الجمعة - الموافق 29 مارس 2024م

وجـــوه الأرصفة البـــاردة .. بقــلم / صبحه بغوره

أطلت مبكرة من الشرفة التي كانت على شيء مريح من الاتساع ، ولكن السور أمامها كان مرتفعا لذا لم يتسن لها أن تشاهدإلا صفحة السماءوالطيور المهاجرة في أسراب متوالية، السماء في هذا الوقت من العام واجمة مكفهرة ولم تعد سحبها كما عهدتها خفيفةوجميلة بيضاء ولم تعد ترى فيها أثراللأطيار التي ألفتها تحلق في كل الأوقات ، ظلت خلف زجاج النافذة تنظر لأعلى إلىحيث بدأت تتساقط قطرات المطر، تأملتها كيف تهطلوتتساءل، كيف حملت السحب كل هذه الكميات من المياهلتضرب الزجاج بعنف ؟ ثم أين تلك العصافير المغردة التي لم تكن تبرح شرفتها؟ كم تمنت أن ترى سريعا السماء صافية كما رأتها ذات مرة زرقاء تزورها السحبالبيضاء الناصعة مرورا لطيفا، لجأت نادية إلى غرفة بنتيها قبل نهوض زوجها، كانتا لازالتا نائمتين وقد علت شفاههما ابتسامة بريئة أيقظتهمابضع لمسات حانية منأناملوالدتها وهي تهديهماالقبلاتالصباحية مليئة بكل الدعوات الجميلة الدافئة ،ابتسمتا للنهار الجديد ولمحيا والدتهما التي اقتربت من وجنتيهمالتقبيلها بكل ما في الكون من حنان، نهضتا تراقصان أشعة شمس الشتاءالتي تسلل بعضها للغرفة من بين السحب ، كرهت نادية غربتها ، ترجع بذكرياتها إلى تلك البقعة البيضاء التي تعودت عليها مع أهلها وصديقاتها حيث ألفتأن يخفف عنهاشدة قهر زوجها لها وتوحشه معها والذي لم يرحمها ولم يترك رحمة ربنا تنزل عليها بردا وسلاما، انه يعشق إذلالها وتعذيب بنتيها ولاء وشدى،استفرد بها في الغربة ، تنهدت وهي تتذكر كم جميلة ساعات الفجر في بلدها، إنها تشعرها كل يوم وكأنها أخرجت للحياة من جديد ونشأت في أحضانها كمثل كلالأولاد والبنات ، عندما لعبت وضحكت وركضت في تلك الطرقاتالضيقة التي تعرفها ، أعادت التنهيدة مرة أخرى لكن منأعماقها فخرجت أنفاسها ساخنة كسخونة العواطف عندما تتغلب على دواعي الإنصاف حتى في نفوس العقلاء ، أخطأ أهلها بتزويجها، كان كل همهم أن يوفروا لها الستر فيعباءة رجل ، لم يشفع لها عندهم شهادتها الجامعيةالتي نالتها بعد جهد وسهر ومستواها الثقافي المرموقكانت تظنأنهاستأخذ بعض من الحرية حتى تحدد اختياراتها واكتشفت أنالأمر في النهاية سيان سواء درست أو لم تدرس فالمجتمع يختصر الأمر بالنهاية في بلادهافي شخص الرجل ولا وجود لحكمة المرأة ولا لرأيها حتى ولو كانت منطقية وواقعية لأنها مرفوضةلكونها فقطامرأة، تنتصر دائماأخطاء الرجل وما أدراك ما الرجل، قال يوما سنهاجر، لم يعترض أهلها فهو المسئول ، ولكنه متهور وقاسي القلب، لم يهمهم هذا الأمر كثيرا بل كانوا يصبرونها فالفأس وقعت على الرأسوعيب وعار عندهم لفظ “مطلقة ” طالبوها بالصبر كما صبرت الكثيرات مثلها، سيكبر وتكبر بناته وحتما سيتعقل، لم يمنح للانتظار مهلة و قرر السفر إلى عالم جديد مختلف تماما ،ومع الأيام صارت جزءا من الحياة اليومية لفرنسا ومن وقت لآخر وعلى هامش الذاكرة المتعبة تصحو فجأة على ضحكة تقفز منها عنوةلتدقأبواب القلب المشرعة للهواء المحمل بشيء من حنين الوطن والمفتوحة دائما لاستقبال نسماته، عاد أخر النهار من عمله ورائحة الخمر تفوح منه وبدأت الملحمة اليومية ضرب وسب وتكسير الأشياء كعادته ، قبعت محتضنة بناتها تصبر حالها بغد تجد فيه حلا لنفسها ، مضت السنين وكبرت البنات ، وبقي هو على حاله، لم تصلحه الأيام بل زاد سوءا، وذات ليلة عندما اقترب كعادته كل مساء لضربها،عاندته شدى ابنتها الكبيرة كي تحول بينه وبينها،أرادت أن تغطيها بجسدها الطري الغض لتمنع عنها اللكمات ، فيما بقت ولاء تتأمل الموقفخوفا من وراء باب غرفتها الموارب ، رأته وهو يربط قدمي أختها ويعلقها ويبرحها ضربا ويمارس عليها كل أنواع التعذيب حتى إذا ما شارفت على الموت فك قيدها خوفا من السلطات الفرنسية بعدما هدده أحد الجيران بأن يرفع شكوى ضده ، بقيت متمددة تتألم في فراشها، استجمعت شيئا من الشجاعة واعتدلت في جلستها وأخبرت أختها التي ظلت بجوارهاوواظبت على مداواتهاأنها لن تكمل حياتها في هذا البيت وستهرب، ليلتها باتت ولاءفزعة من ما سمعت وحذرتهاأنالشارع لا يرحم ، اشتكت شدى من جروحها وكسورها التي لا تسمح لها حتى بالحركة لكنها مع ذلك صممت على الذهابإلى الكنيسةالمقابلة للبيت، وترجت أختهاأن لا تخبر والدها بمكانها مهما كان الأمروحتى أمهمافلو أخبرتها سوف تضعف وتخبره المهم عندها أن تبتعد بأي طريقة عن جحيم والدهاالديكتاتوري المتوحش الطبع وسيء التصرف..وهربت شدى. عاد الأب مساءا وكعادته راح يبحث عنهامحاولا إيجاد أي سبب ليواصل عقابه لها وتعذيبها، لم ينس أنها تجرأت يوما وحاولت أن تدفع عن أمها شروره ، كسر كل ما وجده في طريقه وهو يصرخ صراخا هستيريا ونادية تبكي وتقسمإنها لا تعلم أين ذهبت ، مرت السنون وشدى تعيش في ديرالراهبات وتنتقل من كنيسة إلىأخرى، طال انتظار نادية لترى ابنتهاوفشلت في العثور عليها وفي غمرة انشغالها فاجأها خبر وفاة والدها وقد علمت أنهم بانتظارها قبل أن يدفن حتى تأتي وتراه ،ولماأخبرت زوجها السكير بالأمر وأنها ستأخذ ابنتها ولاء لتحضر جنازة جدها مانع ورفض ، ولاء تريد أن ترى أهلها وحتما ستعود لتكمل دراستها الجامعية وكذلكستعود شدى إلى حضن أمها بعدما تركت البيت منذ سنين طويلة ، تحججت نادية بكل الحجج حتى يطمئن ويطلق سراحها ، ووافق على مضض ..أعدت ولاء كل أوراقهاوأشياءهاخفية عن والدها وما أنأقلعت الطائرة حتى تنفستا الصعداء،سافرتا معا في أول رحلة عودة إلى بلدها وعزمتا علىأنه لا رجعة للجحيم بعد اليوم ، انه فصل الربيع الذيطالما انتظرته ، استقبلتهما السماء الضاحكة بدفئها ،عادت العصافير إلى تغريدها على شرفاتها التي ألفتها ،اليوم عرفت أنه خارج أحزان سنين عمرهاالعالم كبير وما أوسعه، راحت ولاء ترمقها بعيونها الجوزية المتوقدة حنانا وذكاء وكبرياءوقد صدق ظنها في السعادة وراحة البال التي تنعم بها ..لانت لهما الظروف واستغلتا فرصةكل لحظة لإضفاء أجواء السعادة بحجم شوقهما لها، لقد ودعتا ذلك الشتاء الفرنسي الشمالي القاسي الذي لا يكاد ينقطع،أخيرا خرجتا من سكونهما الحزين وانعقتتا من استكانتهما المهينة،انفرجتابتسامة عريضة على ثغر ولاء تعلن إشراق دنيا جديدة في حياتهما ولعل أروع ما فيها أنها رأتها بعيونها وأنها تحمل أكثر مما كانت تتصور محملة بأجمل الأماني في تلك الأفاق المذهلةأن يجمع الله تعالى شملهما مع شدى، ، أما هو فانتظر سنينا بعدما هجرته زوجته وابنته طويلا وعاش وحيدا إلى أن أتى اليوم وجاءها اتصال مبتسر أن تحضر إلى المطار في موعدمعين ،راحت ولاء رفقة والدتها التي أصبحت مشرفة على قسم الطب الشرعي بالمستشفى العسكري ، قصدتا المطار وكم كانت المفاجأة لما رأت ابنتها شدىمسرعة نحوها،احتضنتها برفق، دام عناقهما طويلافي هدوء وصمت كانت مواجهة حارة بالحنين المتبادل،إنها المسافة التي باعدتهن كثيرا وكانت أطول مما ينبغي، مسافة أكبر منالسنين ، مسافة العمر الذي انقضى في الهم والغم ، نطقت عيون الأم هاتفة، هاأنت يا بنيتي بين أحضاني من جديد بنفس الملامح البريئة وشوقك وطيبتك ، لم ينقص منك شيئا حتى آن لنا فالتقينا، وجدت معها طفلها الصغير “يونس ” أسمته على اسم والدها الذي غادر الحياة مريضا في مصحة للمدمنين، سألتها والدتها عمن كان يعتني وعلمت أنها هي منكانت تراقبه عن بعد وكانت تدري كل أخبارهولما علمت انه دخل المصحة فعلت كل ما بوسعها لأن يحيا بقيةأيامه مرتاحا لكن عذاب الضمير وشدة الندم وقهر الحسرة عجلتبموته بائسا تعيسا ،لقد ظلتشدى الابنة بارة بوالدها رغم كل إساءاته لها،أقبل عليهم زوجهاليكسر الأجواء الثقيلة بمرحه وثرثرته وكان يتصبب عرقا ومتلهفا لرؤيتهم ، انه مدير إحدى المدارس العربية الخاصة حيث تعمل شدى ،هو من ساعدها على استعادة ثقتها بنفسها وكان له الفضل في تقوية عزيمتها للنجاح في الحياة،هو من قبلها زوجة عن اقتناع بها،رحبت به ولاء وأمها وقد كان أنهى لتوه إجراءاتإخراج التابوت من المطار،انه نعش والدها ، فسرتشدى الأمر لوالدتهاأنها لم ترضإلاأن يدفن والدهابأرضهويتوسد ترابها فهنا يلتقون جميعا،وبقلوب رحيمةيحيون في عالم من الصفاء والمحبة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك