المبادئ في أشخاص.كما أن خوفهم من الغزو الفكري والثقافة والحداثة ومقتضيات العصر دفعهم إلى التقوقع على ذاتهم والتفرغ لكل ماهو ماضي غابر.ويخلطون بين الوحي والتاريخ في المرجعية، وبين المبادئ والوسائل، وبين القرآن والرأي الديني.ويطوقون للماضي فقط لعدم قدرة الذات على التكيف مع المستجدات والمتغيرات بسبب اغتراب الذات. ووضعوا الفكر الديني فوق الدين، كما أنهم أصحاب فقر دم فكري ولذا فإنهم لا ينجبون مبدعين أو مبدعات، وعقليتهم حتمية بمعنى إنهم ينظرون إلى الأسلاف بقدسية مطلقة. ويرتعبون من أفكار الآخر الليبرالي أو الفرق الأخرى ثم يستشهدون بالحديث النبوي (إن هذا الدين متين) و(لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه) إذن فعلام الارتعاد والارتجاف؟!. ويظل منطق الوهابية مع من يخالفهم (قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار). وانتشر التدين الظاهري بشكل كبير وملأ ربوع المحروسة، متمسكين بالادعية المعلبة من كتب التراث. واختصار التدين في منطق المتاجرة مع الله، وقلت النزعة الإنسانية تمامًا في دعواهم، وهي النزعة التي تحلت بها الصوفية باعتبارها احدى أكثر مظاهر التدين المصري انتشارًا قبل الغزو الوهابي.فلا فرق أبدًا بين محاكم التفتيش وميليشيا الأمر بالمعروف. ولضخامة عددهم وتنوع انتماءاتهم الطبقية، وتنوع مستوياتهم الاجتماعية، فلم يسلم المجتمع من الكثير من خصائصهم بحكم التعايش والتفاعل الإنساني، فذادت وتضخمت الأمراض الاجتماعية وأخذت مشروعية دينية… فماذا نترقب إذن من أمة ناهضة ابتليت بهذا السرطان؟..إنهم حقًا يحملون الخراب لأي أمة أو شعب أو دولة.. إنهم يحملون الخراب لمصر.

وقد انتهت هذه المرحلة بأن أصبح هناك عدة دوريات سلفية وهابية، ودور نشر ظلامية، ومؤسسات تتولى إعداد دعاة وهابيين إرهابيين فكرًا وممارسةً. وبالتالي أصبح هناك جيل من الوهابيين الجدد، ورصيد من الكتب التي تدافع بصراحة ووضوح عن الوهابية بشكل واضح ودون مواربة. وتم إعادة إحياء مقولات الأفغاني الرافضة للوطنية والتي تتنافي معحكمة التاريخ وخبرة الشعوب في أن ركيزة مقاومة المحتل كانت دوما هي الوحدة الوطنية والإعتزاز القومي والدفاع عن الوطن. كما حرفت الوهابية التاريخ المصري وبترته ليبدأ بدخول العرب مصر عام 641م، وذلك في أعقاب الاجتهادات العظيمة التي قام بها كوكبة من رموز الفكر والتنوير المصري لتركيز الضوء على الحلقات المُغيبة في التاريخ المصري القديم، الفرعوني واليوناني والروماني والقبطي المصري، مما دعم انفصام الشعب المصري عن تاريخة الحقيقي وشوه فكر الأجيال اللاحقة. وذلك بالتوازي مع تكفير رموز التنوير الحقيقيين، واتهامهم بالذندقة. والتشكك في ايمان الرموز الوطنية، والهجوم المسعور على مكتسبات المرأة المصرية الاجتماعية والدستورية والقانونية، ونشر الأفكار الظلامية عن المرأة والتي عفى عليها الزمن.كما عملت الوهابية على اضعاف روح التفكير العلمي التي تم تأصيل روافدها ومنابعها وكانت قد أخذت في التوسع في مصر، هذا علاوة على معاداة المبدعين في الفكر والثقافة والأدب والفن. وكذا العمل على تشتيت مجهودات الجماعة الوطنية الليبرالية وتفتيت الروح واللحمة الوطنية التي ميزت الأمة المصرية وتجلت طيلة مسيرة ثورة 1919م. وعملوا على زعزعت الثوابت الوطنية السياسية والمجتمعية التي التف حولها كل أطياف الشارع السياسي المصري. في الوقت الذي حرصوا فيه على عدم المساس بالاحتلال البريطاني أو بالملك وأعوانهأو المساس بأي شخصية ذي ثقل في الدولة تفاديا لأي صدام، بل وسعوا لاختراق أجهزة الدولة ذاتها بما في ذلك مؤسستي الجيش والشرطة. وذلك سعيًا لتحقيق الهدف الأسمى لأسيادهم الوهابيين، وهو تثبيط الهمة المصرية الفتية والناهضة والثائرة والواعية بأهمية وضرورة تماسك اللحمة الوطنية. وتمهيد المجتمع لقبول الاستبداد الديني (الوهابي). وتشويه الهوية المصرية من عادات وتقاليد وممارسات يومية، بل والمس بأعيادهم ومناسباتهم الوطنية، وأنماط السلوك وطرق المعيشة والأغاني الشعبية وتقاليد الزواج والمأكل والمشرب والملبس، والتحايا المصرية الجميلة والمتحضرة والفريدة والمميزة، وتقاليد الجيرة والعشرة المصرية العريقة والإنسانية، حتى وصلت إلى مفاصل دقيقة في الهوية المصري مثل استبدل السبوع بالعقيقة، والهجوم الممنهج على فن النحت المصري وتحريم الآثار، وتحريم الفن الشعبي المصرى، والموالد المصرية، وخطوط الكوفي الفاطمي، والثلث المملوكى، التى تمثل أعمدة فى الفن مثل أعمدة الكرنك، والكثر الكثير غيره… وكان بذلك زرع البذور الأولى لهذا السرطاني المدمر، التكفيري والظلامي والرجعي والإرهابي والاستبدادي، وذلكلتشويه الهوية المصرية، وتجريف الحياة المصرية، والتي أخذت نتائجها الكارثية تصيبنا تباعًا في كافة المجالات.. وهو ماسنحاول التطرق إليه لاحقًا بشيء من التفصيل.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك