الجمعة - الموافق 29 مارس 2024م

لعبة الحبار وألعاب الكبار.. بقلم :- عبد الرازق أحمد الشاعر

في المجتمعات الشمولية، لا يمكنك أن تتنفس ملء رئتيك أو تمارس حقك الطبيعي في النقد أو التوجيه لا سيما إذ تعارضت بصمات فكرك مع توجهات الحاكم بأمره أو توجيهات طغمته الفاسدة. والخروج على ناموس الفساد قد يكلفك رأسك أو إحدى كليتيك أو قلبك أو رئتيك، وربما تدفع قرنيتيك ثمنا لآرائك السياسية المعارضة. أما أن تدفع كل ذلك أو بعضا منه ثمنا لمشاهدة مسلسل من تسع حلقات، فهذا ما لن تجده إلا في كوريا الشمالية.

بين غمضة رقيب وانتباهته، تصدر مسلسل “لعبة الحبار” الكوري الجنوبي قائمة أفضل 10 عروض تليفزيونية على نتفليكس ليصبح أكثر المسلسلات مشاهدة على مستوى العالم. وربما يعود الفضل في ذلك إلى الحكومة الكورية الشمالية التي روجت بممارساتها البشعة لهذا المسلسل من حيث أرادت أن تحاصره وتمنع انتشاره داخل البلاد. حيث ألقت منظمة الرقاية الحكومية القبض على ثلة من الطلاب الذين سولت لهم أنفسهم تداول حلقات هذا المسلسل على أقراص مضغوطة في انتهاك صريح للقانون الذي يعاقب على مشاهدة مواد إعلامية من “الدول الرأسمالية” مثل كوريا الجنوبية والولايات المتحدة.

وحتى لا يشطح خيالك، أطمئنك يا صديقي أن المسلسل لا يدعو إلى قلب نظام الحكم أو الثورة ضد كيم جونغ أون، كما أنه لا يروج للدعارة الفكرية أو البدع الدينية أو البذاءة أو الجنس، ولا يحتوى على نقد للأوضاع الاجتماعية السيئة أو مستقبل الحريات المظلم؛ لا شيء من ذلك البتة. حيث تدور أحداث المسلسل حول لعبة للبقاء، يتقاتل فيها 456 متسابقا للفوز بجائزة قدرها 38.7 مليون دولار. ويتعرض الخاسرون في هذه اللعبة العنيفة – والذين دفعتهم أوضاعهم الاجتماعية المزرية إلى المشاركة – إلى استئصال أعضائهم لخدمة أغراض طبية.

ما الذي مهد لهذه الدراما الكورية البائسة كي تصبح الأكثر مشاهدة في 90 دولة على امتداد هذا الكوكب الضال؟ وما الذي جعل نسبة المشاهدة تتجاوز 111 مليون مشاهدة في غضون 17 يوما فقط من عرضه؟ وما الذي دفع الملايين في أوروبا وأمريكا لتعلم اللغة الكورية ليتمكنوا من متابعة المسلسل بلغته الأصلية؟ وكيف أصبحت أفئدة الناس تهوي إلى هذا القاع من الرداءة الفكرية من المحيط إلى المحيط؟

يبدأ المسلسل بتناول بعض اللقطات الحية من الواقع التعس الذي يحياه أبطال الفيلم، حيث يتلقون رسائل غامضة تدعوهم للمشاركة في لعبة الموت هذه. وفوق جزيرة معزولة يتقاتل أعداء افتراضيون من أجل الفوز بهذا المبلغ الضخم. ليس في الأمر ثمة إبداع إذن، فهي مجرد لعبة أطفال افتراضية. الغريب أن هذا العمل قد تم رفضه لعشر سنوات متتالية، قبل أن يتم عرضه ويحقق هذا الانتشار المذهل.

حذرت بريطانيا من أثر المشاهد العنيفة على الأطفال، لكنها سمحت بعرض المسلسل ليصبح الأكثر مشاهدة هناك. لكن الأمر في كوريا الشمالية يختلف، فقد تم إعدام الشخص الذي ثبت ترويجه للعبة الحبار رميا بالرصاص، بينما حوكم الذين تعاطوه من طلبة المدارس الثانوية بخمس سنوات مع الأشغال الشاقة. أما المشرفون من مدرسين ومديرين، فقد تم فصلهم من أعمالهم. ولا يزال التفتيش جاريا عن أي أقراص مدمجة أو هواتف محمولة تروج للمسلسل سيء الذكر.

لم يناقش أحد في كوريا الشمالية حالة الفقر المدقع التي دفعت بطل المسلسل وأقرانه إلى المشاركة في هذا النوع من الألعاب البشعة، ولم يتحدث أحد عن وجوب إصلاح منظومة القيم التي تهاوت تحت مطارق العولمة والتغريب. ولم يناد أحد بوجوب إصلاح النظام السياسي في البلاد، لأن الشعب هناك يتلصص ويمص شفتيه كربا ويعوي، لكن قافلة الحكومة تسير.

في بلاد ما وراء القهر، لا يملك الرجل صوته ولا قرنيتيه، وليس من حقه توزيع بصره ذات اليمين وذات الشمال، ففي كل “فصل دراسي” عسس ينقلون لكيم جونغ أون كل صغيرة وكبيرة في “مدرسة” الوطن. وعلى الذين يمدون أعينهم إلى ما تتمتع به شعوب أخرى من “بشاعة” أن يستعدوا لدفع الضريبة من أعضائهم الفاسدة. صحيح أن صديقه الصيني شي جين بينج يمارس اللعبة نفسها، وصحيح أن ضحايا لعبته ليسوا أشخاصا افتراضيين، بل مسلمين أويغوريين يتاجَر علانية بأعضائهم الحية، إلا أنها السياسة يا صديقي، وللسياسة دوما ما يبررها.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك