الثلاثاء - الموافق 19 مارس 2024م

(11) جذور الفجوة الحضارية.. “عصر التنوير الأوروبي 4-5” بقلم الكاتب محمد السنى

 

بعد أن تعرفنا على (عصر التنوير الأوروبي)،وقمنا بتقديمأهم رواده، وعرضنا أهم منجزاتهم،وتطرقنا لخصائص هذا العصر العظيم،بمعنى النظر إليه من زاويةمجالات الحياة المختلفة،وأرضحنا الفروق الهائلة بين تطور المجتمع الأوروبي الغربي في تلك المجالات، وبين جمود واضمحلال وتجريف الأمة المصرية إبان الاستعمار العثماني، الذي تزامن مع عصري النهضةوالتنوير الأوروبيين؛نود في مقالتنا تلك، إلقاء الضوء على(القيم) الرئيسة،التي تشكلت إبان عصر التنوير الأوروبي، حيث قامت فلسفة عصر التنوير الأوروبي على جملة من القيم، التي أصبحت تشكل ملامحه،وتميزه عن غيره من العصور الأخرى.
ونود التنويه للقارئ الكريم،بأننا سوف نستشهد في مقالتنا تلك أيضًا، ببعض آراء رواد التنوير الأوروبي، وذلك لتوضيح الرؤية، وحتى يكتمل السياق، دون الوقوع في التكرار.
أولًا؛قيمة (العقلانية)،التي كانت تجسيدًا للتقدم والتحرر الفكري، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، والفني،الذي واكب التحولات البنيوية التي حدثت في أوروبا، والتي اعتبرت العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة الصحيحة (ديكارت، وسبينوزا)، وأكدت على احترام العقل بل وتقديسه، ونبذ الفكر الميتافيزيقي والأسطوري، وناضلت ضد الأيديولوجية الإقطاعية والكنسية، وعملت بلا هوادة من أجل سيطرة العقل لقدراته على إدراك وفهم الظواهر الطبيعية والاجتماعية.
فقديما؛ اعتقد سقراط (399-470 ق.م) بأن قبل أن يفهم البشر العالم؛ عليهم أن يفهموا أنفسهم أولًا، وأن التفكير العقلاني هو الطريق الوحيد لتحقيق ذلك.
وهنا علينا أن نتطرقإلى فهم الإغريق للعالم، لكي نعي ما قصد سقراط.
المرء بالنسبة لسقراط، يتكون من جزئين؛ الجسد والروح،والروح لها جزآن أساسيان؛ الجزء اللاعقلاني، وهو الخاص بالمشاعر والرغبات، والجزء العقلاني وهو النفس،ويرى سقراط أن في تجاربنا اليومية؛ الروح اللاعقلانية تنجذب إلى الجسد برغباته، وتندمج الروح اللاعقلانية معه، فيصبح إدراكنا للعالم محدود بما تؤتينا به حواسنا الجسدية،بينما الروح العقلانية هي أبعد من إدراكنا ولكن يمكن التواصل معها بالصور، والأحلام، وخلافه.
مهمة الفيلسوف إذن [كما يري سقراط] هي إصلاح، وفي نهاية المطاف استئصال الروح اللاعقلانية، وبالتالي الحاجةإلى الإصلاح الأخلاقي، وبعدها تفعيل الروح العقلانية كي يكون إنسانًا مكتملًا، ويظهر الجوهر الروحاني الأسمى، وهو ما زال في جسده.
إذن (العقلانية) الحقيقية بالنسبة لسقراطليست فقط عملية تفكير، وإنما تغيير في الوعي والطبيعة النوعية للمرء؛ الروح العقلانية تنظرإلى العالم بنظرة روحانية، ترى الأشكال الأفلاطونية، أو جوهر الأشياء.
معرفة العالم إذن، تحتاجإلى أن يعرف المرء روحه أولًا، وبالتالي: “يفهموا أنفسهم أولًا”.
سقراط لم ينشر أو يكتب أي من أفكاره، ولكنه كان دائمًا في مناقشات مع الآخرين؛ عادة كان يبدأ بطرح سؤال بلاغي، يوحي بأنه قابل للإجابة،وبعد الاطلاع على الإجابات من الآخرين، يستمر في طرح الاسئلة حتى تُحّل كل نقاط الخلاف، أو حتى يقر الآخرين على عدم القدرة على إجابة السؤال،سقراط لم يدعي أنه يعرف الإجابة؛ ولكن هذا لم يمنع قدرته على تناول المشكلات بشكل عقلاني، وكان هدفه في النهاية؛ طريقتنا الفكرية لفهم العالم معيبة، ووجب تجاوز ذلك للحصول على (معرفة حقيقية) لحقيقة الأشياء.
ومنذ عصر النهضة الأوروبية، وصولًا إلى عصر التنوير الأوروبي،ارتبطت (العقلانية) بإدخال الطرق الرياضية للفلسفة، كما هو الحال في أعمال الفلاسفة ديكارت،وسبينوزا، وليبنتز،ويُعّد هؤلاء الفلاسفة أهم الفلاسفة العقلانيين، ويُطلق على أفكارهم (العقلانية القارية)، لأنها كانت سائدة في المدارس الفلسفية القارية في أوروبا، بينما كانت (التجريبية) هي السائدة في بريطانيا.
أحدثت مناهج رينيه ديكارت تحول في نظرية المعرفة والتساؤل عن ما يمكن معرفته ويبقى كما رأى ديكارت؛ أن العقل وحده يمكنه الحصول على المعرفة بشكل مستقل عن حواسنا، حيث كان فلاسفة عصر التنوير يؤمنون بأن للبشر مَزِيَّة على كافة المخلوقات الأخرى، لأنهم يستخدمون عقولهم، وقد قابلوا العقل بالجهل والخرافة، والقبول غير المنتقد للسلطة، والتي كانوا يحسون بأنها في مجملها قد هيمنت على العصور الوسطى، وأنحو باللائمة على أصحاب السلطة [وخاصة زعماء الكنيسة الرومانية الكاثوليكية] لإبقائهم الآخرين جهلة، كي يحافظوا على سلطاتهم الشخصية.
وكان يُظَن بأن العقل هو القوة التي تُمكِّن الناس من رؤية الحقائق الرياضية، بنفس الوضوح الذي يمكنهم به رؤية يد أمام أعينهم بالإدراك البصري، غير أن الإدراك البصري ينتج فقط حقائق خاصة أو مشروطة،وقد أحدثت هذه الحقبة تطورات مهمة عديدة في مجالات شتى مثل علم التشريح، وعلم الفلك، والكيمياء، والرياضيات، والفيزياء… وعيرها.
كان فلاسفة عصر التنوير الأوروبي يؤمنون بأن لكل شخص إرادة عقلانية تمكنه من وضع الخطط وتنفيذها، كما أعلنوا بأن الحيوانات تستعبدها عواطفها؛ فعندما يكون الحيوان خائفًا من شيء ما؛ فإنه يحاول الهرب، أما عندما يكون غاضبًا؛ فإنه يقاتل، غير أن البشر يمكنهم تدبُّر وتقرير أفضل طرائق التصرف عندما يكونون خائفين، أو غاضبين، أو في ورطة، كما كان في استطاعتهم إجبار أنفسهم على فعل الشيء الصحيح، بدلًا من مجرد فعل ما؛ يبدو أنه الأسهل، أو الأكثر جاذبية.
أدركفلاسفة عصر التنويرالأوروبي بأن الناس لايخططون مسبقًا دائمًا، بل أنهم كثيرًا ما يتصرفون بالدافع، وعزوا ذلك إلى التعليم غير الكافي، وكان الفلاسفة يؤمنون بأن كافة الناس يولدون بالقدرة على استخدام العقل،والعقلانية هي( قيمة القيم) في فضاء التنوير، وتُطلق على الفكر الذي يحتكم إلى الاستنتاج العقلي أو المنطق؛ مصدرًا للمعرفة أو للتفسير، وبمعنى أدق؛ هو المنهج الذي يتخذ من العقل والاستنباط معيارًا للحقيقة، بدلًا من المعايير الحسية.
كما كان فلاسفة عصر التنوير الأوروبي يؤمنون بإمكانية تطبيق (المنهج العلمي) على دراسة الطبيعة الإنسانية.
وللعقلانية أوجه شبه مع حركات ثقافية أخرى هي الإنسانية واللاإلهية، وجه الشبه يتجلى أساسًا في محاولة إنشاء إطار للتوجهات الفلسفية والاجتماعية بمنأى عن المعتقدات الدينية والغيبية، أما أوجه الخلاف؛ فالإنسانية تميل دائمًا نحو إعطاء الإنسان قيمة مركزية والتأكيد على أهمية منجزاته، في حين لا تعتبر العقلانية الإنسان جزءًا مميزًا عن باقي الطبيعة بما عليها من كائنات، أما اللاإلهية فهي ترفض وجود الآلهة والعقائد الإلهية وتميل دائمًا لرفض وجود الذات الإلهية، بينما لا تحدد العقلانية موقفًا من هذه القضية، وترفض فقط أي اعتقاد يستند إلى الإيمان فقط.
وفي كثير من الأحيان، تُفَسّر العقلانية على أنها تقابل التجريبية، ولكن بنظرة أكثر شمولية؛ الإثنان ليسوا متنافيين، والعديد من الفلاسفة ممكن أن يكونوا عقلانيين وتجريبيين.
مؤيدو بعض من اشكال العقلانية يجادلون بأن إذا بدأنا من قواعد اساسية كمسلمات الهندسة، من الممكن استنتاج كل المعرفة التي يمكن معرفتها، الفلاسفة سپينوزاولايبنتز كانوا أبرز من تمسكوا بهذا الفكر، ومحاولتهم لفهم المشاكل المعرفية والميتافيزيقية التي أثارها ديكارت، أدت إلى تنمية النهج الأساسي للعقلانية،سبينوزا وليبنتز قالوا أن من حيث المبدأ كل المعرفة، بما فيها المعرفة العلمية، يمكن الحصول عليها من الاستنتاج وحده، ولكن لاحظوا أن ذلك غير ممكن، من حيث التطبيق للبشر إلا في مواضيع معينة كالرياضيات، ولكن ليبنتز أيضا أقر بأن: “كلنا تجريبيون في ثلاث أرباع أفعالنا”.
بينما لم تبرح مصر منهجية (علم الكلام)، وهو علم إقامة الأدلة على صحة العقائد الإيمانية، والتي أسسها المهتمون بعلوم الدين الأوائل، مثل المعتزلة، والجهمية، والخوارج، والأشاعرة، والصوفية، والسلفية، والإمامية، والزيدية، والإسماعيلية والأباضية… وغيرها، والتي كانت تدور في فلك اثبات وإنكار الأدلة الألوهية، وتوالدت وتكررت تلك المدارس الكلامية القديمة، بأشكال جديدة لا متناهية، وأصبحت تشكل الملمح الفكري في مصر إبان حقبة الاستعمار العثماني.
وبذلك تعمقت الأيديولوجياالميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة)في مصر إبان حقبة الاستعمار العثماني،وهي فلسفة تأملية جدلية، لا تنتج مايعود بالنفع على الواقع، بالإضافة على أن اهتمامها بالغيبيات يجعل نتائجها غير قابلة للتحقق الواقعي الملموس، وبالتالي لا تثمر منفعة عملية للإنسان في حياته اليومية، وبذلكتأصل التفكير الغيبي، والاسطوري، والعاطفي، في إدراك وفهم الظواهر الطبيعية والاجتماعية لدى المصريين، واقترن ذلك باستفحال وباء الجهل والخرافة، والقبول غير المنتقد للأفكار والمبادئ السائدة، كما عمد المحتلون العثمانيون، على إبقاء المصريين جهلاء وبؤساء، كي يسهل تلجيمهم،من أجل الاحتفاظبالغنيمة الكبرى (مصر)، وتعظيم سلطاتهم، واستفحال منافعهم الشخصية.
وكان ذلك نتيجة لاستمرار نفس النظم الاقتصادية القديمة في مصر المنكوبة، ممثلة في الإقطاعية، واستمرار نفس وسائل الإنتاج البداية، ومن ثم غياب الحراك الاجتماعي، وتعمق الطبقية الحادة، وسيادة نفس الطبقات الرجعية السائدة، المستفيدون من تلك الأوضاع البائسة، والساعون دائمًا لتأصيلها، وأدلجتها، وإلباسها ثوب الدين في أغلب الحالات.
ثانيًا؛قيمة (الحركية التاريخية)، وهي قيمة رئيسة من قيم عصر التنوير الأوروبي، تثبت أن الحداثة قامت على معقولية التحول، وخلصت إلى تصور حركي للمجتمع ينمو ويتطور ويراكم الخبرات، وهي تعارض الفكر السائد في أوروبا آنذاك، الذي كان يرى أن الناس بحاجة للاعتماد على الكتاب المقدس والجهات الدينية، من أجل الحصول المعرفة الخاصة بتفسير حركة الكون، وتطور المجتمعات، وترى العقلانية أن للواقع الاجتماعي بنية عقلانية يمكن استيعابها بالمنطق، وترى أيضًا أن بعض الأمور يمكن معرفتها باستخدام الحدس وحده أو من خلال الحجج الصحيحة القائمة على المنطق واستخدام العقل، كما أن العقلانية لا تتفق مع أن يكون العقل مجرد صفحة بيضاء، تُمْلي عليها التجارب الحسية ما يجب أن تكون.
ظهر إبان عصر التنوير الأوروبي التوجه التحرري؛ الذي يدعو في دراسته للتاريخ إلى التحرر من قيود التقاليد، ويؤمن بسيادة العقل، ويثق في قدرات الإنسان على صياغة مستقبله، لتحقيق التقدم والوصول إلى الكمال في حياته، وقد مهّدت أفكار هوبز ولوك حول المجتمع الطبيعي لهذا التوجه الذي أصبح تيارًا مؤثرًا في الثقافة الأوروبية في القرن الثامن عشر بفضل جهود كل من فولتر، وديدو، وكوندورسي، ومونتيسكيو.
كما ظهر التوجه العقلي، الذي يعتمد على التحليل النظري، ويحاول عقلنة حركية التاريخ، بتجاوز البحث في مظاهر الأحداث إلى محاولة فهم دوافعها الكامنة، وأخذ به الفلاسفة المثاليون بألمانيا خاصة، وفي مقدمتهم يوهان غوتليب فيخته (1762-1814م)، وأرتور شوبنهاور (1788-1860م)، وفريدريش هيجل (1770-1831)، والذين بنوا أفكارهم على الفلسفة المثالية المتعالية لإيمانويل كانط.
فقد عرض هيجل تفسيرًا متكاملًا للتاريخ، من خلال جدلية تاريخية تقوم على مبدأ صراع الأضداد، بحيث تغدو صيرورة التاريخ وتطور الأحداث مرتبطة بفكرة الوعي بالذات، ويغدو الفعل الإنساني من خلال سير التاريخ مرتبطًا بفكرة الحرية، ومحاولة تموضع الروح في توقها للكشف والإفصاح عن نفسها،ويركز في دراسته لأحداث التاريخ على تطور وتعاقب الحضارات، من حيث خصائصه والأدوار التي تمر به.
وقد كان في طليعة من قال بهذا التوجه المؤرخ العربي عبدالرحمن بن خلدون (1332-1406م)، الذي اعتبر بأن الشعوب من خلال أنظمة الحكم التي تعرفها؛ تعيش دورة تاريخية مغلقة أساسها بفعل العصبية، فتنشأ الدولة بدافع العصبية وتبلغ أوجها مع مرحلة القوة (الملك العضود)، وبعدها تضعف بفعل انحلال رابطة العصبية وشيوع حياة الترف، وتتغلب عليها عصبية أخرى تمر بدورها بالمرحلة نفسها… وهكذا دواليك.
كما أخذ بهذا التوجه في أوروبا المفكر الإيطالي جيامباتيستا فيكو (1668-1744م)، الذي اعتبر بدوره أن التاريخ يتطور في دورات متجددة، تعيش فيها الشعوب (رحلة الآلهة) المتمثلة في الإيمان بالأفعال الغيبية، و(مرحلة الأبطال) التي تسودها البطولة والاندفاع، لتتبعها بعد ذلك (مرحلة البشر) التي تنتشر أثناءها المعارف وتخضع فيها المجتمعات للقوانين الوضعية.
بينما ساد في مصر التفسير الغيبي لحركة الكون، ونواميس الحياة، إبان الاستعمار العثماني، بعيدًا عن فهم حركة التاريخ الديناميكية المستمرة،وعن تطور المجتمع، وتراكم الخبرات البشرية، وظل الفكر السائد آنذاك يخضع لسيطرة للمؤسسات الدينية، والمصادر المقدسة، والفكرالأسطوري، التي بقيت جميعها جامدة،كما بقيت حرية العقل رهينة للمحظورات الدينية، والقيود الاجتماعية، وظلت الرقابة الصارمة على الأفكار، وظل التكفير أهم أدوات الاستعمال الملتحف بعباءة الدين، لاستصال أي بوادر للتفكير الحر، أو التدين المستنير، وظلت تهمة الذندقة شاهرة في وجه من يخرج عن دائرة الفكر الأسطوري السائد.
ثالثًا؛ قيمة العلمانية، وهو التفريق بين (الدولة – والمجتمع)، فصورت فلسفة التنوير الأوروبي المجتمع بكونه أكثر من مجتمع سياسي، وبمعنى آخر، أكدت على الاستقلالية والتحرر وعدم الخضوع لسلطة الكنيسة وأي وصاية خارجية أخرى، وبذلك وجهت الأنظار إلى الإهتمام بالنظم والمؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية.
ومن خلال العلمانية تم فصل السلطة السياسية عن المؤسسة الدينية، والتزمت الدولة بعدم التدخل في الشؤون الدينية لمواطنيها، بحيث تصبح (المواطنة) هي العلاقة الأساسية بين المواطن ودولته، أما المسائل الدينية فهي ممارسات فردية، لا يحق لأي جماعة في الدولة العلمانية أن تفرض لونها الديني على بقية أفراد المجتمع، ولا أن تؤثر انطلاقًا من دينها؛ لأن العلاقة الرئيسة في هذا المجتمع هي علاقة سياسية، قائمة على المساواة بين جميع أفراده، وبذلك وُضعّت اللبنات الأولىلمجتمعديمقراطي، يكفل حقوق الأفراد في مجتمع متوازن.
بينما كانت الإمبراطورية العثمانية دولة دينية بامتياز، وألحقت الدولة والمجتمع بفكرة الخلافة الزائفة، ليسهل عليها السيطرة الكاملة والتامة على ولاياتها، ومنها بالطبع مصر، التي بعدت كثيرًا عن مظاهر التحضر والمدنية (النسبية) التي سادت طيلة عصور الدول المصرية المستقلة المتعاقبة قبل نكبة الاسعمار العثماني. ونشرت سلطات الاستعمار العثماني الفكر والممارسات الطائفية، والتفرقة العنصرية، ومارست كل أشكال القهر والاستعباد ضد المصريين، وخاصة الطبقات الكادحة، ولم يعرف المصريون أي نوع من الحقوق، ولن يصون لهم المُسْتَعْمِر أي شكل من أشكال الكرامة الإنسانية.
وبسبب العزلة التامة عن العالم الخارجي؛ لم يَطّلع المصريون على تلك التغييرات التاريخية الهائلة التي صاحبت نشأة وتطور الرأسمالية الغربية، وأحدثت نقلة حضارية هائلة، غيرت وجه الكون الحضاري، وتطورت بشكل مُطَّرِد ومتواصل، ومن ضمنها تغيير طبيعة السلطة السياسية بالدولة والمجتمع، وعلاقة الدين بالأفراد والدولة كما أوضحنا.
رابعًا؛ قيمة التجريبية،حيث أصبح فلاسفة عصر التنوير الأوروبي يفسرون الظواهر الاجتماعية على ضوء القوانين الطبيعية، وذلك بسبب انتشار (المذهب الحسي)، كمذهب للبحث في نظرية المعرفة، والاهتمام بدراسة الحياة الاجتماعية، كما اتجهت العلوم إلى استخدام (التجربة) التي أصبحت لها أهمية خاصة باعتبارها مصدر المعرفة، كما هو الحال عند (جون لوك)، و(ديفيد هيوم).
وترتكز التجريبية على فكرة أن المعرفة هي نتيجة التجربة ومراقبة العالم، وأن التجربة هي الوسيلة التي يمكن من خلالها تفسير المعتقدات، أو الافتراضات،والحكم عليها إذا كانت مقبولة عقلانيًا، وفي مجال العلم؛ تشدد العقلانية على أهمية استخدام التجارب لجمع الأدلة للتأكد من صحة النظريات.
بينما لم تصل مصر لمرحلة التجريبية في العلوم طيلة حقبة الاستعمار العثماني، لعدم دخولها أصلا مرحلة الاكتشافات والاختراعات العلمية التي أحدثت الثورة العلمية، وأوجدت الأساس المادي لعصر النهضة الأوروبية، ومن ثم عصر التنوير الأوروبي، الذي اعتمد المنهج التجريبي في العلوم المختلفة، ثم على العلوم الإنسانية لاحقًا.
خامسًا؛ قيمة التقدم،الذي قامت عليه فلسفة التنوير، وانبثق من الإيمان بقدرة العقل البشري على التطور والتغير والتقدم نحو الأحسن والأفضل، للسيطرة على الطبيعة وتسخيرها لصالح الإنسان والمجتمع، وانبثق التقدم كذلك من الإيمان بقدرة الإنسان على مواجهة التحديات التي تواجهه بفضل قابلياته ومقدراته الذهنية.
وفقًا للتقدم، فإن البشر يستطيعون إحراز تقدم غير محدود مع مرور الوقت، من خلال قوة المنطق والملاحظة، وقد كانت هذه الفكرة ردة فعل على الاضطرابات والمذابح التي حصلت في الحرب الأهلية الإنجليزية، وترتبط فكرة التقدمبالتطور المجتمعي، وتسعى لتخليص المجتمع من الجهل والظلم وعدم المساواة، ولتحقيق مستقبل مزدهر يسود فيه المساواة والتنوير،حيث بدأ الفلاسفة والمصلحون الأوروبيون بتداول فكرة أحقية الناس في تحديد الطبقات الاجتماعية، وبدأوا يفكرون بأن المجتمع هو من صنع البشر، وأنهم هم من يشكلونه كما يرونهُ مناسبًا.
بينما ساد في مصر إبان الاحتلال العثماني، روح التشاؤمية الفكرية، واليأس من تطور الحياة للأفضل، وتقبل الأوضاع الاجتماعية البائسةوالظالمة على أنها أقدار، وتأصلت هاتان السمتان (التشاؤمية، واليأس) بغطاء دينين يدعو إلى الزهد الدنيوي، لقرب فناء العالم (الذي لم يُفنَى)، فانعدم التطلع للتقدم والتطور، وغاب معها روح المبادرة والابتكار والاختراع.
سادسًا؛ قيمة الكوسموبوليتية (الأممية أو الإنسانية)، حيث يسود في الكوسموبوليتية اعتقاد أن جميع البشر يستحقون الاحترام والمساواة، بغض النظر عن أصولهم أو انتماءاتهم الأخرى، وأنهم جميعًا مواطنون في مجتمع واحد، وسعى مفكرو عصر التنوير إلى أن يحكمهم مبدأ الأُخوة وليس التحيز، وقد عكست الكوسموبوليتية وجهة نظرهم تلك باعتبارهم مواطنين (عالميين)، غير محصورين في الإقليمية والفكر المغلق التي قد تحتويه.
بينما سادت العنصرية بأعلى مستوياتها داخل المجتمعالمصري إبان حقبة الاستعمار العثماني، وتعمقت التفرقة في كافة نواحي الحياة، وسادت التراتبية الطبقية، والطائفية الدينية، وانغلق المجتمع على مفهوم العبيد والسادة داخليًا، وانحصرت العلاقة بين العثمانيين والشعب المصري على مفهوم السادة والعبيد؛ المُستَعمِرون العثمانيون وأذناهم المماليك هم السادة، والمصريونالمُستَعمَرون هم العبيد.
سابعًا؛ قيمة الحرية،اعتبر مفكرو عصر التنوير الأوروبي أن الحرية حق طبيعي من حقوق الإنسان، وأنها تشمل حرية الدين، والتعبير، والحق في التحرر من الممارسات القمعية للحكومة، مثل التعذيب، والرقابة، وأعلن مفكرو التنوير أن العقل والمعرفة العلمية هما المسؤولان عن التقدم البشري وليس الدولة أو الكنيسة؛ فقد قدموا أيضًا أساسًا منطقيًا للعبودوية (عكس الحرية)، واعتبروها ناتجة عن التسلسل الهرمي للأعراق.
واعتبر فلاسفة التنوير أن الحرية: هي حق القيام بكل ما تسمح به القوانين حتى لا تضيع حرية الآخرين، وهو فكر يسعى رواده إلى إحداث قطيعة مع معالم العصور الوسطى (الفيودالية كما أوضحنا سابقًا)، أي مع التنظيم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي ساد إبان النظام الإقطاعي، والذي تميز باختفاء مفهوم الدولة والمواطنة وانتشار مجموعة من التقاليد والأعراف وأساليب العيش التي حكمت العلاقة بين السيد الإقطاعي والأقنان المرتبطين بالأرض.
وهدف رواد النهضة من ذلك تجاوز الوضعية المتردية للمجتمع الأوروبي الناتجة عن هيمنة الفكر الخرافي ونفوذ الكنيسة والاستبداد السياسي، إلى وضعية جديدة يحتل فيها العقل البشري مكانته الحقيقية بدراسة الديانات والأخلاق والمطالبة بحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، وهي بذلك تعني انبعاث الروح النقدية التحررية التي تخطت تشاؤمية العصور الوسطى، وانتجت إبداعات أدبية وفنية وعلمية وثقافية اتسمت بالشجاعة الكافية (لاستخدام العقل) لمناهضة التفكير الغيبي والأسطوري، وتحريره من الأوهام والخرافات، وفتح آفاقًا جديدة في البحث والدراسة والمعرفة واكتشاف المجهول.
كما سعى مفكرو عصر التنوير إلى الحصول على كافة حقوق الإنسان، وضمان حقهم في السعادة، والحرية، والملكية،وحاولوا تحقيق العدالة في الحكم السياسي، وإبراز أهمية دور الديمقراطية السياسية في نجاح الدولة،ورأى العديد من المفكرين أن السلطة العليا للدولة لا يجب أن تكون محصورة بيد شخص واحد، أو ملك واحد؛ لأن هذا الملك لن يستطيع الدفاع عن حقوق المواطنين،وشجع العديد من المفكرين فكرة اختيار سكان الدولة للرئيس، أو الملك الذي سيحكم دولتهم، وأكدوا على فكرة أن الملك يجب اختياره من قبل الشعب، فلا يمكن أن يُولد الملك ملكًا،ومن ثم بدأ الأشخاص بالقيام بحركات إصلاح في النظام السياسي بشكل كامل، كما بدأت العديد من الدول بالمطالبة بالحصول على استقلالها.
بينما سادت الممارسات القمعية من تعذيب ورقابة صارمة للمُسْتَعْمِرين واذنابهم المماليك، وتأصلت قيم العبودية، وغاب مفهوم الدولة، وانتشرت مجموعة من التقاليد والأعراف وأساليب العيش التي حكمت العلاقة بين السيد الإقطاعي والأقنان المرتبطين بالأرض، وهيمنت الأفكار الخرافية والاستبداد السياسي، وانتفى أي دور للمصريين في المشاركة في الحكم، أو حتى في الإدارة المحلية، واختفى التطلع لأي نوع من الحرية للمصريين، بل لم تكن ضمن اهتماماتهم، كما كبلت سلطات الاحتلال العثماني والتقاليد الاجتماعية الجامة؛ الحريات الشخصية للمصريين، وكرست مفاهيم العصور الوسطى البالية.
ثامنًا؛ قيمة(المنفعة)، أي فلسفة المنفعة، ويُعّد العالم والفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنتام (1748-1832م)، من أبرز شخصيات مذهب المنفعة، وقدم نظريته في المنفعة في كتابه (مقدمة لأصول الأخلاق والتشريع)، وقد أخذت المنفعة خلقًا اجتماعيًاأصبح أساسًا في التعامل الإنساني وكفلسفة (اجتماعية – قيمية)،وفسرت الأخلاق بمفهومي (اللذة – والألم)، واتخذت من سعادة الأكثرية أساسًا لتقرير وتقييم السلوك الاجتماعي، وأنه يمكن دفع الناس إلى التصرف على نحو يؤدي إلى السعادة من خلال؛ أولا القانون وقصاصة، والرأي العام بجزاءاته من ثواب وعقاب، فهما يحولان بين الناس وبين أن يأتوا من الأعمال ما يضاد الصالح العام، ثانيا المنفعة الذاتية المستنيرة التي تدل الناس على أن الصالح العام ينطوي في أغلب الأحوال على منفعتهم الخاصة.
بينما لم يلق الاستعمار العثماني بالًا بكرامة المصريين، ولم يهتم بتحسين أحوالم، أو تنمية وسائل معيشتهم، ولم ينال المصريون طيلة حقبة الاستعمار العثماني على حياة كريمة، فعاش المصريون تحت براثن المحتل كالأنعام بل أضل سبيلًا، فلم يكن العثمانيون في الأساس يقيمون وزنا لتاريخ مصر ولا لقيمة مصر الحضارية، ولم يعنيهم سعادة المصريين في شيء.
تاسعًا؛ قيمة (التقدمية) أي(الانقلابية – الثورية)، التي قامت على منهج جدلي نتيجة تحالف الطبقة البرجوازية الأوروبية الجديدة مع الأرستقراطية العليا وبقايا الإقطاع من جهة، وظهور الحركات الجماهيرية والنقابات العمالية كرد فعل لها من جهة أخرى، كان هدفها إحلال مجتمع ديمقراطي أكثر حرية وعدالة.
كما اعتُبر موقف أغلب رواد التنوير من مساندة الملوك ضد الإقطاع والكنبيسة، أعتُبر موقفًا تقدميًا، لأنه انحاز لسلطة أكثر تطورًا وتقدمًا زمنيًا وبنيويًا من النظام البائد، الذي شاخ وانتهى دوره التاريخي، وبالثل أعتُبر موقف الملوك الذين أيدوا رواد التنوير موقفًا تقدميًا، لانحيازهم للمبادي والقيم الجديدة، الأكثر إنسانية، والأكبر نفعًا للبشر، والأقرب للعدالة والمساواة، وذلك على حساب القيم الفيودالية الإقطاعية البالية.
وفي مقابل التقدمية الأوروبية إبان عصر التنوير، كان (التخلف) بكل ما تعنية الكلمة يعم كل القطر المصري تحت الاستعمار العثماني، والذي وجد التربة المناسبة لتكريسه، وتغلغله داخل كل أوساط المُسْتَعْمِرين، واذنابهم المماليك، وأيصًا المصريين آنذاك، وساد روح الانتماء للماضي وتقديسة، والحلم بالعودة إليه، وتمجيد أخلاق السلف والاستشهاد بهم، دون التحقق من وجود تلك الأخلاق، أو التأكد من حدوث تلك الوقائع، التي كانت في مجملها أساطير مروية، وقصد بها خدمة الحكام والسلاطين، أو تمجيد أسلافهم المذعومين، أو لتأصيل القيم الرجعية البالية.
عاشرًا؛ إعادة الاهتمام (بعلم الفلسفة) إبان عصر التنوير الأوروبي، وذلك بجعل العقل المصدر الوحيد للمعرفة، وليس التراث القديم كشيء مقدس ومفروض، ووضع جميع الأشياء على محك العقل للكشف عن المسببات المنطقية التي أدت إليها، وعلى هذا الأساس رفض فلاسفة التنوير التراث المسيحي التقليدي، الذي ينتهك قوانين العلم والمنطق، وكذلك أخلاقية الزهد والتقشف الصارمة في الحياة الدنيا، ودعوا إلى أخلاق أكثر إنسانية، والالتزام بالتسامح والسلام، بدل التعصب والعنف.
ومن أهم الحركات التي ساعدت على تبلور الفكر الاجتماعي والفلسفي في القرنين السابع عشر والثامن عشر (الحركة الإنسانية) التي تمثلت بأفكار الإنسكلوبيديين (المفكرون الذين وضعوا دائرة المعارف الشهيرة في عصر النهضة) في العلوم والمعارف، وانطلقت الحركة الإنسانية من نقض الفكر الميتافيزيقي الغيبي الذي ساد في العصور الوسطى، ونادى بالعودة إلى الطبيعة الإنسانية التي تنبع أصلًا من الظروف الاجتماعية التي تحيط به، تلك الحركة التي عبرت عن موقف فلسفي واضح المعالم يؤكد على أن منبع الأفكار هو الواقع الاجتماعي بذاته، وكان من أبرز ممثلي هذه الحركة (جان جاك روسو) و(فولتير) و(هلفسيوس) وغيرهم من الإنسكلوبيديين.
كما تبلورت (الحركة السياسية) إبان هذا العصر،وكونت مشروعًا سياسيًا هدفه تأسيس دولة تنزل السلطة، بما فيها سلطة الأفكار، إلى المجال الشعبي، وتمثلت بالثورة الفرنسية ومبادئ حقوق الإنسان، وإلى جانب الثورة الفرنسية ذات الطابع السياسي تفجرت الثورة الفلسفية في ألمانيا على يد (كانط)، التي كانت تدشينًا لفكر نقدي جديد، مثَّل قطيعة مع ما سبقه من فلسفات.
بينما حرّم المُسْتَعْمِرون العثمانيون الفلسفة في كافة ولاياتهم، ومنهم مصر، واتُهم كل الفالسفة المُعتّبرين بالذندقة، والتكفير، فتوقف العقل المصري عن التفكير والتامل، وأنطفأت انوار الفكر لدى المصرين، وانعدمت الرؤى والتصورات المستقبلية.
وبذلك تركت قيم عصر التنوير الأوروبي آثارها من خلال تراكم مظاهر (الحداثة)، التي طبعت العالم الغربي بمَيسمها، كما ساد مناخ فكري سيطرت فيه الفلسفات الحسية والعقلية، وأفرزت صراعات فكرية بين الاتجاهات الفلسفية المادية واللاهوتية والعقلية، إلى جانب التيار الإنساني والليبرالي، وما رافق ذلك من جدل حول مفهوم الطبيعة البشرية،
بينماكان حكم المُسْتَعْمِرين العثمانيين الذي تزامن مع عصري النهضة التنوير الأوروبيين، جامدًا، راكدًا، نتج عنه تحول مصر إلى ولاية معزولة، بعيدة تمامًا عن المؤثرات الحضارية الحديثة في أوروبا، من القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر، حيث أخذت أوروبا طريق التقدم في جميع مجالات الحياة، بأفكار جديدة وضعت تحديًا للقديم، وأحدثت تغييرات جذرية في المجتمع، تناقض ما تأسست عليه الإمبراطورية العثمانية التقليدية.
فقد غيرت الثورة العلميةُ التي حدثت منذ القرن السادس عشر الطريقة التي ينظر بها الأوروبيون إلى الحياة ككل، وتمحورت ثورة الفكر على أساسيات ثلاثة؛ الحرية، والحقوق، والمساواة، وغلب العقل على القوالب التقليدية كلها.
في حين لجأ الاستعمار العثماني إلى الدين، واستخدموه لاستمرار فرض سيطرتهم على الولايات القابعة تحت سيطرتهم، ومنهم مصر، خاصة أن عقلية العصور الوسطى كانت سائدة في تلك الولايات، وهي عقلية تعتمد على الحفظ، والتلقين، والاهتمام بالعلوم الشرعية والفقهية دون العلوم التطبيقية، كما أُصيب المصريون في العصر العثماني بالجدب العلمي، وانعدام الاجتهاد في الدين، واختفت روح الابتكار في العلم والأدب، وسيطر على الفكر في ذلك العصر حالة من الجمود والتقليد والمحاكاة، دون إعمال العقل أو الفكر….. ونستكمل.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك