الخميس - الموافق 28 مارس 2024م

نفحات إيمانية ومع ذو القرنين ( الجزء الثالث ) إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الثالث مع ذى القرنين وقد وقفنا عند أنه كان شخصا مشهورا بين مجموعة من الناس، وذلك قبل نزول القرآن الكريم، لذا فإن قريشا أو اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه، كما يصرح بذلك الكتاب العزيز في قوله تعالى فى سورة الكهف ( ويسألونك عن ذى القرنين ) ويمكن القول أنه لا يمكن الاستفادة بشي‏ء من صريح القرآن الكريم للدلالة على أنه كان نبيا، بالرغم من وجود تعابير تشعر بهذا المعنى ونقرأ في العديد من الروايات الإسلامية الواردة عن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وأئمة الإسلام رضى الله عنهم أجمعين على أنه، لم يكن نبيّا بل عبدا صالحا، ويقول الله تعالى فى سورة الكهف حاكيا عن قصة هذا الحاكم العظيم ( فأتبع سببا، حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين
حمئة ووجد عندها قوما قلنا ياذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ) أي فاتخذ طريقا وسلكه نحو الغرب ﴿ حتى إذا بلغ مغرب الشمس ﴾ أي وصل إلى المحل الذي يتراءى له فيه غروبها من سطح الأرض، ومعناه أنه انتهى إلى آخر أمكنة العمران من جهة المغرب ﴿ وجدها تغرب فى عين حمئة ﴾ أي وجد الشمس تغيب عن ناظريه في عين كثيرة الحمأ أي الطين الأسود المنتن، وقرئ (في عين حامية) أي حارة، فقد وجد الشمس تغرب هناك وإن كانت بالحقيقة لا تغرب في مرمى بصر ولكن ظلها في الماء خيّل له ذلك، لأن الشمس في واقع الأمر لا تزايل الفلك، ولا تدخل في عين ماء يعيش قربها قوم ويقيمون آمنين من الاحتراق بحرارتها، بل هي لا تبارح مجاريها في النظام الكوني، وإنما ذكر القرآن الكريم ما يتراءى للعالمين.
من شروق الشمس وغروبها بهذا الوصف الدقيق المعجز الرائع، فلما بلغ ذو القرنين ذلك الموضع تراءى له كأن الشمس تغرب في عين كما أن من كان في البحر رآها كأنها تغرب في الماء، ومن كان في البر يراها كأنها تغرب في الأرض الملساء، والحاصل أن ذا القرنين لما بلغ ذلك الموضع رأى كأن الشمس تغيب في تلك العين، التي هي في الواقع ساحل المحيط الأطلسي، حيث وصل إلى هناك ﴿ ووجد عندها قوما ﴾ أي في تلك البقعة من الأرض وجد أناسا ﴿ قلنا ياذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ﴾ وفي هذا دلالة على أن القوم كانوا كفارا والمعنى إما أن تعذب بالقتل من أقام منهم على الشرك، وإما أن تأسرهم وتمسكهم بعد الأمر لتعلمهم الهدى وتستنقذهم من العمى، وقيل معناه وإما أن تعفو عنهم، واستدل من ذهب إلى أن ذا القرنين كان نبيا.
بهذا قال، لأن أمر الله تعالى لا يعلم إلا بالوحي والوحي لا يجوز إلا على الأنبياء وقيل، إن الله تعالى ألهمه ولم يوح إليه وقيل، إن كان ذو القرنين نبيا فإن الله تعالى قال له كما يقول للأنبياء إما بتكليم أو بوحي، وإن لم يكن نبيا فإن معنى قلنا ألهمنا لأن الإلهام ينوب عن الوحي، فقد قال سبحانه: ﴿ وأوحينا إلى أم موسى) أي وألهمناها، وقد قال قتادة فقضى ذو القرنين فيهم بقضاء الله تعالى، وكان عالما بالسياسة فيقول الله تعالى ﴿ قال أما من ظلم﴾ أي أشرك ﴿ فسوف نعذبه﴾ أي نقتله إذا لم يرجع عن الشرك ﴿ ثم يرد إلى ربه﴾ أى بعد قتلي إياه ﴿ فيعذبه عذابا نكرا ) أي منكرا غير معهود، ويعني في النار وهو أشد من القتل في الدنيا، ثم يقول الله تعالى فى سورة الكهف ( وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا)
أي أننا سنتعامل معه بالقول الحسن، فضلا عن أننا سنخفف عنه ولا نجعله يواجه المشاكل والصعاب، بالإضافة إلى أننا سوف لن نجبي منه ضرائب كثيرة، والظاهر هو أن ذا القرنين أراد من ذلك أن الناس سينقسمون مقابل دعوته إلى التوحيد والإيمان والنهي عن الظلم والفساد إلى مجموعتين، وهي المجموعة التي سترحب ببرنامجه الإلهي ودعوته للتوحيد والإيمان، وهذه ستجزى بالحسنى وستعيش حياة آمنة ومطمئنة، وأما الثانية فستتخذ موقفا عدائيا من دعوة ذي القرنين، وتقف في الجبهة المناوئة، وتستمر في شركها وظلمها، وتواصل فسادها، وهي لذلك ستعاقب نتيجة موقفها هذا أشد العقاب، وبمقارنة قوله من ظلم، وقوله من آمن وعمل صالحا، يتبين لنا أن الظلم يعني هنا الشرك والعمل غير الصالح الذي يعد من ثمار شجرة الشرك
المشؤومة، وعندما انتهى ذو القرنين من سفره إلى الغرب توجه إلى الشرق، حيث يقول الله عز وجل فى كتابه العزيز في ذلك: ﴿ ثم أتبع سببا ﴾ أي استخدم الوسائل والإمكانات التي كانت بحوزته، وأما عن قوله تعالى ( حتى إذا بلغ مطلع الشمس) وهنا رأى أنها ﴿ تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ) وفي اللفظ كناية عن أن حياة هؤلاء الناس بدائية جدا، ولا يملكون سوى القليل من الملابس التي لا تكفي لتغطية أبدانهم من الشمس، وأما بعض المفسرين فلم يستبعدوا افتقار هؤلاء الناس إلى المساكن التي تحميهم من الشمس، وهناك احتمال آخر يطرحه البعض، ويرى أن يكون هؤلاء القوم في أرض صحراوية تفتقر للجبال والأشجار والملاجئ، وأن ليس في تلك الصحراء ما يمكن هؤلاء القوم من حماية أنفسهم من الشمس من غطاء أو غير ذلك.
وقد قيل فى ذلك أي أنهم عراة لا يتقون أشعتها أى الشمس، بأي لباس، وليس في أرضهم أي جبل أو شجر أو بناء، لأنها أرض رخوة لا يثبت عليها بناء مضافا إلى أنهم لم يعرفوا بناء البيوت ولا وضع الثياب على الأجساد ويقول تعالى ﴿ كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا ) أي أن أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكانة وبسطة الملك والسلطان النافذ على الشرق والغرب، مضافا إلى إحاطتنا ومعرفتنا بما معه من جند كثير، وعدة عديدة، وعلم غزير، مما لم يحط به غير اللطيف الخبير، وتشير الآيات إلى أنه وصل إلى منطقة جبلية، وهناك وجد أناسا غير المجموعتين اللتين عثر عليهما في الشرق والغرب، كانوا على مستوى متدن من المدنية، لأن الكلام أحد أوضح علائم التمدن لدى البشر، لكن البعض احتمل أن جملة قوله تعالى.
(لا يكادون يفقهون قولا ) وهى لا تعني أنهم لم يكونوا يعرفون اللغات، بل كانوا لا يفهمون محتوى الكلام، أي كانوا متخلفين فكريا، وفى هذه الأثناء اغتنم هؤلاء القوم مجي‏ء ذي القرنين، لأنهم كانوا في عذاب شديد من قبل أعدائهم يأجوج ومأجوج، فعرضوا عليه أن يقيم لهم سدا في وجه يأجوج ومأجوج الذين يهاجمونهم من وراء الحاجزين، ويغيرون عليهم من ذلك الممر، فيعيثون في أرضهم فسادا، ولا يقدرون على دفعهم وصدهم، وذلك في مقابل خراج من المال يجمعونه له من بينهم، وتبعا للمنهج الصالح الذي أعلنه ذلك الحاكم الصالح من مقاومة الفساد في الأرض، فقد رد عليهم عرضهم الذي عرضوه من المال والتطوع بإقامة السد، ورأى أن أيسر طريقة لإقامته هي ردم الممر بين الحاجزين الطبيعيين، فطلب إلى أولئك القوم المتخلفين أن يعينوه بقوتهم المادية والعضلية.
حتى يقيم سدا يكون مانعا للقوم المفسدين من الاعتداء عليهم، وبالرغم من محاولة البعض المطابقة بين سد ذي القرنين وبين جدار الصين الذي لا يزال موجودا، ويبلغ طوله مئات الكيلومترات، إلا أن الواضح أن جدار الصين لا يدخل في بنائه الحديد ولا النحاس، ومضافا إلى ذلك لا يقع في مضيق جبلي ضيق، بل هو جدار مبني من مواد البناء العادية، ويبلغ طول مئات الكيلومترات، وما زال موجودا حتى الآن، والبعض يرى في سد ذي القرنين أنه سد مأرب في اليمن، ولكن هذا السد برغم وقوعه في مضيق جبلي، إلا أنه أنشئ لمنع السيل ولتخزين المياه، ولم يدخل النحاس والحديد في بنائه، ولكن بالاستناد إلى شهادة العلماء وأهل الخبرة، فإن السد يقع في أرض القوقاز، بين بحر الخزر وهو بحر قزوين، والبحر الأسود، حيث توجد سلسلة جبلية كالجدار تفصل الشمال عن الجنوب.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك