الخميس - الموافق 18 أبريل 2024م

كارمين اختارت الأمين – برشلونة : مصطفى منيغ

Spread the love

أشياء حقيقة موجودة لكن ظهورها بهذا الشكل وفي اسبانيا بالذات يحتاج إلى شروط التصديق ومنها الدليل والمُقنع أيضاً . مَا أَخبرتني به الخادمة عن السيدة بأمر ممنوح لها على خلفية الكلام القاسي الذي وجهتُه لها و جعلته مقدمة لمغادرة جو تلك الدار المُخيٍّم عليها الغموض بشكل كبير. ما أخبرتني به لا يندرج في العادي بل يرقَى لخطورة التعامل مع أقل تفاصيله ، المتطلب شجاعة معززة بقوة ذهنية لا تنحني لأية رياح مهما كانت عاتية ، وإيماناً عميقاً بالذي يَحْدُث ، أنه واقع وواجب التصرف اتجاهه بوعيٍ شديدٍ وإبْعادِ الخوف من قاموس المواجهة المباشرة لو تَمَّت ، وبالتالي القدرة على تحمُّل المستجدات لو تجاوزت تلك المواجهة الحدود المُتَّفق عليها بإحساس له علاقة وطيدة بدهاء خارق ، دون نسيان أن حق التصرف لمباشرة التدخُّل، بنية إنقاذ ما يمكن إنقاذه، رَهِين بمغامرة الحصول على التفاهم المشترك خروجاً من الوضعية الخطيرة بأقل الخسائر الممكنة ، طبعاً الخادمة نصحتني بالابتعاد فوراً لما تُخفيه من شعور جميل اتجاهي الذي أكَّدَتْهُ تلك اللحظة ، لكنني رفضتُ لسببين ، أولهما أن تربيتي كانسان تجعلني  بقدر ما لديَّ حقوق على السيدة لديَّ واجبات اتجاهها ، ثانيها من شِيَمِي عدم التخلي تحت أي تعليل عن مساعدة إمرأة تيقَّنتُ الآن أنها تحبُّني أكثر من نفسها ، ليس المفروض أن أبادلها نفس الحب بنفس التفاصيل إن وُجِدَت ، لكن ما جرى بيننا ، مهما اتَّخَذْتُهُ حَدثاً عابراً، ضميري يحتِّم علَّ عدم تركها في مثل الظروف جد السيئة التي تحياها . ” وَالعَمل؟،” سألتني الخادمة ، “استفسريها إن كانت ترغبُ في الْتِحاقِي بغرفتها ، أم أن تلتحقَ بي حيث أنتظرها هنا “، “على العموم سأظل بالقرب منك لاستطيع التدخل لصالحك في الوقت المناسب”، خاطبتني وهي تغادر ، لحظات مرَّت قبل أن تطرق الباب استئذاناً للدخول، ولمَّا رأيتُها أمامي والتمعن بجدية (عن قرب) في عينيها ، اعتبرتُ ما قالَته الخادمة بالأمر الواقع حقاً ، بالأحرى حينما عانقتني عناقاً ينفي بشدَّتِه  رقة عناق أنثى تحاول اظهار نعومة تجلب بها اعجاب رجل يفهم في أصول لقاء الطرفين في مثل الحالة ، لأخرجَ باستنتاج أنني في مأمن ولن يقع ما يمكن تعكير صفحة جديدة لعلاقة قد تطول هذه المرة أكثر من الزمن الذي حدَّدتُه لها لألتفتَ لمصالحي الخاصة ، بدورها فَهِمَت أنني أدركت ما بعد الفهم ، فَرَاقَ خاطرها لتنادي على الخادمة وتُقبِّلها بين عينيها قُبْلَة لها أكثر من معنى بالنسبة لي ، ولتأمرها بإعداد مكان (هي أدري به) لتناول العشاء وقضاء وقت لطيف لمسح كل آثار التوتر السابق . المكان عبارة عن شرفة واسعة سقفها السماء، تطل على مساحة مزروعة بأنواع من أشجار الفاكهة، كل صنف ينبعث منه رائحة فيمزجها الجو لاستحضار عطر طبيعي متى استنشقه الجالس في ليلة من صيف يتوسط القمر نجومها وبجانبه قمر بشري عز جماله ، جعل ما عاش من عمر في كفة وهذه الآونة وحدها في أخرى ، ليعلمَ أن السعادةَ تتحول لتعاسة لدى المتخيِّل فقدان مثل المكان والجالسة معه نبع حنان ، حالما تعود مياه الفقير، لمجراها بين كوخ وحصير .

“أيكما معي الآن ؟،” سألتُ السيدة” ، أجابت : ” كلانا معا”،” كيف أصدِّق؟” استفسرتُ ، السيدة ترتفع سابحة في الفضاء لمسافة ليس بالهينة  ثم تعود جالسة بهدوء متحدثة معي باللغة المغربية العامية بكل طلاقة سائلة عن موعد رجوعي للمغرب ؟ . لم أجبها اكتفيتُ بالتركيز في ملامح وجهها  العامل الذي غيَّبها لست أدري أين تاركة المجال للسيدة كي تتمتع بسهرتها معي كأن شيئا لم يكن .

الخوف حالة غير ثابتة موجود كسلوك مرجعيته تربية العادةِ المُكتَسَبَة من الصِّغر مضبوطَةٌٌ حسب المستوى الاجتماعي قبل الفكري للمربين الأصليين المتواجدين باستمرار مع أبنائهم ذكوراً كانوا أو إناثاً ، لذا الأمر عندي يظل في إطار تقبَّلِ ما قَبِلَهُ عقلي فأشار إليَّ  بحرية التصرف مادُمت قادراًَ على تحمُّل صدمات اللاَّطبيي حينما يتكشَّف لي صوتاً أو جسداً أو شبحاً متحركاً بظل يُبين موقعه ، نرى القرد فنحكم عليه بالقُبح ، نفس الحكم نتلقاه منه حين يرانا ، نجلس في مكان يطلعُ علينا فيه مَن يطلع في أي صورة مخلوق على شكلها ، إن هربنا عن خوف لن نفلت من ملاحقته تلك اللحظة أو مدى الحياة في خيالنا ، فالأحسن أن نعطي لأنفسنا فرصة لنعرف إن كنا مستهدفين للمساعدة ، أو طلب أُلْفَة لملَلٍ اعتراه باطن الأرض ، أو داخل جُحر مهجور، أو بسبب وحدةٍ قاتلة ، ما حصلَ معي والسيدة جالسة أمامي يؤكد أن الشر آخر شيء مستعمل لإلحاق الأذى بالغير  مهما كان مصدره ، الأرض برواسيها وسهولها وهضابها وروابيها وفجواتها وأنهارها وبحارها  مُسَخَّرَة بالحكمة العادلة لكل أشكال الحياة ، والجميع فوقها آكِلٌ أو مَأْكُولٌ ، ومَن استوطن الخوف ذاته ابتعد عن أكثر التجارب  مصداقية ليقيس درجة ثقته بنفسه . لستُ ملزماً بتوضيح إنسانية المرء إن تَرَكَ من تَحْمِل نفس مواصفات البشر، بما فيها الحب والكراهية وآفة الأنانية أيضا ، من أجل التمتع بالسهل الميسور مقتفياً أثار القائل أنا وبعدي الطوفان ، لأنني واثق أن الخيرَ غالبٌ مهما كان الدافع إلى جعله أولوية أولويات التضامن في هذه الحالة بعينها  . ما ذنب السيدة إن تعرضت لما حوَّل حياتها إلى جحيم، وحرمها أن تحب أو تكره كباقي الناس ، وأن تجالس من تعشق دون تفكير في خطر قد يداهمهما  في أي لحظة ، إن لم أكن في مقدمة المضحين من أجل إنقاذها ،  لم تفدها سنوات الصبر الطويلة ، ولا الاستسلام لطاقة أقوي تلج صدرها متى شاءت الاختفاء أو الحماية أو لغرض آخر ، حمَّلتُ نفسي مسؤولية استكشافه ، إن تمكنت كنتُ مستحقاً عن جدارة لقب إنسان ، وإن فشلت فلن يحاسبني ضميري ، ظلّت تنظر إلى صامتة مرتبكة غير قادرة لتحديد من أين تبدأ وقد انكشف عالمها المرير لإنسان اختارته عن ثقة ليكون بجانبها تحن إليه متى أُفُْرِِغَت ذاتها ممَّ عَلِقَ بها مُكرهة ، وحتى أطمئنها أقنعتها ببقائي ولو ضيَّعتُ مِن أجل ذلك المستقبل الذي جئتُ مشيِّداً له انطلاقاً من هذه الأرض ، لتبتسم وقد صبغ دم الآمان وجنتيها بلون الآمل ، فرايتها  صفحة بيضاء تدنو مني لأكتب فوقها لا تخافي أنا معك . نهضت بحضور الخادمة لتقول لي : “سأسبقك لغرفتي لا تتأخر أرجوك”، الخادمة تنتظر ابتعاد سيدتها لتفرغ علي مخاوفها وتلومني في أدب جم عن عدم تقديري للمخاطر التي أصبحتُ جزءاً منها ، وليتها كانت في نصف مقام كارمين لتأخذنى من يدي ونغادر معاً لآخر الدنيا إن أمكن ، وأنها أصبحت تشك بعنادي هذا إن كنتُ أحبُّ حقيقة تلك الإنسانة البريئة التي اختارتني  لنفسها ذاك المخلص الأمين . (يتبع)

     

مصطفى منيغ

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك