أجزم أنه حتى الثمانينيات من القرن المنصرم، وكلما غشي الليل النهار يطلبه حثيثاً، كانت هناك مسرجة وحيدة تجابه الظلام الدامس، في أكثر البيوت المصرية،،،
كانت هي بؤرة الاستبصار العظمى، التي صنعها الإنسان لتُسير له تلبية حوائجه الضرورية طيلة الليل الساكن، من أعمال الطهي والمشرب وغسيل الثياب والانحناء قرب شعاعها النافذ لتحصيل القدر الكبير من المذاكرة…
إنها لمبة الجاز محدودة الضوء مطلوقة العطاء، في صناعة أجيال من العظماء،،،
هي التي أوقدت شعلة الضوء والأمل لآلاف النابهين في بر مصر، ولعَمرى إن بهم صارت مصر عبقرية المكان، بقرار أحد الذين استضاءوا بشعاعها جمال حمدان…
أسهمت لمبة الجاز في تخريج ذخيرة من المبدعين في شتى مناحي الحياة المصرية،
فعلى سنابرقها الضئيل، تربى الجيل تلو الجيل، في ظلمات الليل العليل، قاهراً عقبات اليأس الذليل، محرزاً مقامات الشرف والتبجيل….
فمع نُدرة المعطيات تماهت الطموحات، ومع قلة المتاحات تفجرت الإبداعات، وايم الله إن هذا لفي المسير عجيب …
وحسبنا إذا ما قورن هؤلاء بالجيل المعاصر، وقد بُسطت له كل مقومات التفرد والتمدد، فإذا به للنجاح لدود الخصام وللإنترنت الفتاك في أشد وئام ، وتالله إن هذا في المسير لأعحب …
من المذاكرة على لمبة الجاز حلق مصريون في سماء العالم وأوقدوها بمصابيح إبدعاتهم، وبجمود التطلع والانغلاق الانهزامي على الذات، أدبر ذات المصريين عن بوصلة التفوق بمحض إرادتهم…
ركض العالم مشدوهاً بعبقرية علي مصطفى مشرفة في الفيزياء، وبيحيى المشد عالم الذرة النجيب، الذي اغتاله الموساد في باريس عام ١٩٨٠م، وبسميره موسى أول عالمة ذرة مصرية، وأول معيدة في كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول القاهرة حالياً، والتي اغتالها الموساد أيضاً في كاليفورنيا الأمريكية…
وكم كان تأثير لمبة الجاز في الشخصية المصرية قديماً عظيماً، فهذا سعيد السيد بدير عالم نحرير في مجال الاتصال بالأقمار الصناعية، وابن المخرج السيد بدير، وقد طالته يد الموساد أيضاً مأسوفاً عليه مقتولاً عام ١٩٨٩م…
قضى عشرات الآلاف من المصريين وطراً وفيراً من شعاع لمبة الجاز، فذاع صيتهم من المشرق إلى المغرب، بكنوز تنوء بالعصبة أولي القوة، تألق أحمد شوقي فتفرد بإمارة الشعراء في العالم الإسلامي كله، بعد إحيائه للغة الضاد، التي اعترتها لدغات التغريب حيناً من الدهر….
وبزغت ألمعية ووطنية محمود باشا سامي البارودي، فلقب بشاعر السيف والقلم…
وتأنقت نباهة العقاد تسطع من أقاصي الصعيد المصري، وكيف بابتدائيته المتواضعه، يحرز قصب السبق في ميدان الأدب المسبوك والشعر المنظوم، ويرفض الدكتوراه الفخرية من أساطين الأكاديميين بجامعة القاهرة العتيقة..
وذات الشيء إلى حد التماثل بزغ مصطفى الرافعي خريج الإبتدائية وجمال الغيطاني بدبلوم الصنايع….
على شعاع لمبة الجاز استضاءت حناجر وأفئدة المنشاوي والحصري والبنا ومصطفى إسماعيل وعبدالباسط عبدالصمد، فزينوا العالم بكلام ربهم نورٌ على نور …
وخرج جبل العلم الأشم جاد الحق علي جاد الحق، والشيخ عبدالحليم محمود، والشعراوي وعبدالحميد كشك والغزالي وعبدالله شحاته ومحمد المسير ونصر الدين طوبار والنقشبندي وعمر عبدالكافي والحويني وحسان وغيرهم..
أما بعد هؤلاء فقد عفت الديار ومحقت الأقطار من أهل الفضل والإبداع والكد والجد والإصرار، وإن كثرت منابع العلم الكمي، فقد أفل المحصول الكيفي، لا لشىء سوى لضخامة المنتج العلمي مع هشاشة المنهج التربوي ….
التعليقات