الجمعة - الموافق 29 مارس 2024م

مبروك مبيض النحاس ..قصة قصيرة .. بقلم / حمدي كسكين

في ليلة من ليالي الصيف ..الشديدة الحرارة …..وبعد أن تناولنا العشاء
كانت أمي تتقاسم جنبات الحديث مع جدتي وزوجات أعمامي وبعض النسوة من أقاربنا
علي مصطبة البيت وشجرة التوت الوارفة الظلال الضخمة والتاريخية تلقي بعروفها وغصونها لتغطي المكان كله معلنة وصايتها علي البيت وسكانه
كان حديث النسوة ذا شجون وهن يتبادلن أطراف الحديث الجاد تارة والنكات وقهقهة الضحكات تارة أخري
وتأتي جدتي من الداخل بعد أن توضأت وأدت صلاة العشاء لتقطع صوت النسوة الممزوج بصوت أم كلثوم وهي تشدو بالاطلال من صوت المذياع الضخم الكبير الذي يتوسط قعدة والدي مع بعض أبناء عمومته من الرجال وتعلن جدتي بصوتها الاجش الذي لا يخلو من نبرة الأوامر والفرمانات للجدات في ذلك الزمان
مبروك …..
مفيش واحدة شافته النهاردة
وارخيت أذني مسترقا السمع وأسئلة متعددة دارت في مخيلتي
من مبروك ؟وماذا يفعل ؟ ومن أين يأتي ؟وما حرفته ؟وكيف هيئته ؟
وهل هو من الانس أم الجن ؟!!!!!
أختلط الحابل بالنابل في مخيلتي الصغيرة
كيف لا وقد كانت جدتي تطربني بمعسول الحواديت عن أمنا الغولة والجان وأبو رجل مسلوخة وكيف اذا مررت بجانب الترعة ونادت عليك احدي النسوة من تحت شجر الصفصاف التي تتدثر في ظلالها مياه الترعة التي تجري رقراقة..وطلبت مني أن اساعدها واعين عليها الجرة أن أطفش وابعد لأنها المبروكة أي (الجنية )
كان أحد أقاربنا قد حضر للتو من الغيط وهو ينيخ الجمل محملا بطراطيف ورق الذرة
وسمع كلام جدتي وسؤالها عن مبروك
فأخبر جدتي أنه حضر لتوه وقد رآه قريبنا ينصب في خيمته قريبا من وسط القرية
تهلل واشرق وجه جدتي
قائلة خير ان شاء الله
في صبيحة اليوم الثاني استيقظت أمي مبكرا كعادتها وبعد أن أدت الطقوس الريفية البروتوكولية التي تؤديها كل يوم
إذ تفرغت أمي لجمع النحاس الذي كان بمنزلنا بدء من الأبريق النحاسي حتي الطشت والأنجر وسائر الأواني النحاسية
لم يجر في مخيلتي لماذا جمعت أمي كل هذه الأواني النحاسية
لمجرد أنها سمعت اسم عمي مبروك
لقد ظننت ظنا كاذبا ان أمي كانت عازمة هي وجدتي علي بيع النحاس
وجدتي كانت كلما تأزمت ظروفنا المادية كانت تحمل قطعة من أنية النحاس لبيعها وفك زنقتنا المادية
كنا في الدودة في ذلك الوقت نعمل نحن الصبية الصغار وراتب الواحد منا لا يتعدي ١٣ قرشا في اليوم ذلك الوقت وفي طريق عودتنا للمنزل لتناول طعام الغداء في عز الحر سمعت عمي مبروك ومعه بنته وولديه ينادي بأعلي صوته …أبيض نحاس …..وما ان وصلت منزلنا حتي وصل عمي مبروك لمنزلنا وحملوا جميع الأواني النحاسية التي كانت بمنزلنا
كانت أواني صدأة كانت أمي تقاوم سواد هذا الصدأ تارة بالمنظفات …وتارة بسلك المواعين … وتارة اخري بالرمل ولكنها طبقة الصدأ التي تكونت نتيجة تراكم زنجارة النحاس السامة
كان عمي مبروك يمر في شوارع قريتنا وفي أزقتها الضيقة ينادي بصوته الأجش الغليظ أبيض النحاس
بنبيض النحاس فتنادي عليه النسوة ويحمل النحاس بعد أن يجمعه في طشت واسع وكبير فوق رأسه
والنسوة يثقن في مبروك مبيض النحاس
كان يجمع نحاس القرية شارعا شارعا وما أن ينتهي من تبييض النحاس يرجعه لأصحابه نظيفا ابيضا بعد أن كانت تغلفه طبقة من السواد مختلطة باللون الأخضر من أثر الجنزارة التي تعلوه
لم يكن بيتنا يعرف من الأواني إلا الفخارية لزوم الحليب ومشتقاته وإعداد العجين والاواني النحاسية
سألت جدتي عن عمي مبروك وتبييض النحاس وقيمته
فحكت لي جدتي عن يوم أن تقدم جدي لخطبتها أنهم أتفقوا علي الشبكة من الذهب وكم قنطارا من النحاس في جهازها
كان النحاس في ذلك الوقت معيارا للقيمة كالذهب وكمخزون أقتصادي يلجأ له الآباء والأجداد كلما تعثروا ماديا بالبيع لفك زنقتهم والتوسيع علي العيال
وكان مدعاة للتباهي والمفخرة بين العائلات في ذلك الوقت
وعندما كنا صغارا نجد متسعا للعب خارج البيت وساقتنا أقدامنا للسير خلف عمي مبروك مبيض النحاس وهو ينادي أبيض نحاس الناس …
أبيض النحاس بصوت عال ونغم غريب يشبه طرقعة أصوات الأواني النحاسية التي يحملها فوق رأسه
كنت أنا وأصدقائي نسير خلفه جماعات كأسراب الطيور المهاجرة نردد نداءاته وأهازيجه الغريبة وتعلو أصواتنا جميعا نبيض النحاس …نبيض نحاس الناس
حتي وصلنا للساحة التي نصب فيها عمي مبروك خيمته
خيمة بسيطة يفترش عمي مبروك في أرضيتها حصيرة من السمار أكل عليها الزمن وشرب
كان عمي مبروك رجلا كبيرا في السن رسم الزمان وقسوة الحياة وغلظتها علي وجهه علامات الفقر والحاجة والبؤس
كان طويلا كثيف الشعر واللحية دون تهذيب يميل وجهه الطويل للسمرة الممزوجة بالصفرة جاحظ العينين مع حمرة تصبغ حدقتا عينيه عريض المنكبين قوي العضلات رغم كبر سنه يرتدي جلبابا بين بين لا يظهر من ثيابه وهيئته الرثة هل هو صعيدي أم بحراوي بدوي أو فلاح
رجل بلا خريطة جينية بالنسبة لطفولتي وعمري الصغير …ولا يشبه رجال قريتنا فتاهت معالمه كغريب بالنسبة لي …… منحني الظهر قليلا دون علة أو مرض يساعده في مهنته بنته وصبيين من أولاده الذكور وزوجته
وصلنا كقطيع غنم تهيم علي وجهها في القرية أو كأسراب العصافير الصغيرة التي تبحث عن عشها الي حيث مكان عمل عمي مبروك
عرفنا الطريق ورجعنا للمنزل حتي لا ننال عقاب وتوبيخ وضرب الأباء والجدات
بعد أن اتفقنا علي التجمع منذ الصباح عند خيمة عمي مبروك
ذهبنا في الصباح بعد أن توسطت الشمس كبد السماء
أتلال من الأواني النحاسية بعضها فوق بعض أمام الخيمة سوداء…. تجمعت لتنال حظها من التبييض وخلف الخيمة تلال من الأواني النحاسية التي تم تبييضها وتلميعها وتنتظر دورها لرجوعها نظيفة مبيضة لأصحابها
وبعيدا عن مكان الخيمة عمي مبروك وولديه يشعلون النار وتوضع فوقها الأواني والقدور النحاسية وهي أولي مراحل تبييض النحاس
وعمي مبروك وقد تكور داخل إناء نحاسي كبير يتمايل شمالا ويمينا يرقص كالطير المذبوح من الألم …فقد انتصف النهار والجو صيفا والشمس تلظي قفا عمي مبروك
وزوجته واولاده
ورائحة الدخان المعطنة تزكم أنوفنا
وحرارة النار تكوي جباه مبروك وأسرته
وهو مازال يتمايل ذات اليمين وذات اليسار كأنه يؤدي طقوس جنائزية
أو أن شئت حقا يقضي عقوبة أشغال شاقة مؤبدة
أو كأنه عابد أو ناسك يؤدي طقوس عبادة غريبة
ياله من منظر عجيب وغريب
رغم حرارة الجو ولهيب النيران من حوله والرائحة العطنة إلا أن عمي مبروك صابر وقانع ومنحني كي تمر رياح الزمان العاتية بكل آلامها وهمومها وعتمتها
سعيد قانع ك يوسف الصديق .
صابر محتسب ك سيدنا أيوب
ورغم قسوة العمل وشدته يردد بعض الأغنيات والأهازيج الغير مفهومة بالنسبة لنا الصغار
تراقب عيوننا المحدقة في هذا المشهد الجنائزي الحزين لمهنة عمي مبروك
بكل تأمل وتمعن وما أن ينتهي مبروك من وضع الإناء النحاسي وتسخينه علي النار تتلقف الأناء يد أحد أبنائه الذي يسكب عليه بعض القصدير والرمل ويضع قدميه داخل الإناء ويتراقص كوالده ذات الشمال واليمين في حركات تشبه رقصات الأفارقة آكلي لحوم البشر وهو يقوم بمراسم تنظيف الإناء حتي يتحول الإناء الي أبيض بعد أن يسكب عليه بعض المواد الخاصة بتنظيفه
وفي صبيحة أحد الأيام نستيقظ مفزوعين علي أصوات ضجيج وهرج ومرج في قريتنا وكل اهالي القرية تجري مهرولة حيث يقيم عمي مبروك حتي وصلنا كعادتنا الي حيث خيمة عمي مبروك
لنسمع صراخ وعويل زوجته وبكاء أبنائه وارتفاع صياح وبكاء عمي مبروك نفسه
لقد سرق أحد لصوص قريتنا نحاس اهل القرية الذي أؤتمن عليه مبروك
ويتجمع كبار القرية وأهل الحل والعقد ..متضامنين مع مبروك مبيض النحاس ….
مع علم الجميع بالسارق وقد أتوا به لعله يعترف ورغم تدخل الجميع إلا أن السارق رفض الأعتراف بالسرقة ورد المسروقات
فما كان من أهل اكياد أن تنازلوا عن نحاسهم وطيبوا خاطر مبروك وأكرموا ضيافته وأسرته
وعوضوه خيرا وأحسنوا مأواه
كان عمي مبروك يزور قريتنا شهرا كل صيف لتلميع النحاس
وظل عمي مبروك يتردد علي القرية سنويا بعد واقعة السرقة الشهيرة وأهل اكياد يحسنون استقباله وضيافته حتي أصبح طاعنا في العمر ووافته المنية
وأصبحت مهنة تبييض النحاس أثرا بعد عين …وانقرضت بمرور الزمن

 

حمدى كسكين

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك