الثلاثاء - الموافق 19 مارس 2024م

قصة قصيرة ..اشتباك عاطفي..بقلم / صبحه بغوره

جلس يرتشف قهوته كعادته كل مساء في شرفته التي تطل على الشارع التجاريالكبير بالمدينة،كان أكثر ما يسعده رؤية الطائرات تمر فوقه بين الحين والآخر على ارتفاع منخفضوهي تتهيأ للهبوط بالمطار القريب من منزله ، يتأمل الأضواء الساطعة تنبعث منها ويتمنى لو كان ضمن ركابها . في مثل هذا الوقت تبدأ الحركة تدب دفعة واحدة على جانبي الطريق وتتحلى واجهات المحلات ، لم يكن يهمه كثيرا أن يراقب فنجانه وهو يرفعه في كل مرة إلى فمه، فعيناه لا تغادر المارة ولكن ليس كلهم ، النساء منهم يجذبونه أكثروهذا في نظره من مزايا السكن بالأدوار السفلى التي تتيح الرؤية إلى التفاصيل بشكل أفضل تمنى لو أنه في وضع مالي يسمح له باستغلال موقعه هذا لتحقيق الاختيار الأصوب  فهو لا يزال ينتظر الرد على طلبات العمل التي قدمها إلى عشرات الجهات  بعدما أنهى دراسته الجامعية وأدى الخدمة العسكرية ،أصبح لا يطيق صبرا على البقاء عاطلا عن العملوالانتظار أكثر من ما مضى بدون جدوى، وجد في شرفته مكانا مؤنسايخفف عنه الملل وحيث لا يشاركه وحدته وتأملاته فيه أحد،تذكر كم كان اجتماعيا وكثير الأصدقاء وكيف أن مشاغل الدنيا ألهته عنهم فانصرفوا عنه،يعلم أنه لم يدخل دائرة المكابدة والمعاناة اليومية لأنه ليس بعد في وضع من يتحمل مسؤولية أعباء أسرة كباقي أقرانه، كما أنه ليس كمثل من وقع منهم سريعا فيشرالتيه العاطفي الذي أدى بهم إلى تناسل الأخطاء، هز رأسه موافقا ما تلقاه من وحي نفسه الذي وجد فيه تحذيرا أكثر منه تذكيرا لماضي أو تفسيرا لواقع ،وبينما هو كذلك مرت أمام عينيه تلك الفتاة التي كان قداعتاد رؤيتها من قبل في مثل هذا الوقت عائدة من العمل،كانت قد شغلته بأناقتها ورشاقتها وحسنها وبخطواتها الواثقة وهاهي تعود إلى الظهور بعد غياب دام أياما أصيب خلالها بالأنيميا العاطفية،وجدها تماما كما عهدها فوقف منتصبا كمن يريد أن يسترعي نظرها وفعلا لفت انتباهها ولكنه رأى في عينيها معاني اختلطت عليه في نظرتها إليه، أهو تعجب، أم إعجاب ؟ مرت سريعا وتركته حائرا، لم يجد تفسيرا لحيرته هذه ، أهو الشوق إلى من تعود التمتعبرؤيتها؟ أم هي مجرد الفرحة بنهاية حرمانه من تسلية ألفها،كل ما يعرفه أنه أثارت هذه المرة شيئا في نفسه شغل عقله وحرك قلبه.

في اليوم التالي قرر أن لا يبقى بالشرفة وقت مرورها بل يلتقيها وجها لوجه في الشارع ، مرت في وقتها المعتاد رفعت عينيها نحو شرفته،حمحم بلطف وعن قصد واضح.. فوجئت به على بعد خطوات منها فأسرعت الخطى مارة أمامه على استحياء لافت ورمقته بنظرة تحتية خجولة، لم يكلمها بقي مشدوها وكأنه لم يصدق أنها بكل هذا الجمال الفاتن ، ظلت عيناه لا تغادرانهاإلى حيث مضت حتى غابتوغاب هو عن الدنيا ،لم يدر كيف عاد إلى منزله ولا لماذا استلقى على سريره ، طاب له أن يستحضر ما بقي له منها صورتها المشرقة بجمالها ورائحة عطرها الأخاذونظرتها الخجولة الناعسة وشعرها الأبنوسيالمنسدل بلطف على كتفيها كوشاح أسود، تساءل في نفسه عن سر إسراعها الخطى لما رأته.. هل خشيت منه تحرشا..؟ أم أنه منفرإلى هذه الدرجة؟ أم ماذا بالضبط ..حاول أن يقنع نفسه بأن لاشيء  أكيد من كل هذا، ثم استسلم وخضع للتأويلات المتنمرة الماكرة منها والمتناقضةوبينهما كمنتخيالات المؤامرات وعششتأوهام الاحتواءات التي لا يطيق صاحبها صبرا حتى ينتهي من النسج الدقيق لخيوطها ثم يتمتع وهو يرى سهامه قد نفذت.

وقف ينتظرهافي اليوم التاليفي نفس الميعاد وقد بيت لها في نفسه أمرا، بقي منزويا إلى أن ظهرت له من بين جموع المارة قادمة نحوهفخفق قلبه سريعاوتقدم خطوتين إلى منتصف الرصيف وأنفاسهتتلاحق حارة يسمع لها صوتا كالفحيح،أقترب منها مرتبكا وقد جف حلقه من الاضطراب وبمجرد اقترابها منه مال عليهافأومت هي برأسها نحوه في دلال كمن تستعد للسماع ،همس لها بكلمتين طغى عليهما أزيز مزعجلمحركات طائرة عملاقةصم أذنيه وما إن مرتحتى كانت هي قد ابتعدت عنه كثيرا ولكن تركتههذه المرة في شك كبير من أمره ، عاد خائبا إلى منزلهيندب حظه العاثر، ولكن الواقع أصبح يحمل ما يبرر انشغاله بالأسئلة الحائرة، هل سمعت حقا كلماته بوضوح ؟ هل فهمتها ؟ وهل ستتقبل معانيها ؟ هنا تذكر إيماءتها نحوه فتشجع أكثر لإعادة المحاولةوبات مصمما على عمل مافهو يعلم أن المرأة كائن سمعي تستمتع طويلا بكلمات الغزل وحلو الحديث وتميل لمن يجيد شدو أغرود الحب والحياة ويوقد مصابيح الرومانسية في النفوس ويشعل نيران المحبة في القلوب، قضى ليلته يجتهد في محاولة استعادة ما مر عليه من العبارات العذبةويحفظ أشعار الغزل وكلمات الأغاني الرومانسية الرقيقةويستمع لأغاني الحب الدافئة تخرق صمت لياليه الباردة التي  ظلت هكذا دائما طوال فصول السنة الأربعة،وبين أغنية “أنت عمري ” و”أنت الحب” بات مشغولا بسيرة الحب ،وبينما هو غارق في ذلككانت هي تقضي وقتا من الليل تحضر أفضل ما لديها من المكياج والملابس لتظهر بها غدا مميزة بجمالها منفردة بسحرها ، لقد كان اهتمامها بسماع ما سيقوله أكبر من أن يعيقه أزيز طائرة أو حتى هدير محركات قطار، نعم ، لقد سمعت كلماته جيدا وكم كانت تنتظرها منه، فهمت معانيها قبل أن يبوح بها، وأدركت ما عليها فعله، هي تعلم أن الرجل كائن بصري يتمتع كثيرا بحاسته البصرية بشكل غريزي حتى ولو عن غير عمد،وكأن كلاهما أراد أن يكونالغد أفضل أيامهما، يكون حفلة حياة ووليمة فرح ولحظة لقاء جميل .

جاءت اللحظة المنتظرة ، أرسل نظرات الشوق إليها وهي قادمة نحوه من بعيد ، اقتربت وهي تخطو متمايلة كزهرة برية تتراقص بفعل النسيم العليل يكاد الناظر إليها يتنسم رحيق الأقحوان ، تحدثت ملابسها لغة تشكيلية مليئة بالإيحاءات الرمزية التي تحمل الأبصار إلى تناسق حركتها حيث يلتقي تصميمها بسحر ألوانهافيترجمها كل ناظر إليها على طريقته، مرت أمامه متعمدة مغازلته بلغة الصورة فأسقطت من يديها أوراقا على الأرض ، وبينما هي تجمع ما تبعثر منها بقي هو مشدوها، قدماه مشدودتان إلى الأرض ،مشلولا، لم يجد ما يفعل ، خشي أنظار الناس وتعليقاتهم لو انحنى يساعدها في جمع ما تناثر من أوراقها فمنهم لاشك من سيعلق ساخرا أنه أراد ماكرا أن يجعل هذه الصدفة فرصة للتعارف ،لملمت ما تناثر من أوراقها وجمعت في الوقت نفسه ما تبعثر من عواطفها على الطريق ،فشلت حين أرادت منحه في هذه اللحظة فرصة بصرية له، مضت بعدما خاب أملها في أن يكون الموقف كلقطة فيديو تمثل عرضا خاطفا بأحداث كثيفة ، ظل ساهرا إلى ساعة متأخرة يتذكرما جرى وما كان منه، وكيف فشل في اختبار الجدارةوكأنه لا يزال يعاني من آثار الأنيميا العاطفية، بات يلوم نفسه كثيرا على ضياعه فرصة تعارفه بها، خاصة بعدما أدرك أن أوراقها لم تسقط عفويا بل كان عن قصد وبنية مسبقة منها ،بات مشغولا بهاإلى حد القلق بينما هي كانت في نفس اللحظة تغط في نوم هادئ وعميق وكأن لا شيء مما مر عليها شغلها أو أصابها بالأرق.

نهض بعد منتصف نهاراليوم التالي مستنفرا أكثر من أي وقت مضى ليضع حدا يرضيه ، رفضأن تكون المشكلة واضحة وأن يكون حلها أكثر وضوحا ومع ذلك تبقى قائمةفاستمرارها سيعني لديه استمرائها وسيحتاج الأمر منه قوة إقناع نووية، تأهب في الوقت المعتاد ليراها ويصارحها بتعلقه بها، ويبوح لها بحبه،انتظرها بكل والشغفبها في الوقت المعتادوفي المكان الذي سقطت فيه أوراقهابالأمس،انتظرها بكل اللهفة عليها وفائض الحب في عينيه لا تخفيه نظراته، ولكن طال انتظاره ، أصابه بعض القلق وبقي في رواحومجيء، ومع مرورالوقت لاحظ بعض المارة اضطرابه الشديد،وعصبيته الزائدة ، لقد مر وقتا طويلا ولم تظهر، يشعر كأن القدر قد حرمه من حقه في التمتع بسحر آيات الحسن فيها، وفي غفلة منه ارتفع الآذان مدويا معلنا صلاة الجمعة ، استغفر وتوجه إلى المسجد عله يداوي ما أصابه من تسمم عاطفي عطل لديه الإدراك وأعاق حسن تواصله فصعب عليه التأقلم في كل الأحوال، وعلم أن عسر الحال قد يحرم الناس من متعة الحلال ،وبعدما فرغ من صلاة الجمعة عاد إلى منزله وقد انطفأت في صمت شمعة في ذاكرته .

الحب وحــده ، لا يكفــــي ..

كان يعلم أن تفكيره العميق في ملامحها سيتطلب جهدا وسيدوم وقتا فهو يريد اقتحام المناطق المظلمة التي لم تسعفه الظروف من تبين معالمها بوضوح، يتذكرأحمد جيدا  كيف كان لقاؤه بها صدفة عندما مرت به الحسناء سريعا في حفل زفاف صديق له، وكيف كان شعرها الأصفر المائل للحمرة يتطاير على وقع خطواتها الرشيقة ، لم ينل منها حينها سوى تحية مجاملة باسمة سكنته كحلم جميل ظل يغازله مع بعض من كلماتها التي لم يستوعبها جيدا ولكن صوتها الدافئ ترك صداه يتردد في نفسه كاللحن الجميل، بات ليلته ساهرا وكلما أطال التفكير فيها أدرك أين تكمن قيمة اللحظة ، يجد نفسه أمام طريق بحاجة فيه إلى معالم تحدد بدايته وتبين نهايته، انه الآن لا يملك إلا أن يتمثلها كما لمحها تختزل بتفاصيلها الحياة بكل أفراحها، تذكر فستانها الجميل ، نعم فستانها الطويل الأزرق ،اللون المفضل لديه الذي يمنحه متعة الشعور بالراحة والاسترخاء تماما مثلما منحها في الحفل تلك الثقة الكبيرة بالنفس فبدت في سعادة غامرة ، كان فستانها ينزف زرقة وتثير كل طية فاخرة فيه تخيلاته الوحشية ، هم بالتوقف عن التفكير فيها بعدما ارتفعت درجة تشويقه إليها وأصبح كلامه روائيا أكثر منه موضوعيا ولكن أدخله ذلك في لحظة قاتمة كادت أن تصيبه بالفقر العاطفي فتراجع بما يشبه تأييد ما تلقاه من وحي نفسه انه يصعب عليه التعامل مع الوضع وفق منطق الهدنة العاطفية، وما كاد ينساق ثانية وراء عرائس مخيلته حتى استسلم إلى غفوة أوقفت إلى حين حدة احتقانه الفكري، ثم لم يلبث أن اخترق الغيوم شعاع نور تسلل إلى غرفته ، نهض وتناول قهوة الصباح واقفا وراء نافذة عريضة تطل على منتزه واسع،سره ما رأى من بهاء الطبيعة وصفاء الجو فانشرح صدره وتولد في نفسه إيمان قوي بوجود أمل كبير في فرصة أخرى للقاء قريب مع من شغله حسنها الليل بطوله.

من يفتح قلبه تتغير نظرته إلى العالم، هكذا كان حاله وهو في طريقه نشيطا إلى العمل، وهكذا صمم أن يكون بعدما أدرك أن كل إنسان يحمل عالمه في قلبه، انه من الآن الرجل الباحث عن الحب الذي لم تسمح له هموم عمله اليومي أن يتذوق حلاوته ، تمنى صدفة أخرى يلتقي فيها بالحسناء ذات الرداء الأزرق لتكون فرصته لذلك، ولكن تساؤلات حائرة ببعدها القدري فرضت نفسها عليه، هل أحبها فعلا..؟علم ذات يوم من صديقه  “العريس” أنها تعمل في إحدى شركات الهاتف النقال وأنها صديقة لزوجته، توجه إلى مكان عملهاوفوراعرفها، وبسهولة عرفته، تعمد أن تنهي هي بالذات إجراءات حصوله على خط هاتفي جديد تكون أرقامه سهلة الحفظ ، تمعن فيها جيدا وقرأها ببطء وردده على مسامعها عدة مرات ثم حياها بلطف وانصرف، كان عليه إن ينتظر أياما حتى يسمع صوتها ذات مساء، دامت المحادثة مدة سرعان ما تحول خلالها السؤال عن سلامة خطه الهاتفي الجديد إلى حوار عذب أوصلهما إلى مستوى مريح من التعارف ، توالت اتصالاتهما الهاتفية فيما بعد وزاد تعلقهما ببعض،

فكان البوح الجميل عن المشاعر الرقيقة المتبادلة الذي دفعهما إلى إجادة رسم صورة المشاعر وتلوينهاياماأياما

، أنهما لم يلتقيا سوى مرة واحدة ولكن تكونت بينهما مساحة عاطفية استفزت الكلمات العطرة والحديث الناعم والفهم المتعاطف وأصبحا لبعضهما سكنا بلا عنوان، ثم دق القدر أوتاره فشكل لحنا عذبا ردده قلبان عن بعد بكلمات المجاملة والانبهار على أمل اختيار مكان الانتظار.

بعد أيام تمكنا من تحديد موعد لقائهما ، لم يكن الأمر معقدا بقدر ما استلذا عذاب الوجد وكأنهما استأخرا الوصالعمدا لتكون مشاعر الأشواق أعمق والحنين أكبر  أراد هو منذ البداية أن يحدث الدهشة بعبارات رقيقة ، دقيقة وبالغة المعنى، لم تستطع أن تجاريه على نفس المنوال، جاءت كلماتها إرهاصات غبر موضوعية، لاحظ تعثرا ملحوظا ليس في مستوى تفكيرها فقط إنما في مهارات التعبير عن مشاعرها وبلاغة التعبيرعن رأيها، فكان ذلك البداية لخلخلة فكرته عنها خاصة عندما تعمدت تحويل كل حديث له إلى موضوع ملتبس في كلماته تشوبه الضبابية أكثر من الوضوح فعطلت بذلك عملية تخصيب الشرط الموضوعي لانتعاش الحوار أو تأجيج الرغبة في مواصلته، كان انبهاره بجمالها ستارا أخفى وراءه انزعاجه منها ومع ذلك لم يشأ أن يمدد عمر اللقاء أكثر.. فغادرها .

لا أستطيع أن أضمن لك صمتــي

في يوم رائق وناعم صادف وجود أميرة ذات الأربع وعشرين ربيعا في الحديقةالجميلة المجاورة لمنزلهاالصغير مرور الشاب أحمد الذي يكبرها بعامين بنفس المكان ، كان بيدها قصة بلغة أجنبية وكان بيده كتاب يقرأه من اليمين ، كلاهما مستغرق في ما يقرأ، كانت جالسة على أريكة خشبية بينما هو كان بين رواح ومجيء يسير بخطوات متأنية وعيناه لا تغادر صفحات كتابه، استوقفته عبارة فتوقف عندها عن السير وكان توقفه غير بعيد عنها ، تمعن قليلا في ما قرأه ثم رفع نظره عن الكتاب فوقع بصره عليها، كانت أمامه تلاحظه  بعدما توقفت حشرجة احتكاك أقدامه بأوراق الأشجار المتناثرة ، رمقته من أعلى نظارتها ثم نزعتها بلطف وتأملت الموقف ثم أزاحت برفق خصلات من شعرها الكستنائي إلى الوراء، أسره هدوؤها وليس جمالها فليست كل امرأة جميلة عنده تكون طيبة ولكن كل امرأة طيبة جميلة، قرأ من هدوئها فيعينيها كثيرا من التأمل والحكمة، فللهدوء جماله، تقدم نحوها وبعد التحية اختار لنفسه مكانا ليس بعيدا عنها، تعارفا في يسر وتحادثا كثيرا، كان سردها عابقا بجنون اللحظة ورحيق رغباتها، رأى فيها فنانة حساسة ترسم صور المشاعر وتلونها وتقدم ببلاغة عشقها وتستطيع أن تصل إلى ما تريد بجاذبية ودون خلاف، أدرك أنها ليست من بائعات الهوى في الطرقات كأوراق نثرتها ريح مدرسة الحياة فتشكلت بينهما سريعا مساحة عاطفية تمتزج بلوعة الفقد ، فكان ذلك بمثابة الوقود الذي غذىلديه كوامن الرغبة، ،ولم يدر كيف وجد نفسه قابعا في قلب العاصفة الروحية لامرأة يسكنها الحب ولا تملك سوى الحب سلاحا وأملا في الحياة،ولكنه غادرها وكاد أن لا يفعل، لقد تعود أن ينزل والحافلة تسير، غادرها وقد امتن كثيرا للقدر في ابتسامته له بمعرفتها.

كانت أميرة تعلم أنها تملك من الهدوء ما يجعل من نفسها امرأة يتمنى أي رجل الارتباط بها  وكان أحمد يدرك أن شفافية روحه وصدقه مبعث راحة وطمأنينة في نفس كل من يقترب منه كلاهما كان يتمتع بالقبول الرباني الذي يمنح الفؤاد والبصر السكينة والبهجة، فاجتمعت فيهما النشوة والمتعة، توالت لقاءاتهما وتوطدت علاقتهما،انجذبت إليه ولم يكن ذلك ممكنا  مع أي أحد من قبل، لقد وجدت ما كانت تنشده وتتمناه من سمات الرجولة الساكنة فيه والمفترضة في الفكرة والرأي والجسد والحسم في الموقف والقوة في العلاقة العاطفية ووجد هو فيها تركيبة المرأة الذهنية والنفسية والعاطفية بالقدر المناسب لإبراز الأنوثة الكامنة فيها الجلية في السلاسة والخنوع والتمنع الأنثوي والاستكانة. كان ميل كلا منهما نحو الآخر راسخا في النفس طاغيا على الروح ومتملكا العقل ومسيطرا على القلب، صارت تمضي لياليها في الكتابة، كانت مجرد بعض الانطباعات العابرة وجملة من الخواطر غير العابرة وأفكار كثيرة متضاربة دونتها بدون توقف، بينما انصرف هو للقراءة، أخذ يطوي الكتاب وراء الكتاب مهما كان موضوعه، ولكن بقي الاضطراب يسكنهما نهارا والأرق يلازمهما ليلا، ورغبة عارمة تلح عليهما أن يا حب تجلى، إنهما يعرفان تماما ماهيتها ويدركان جيدا طبيعتها، ويعلمان أنه بمقدورهما إخماد نارها المتأججة في نفسيهما، فكان ذلك اللقاء الذي أختار له مكانا رومانسيا ، كان فضاء الوحي فيه أكبر من مساحة الكلام، أطلقت لمشاعرها العنان بما تملكه من حس أنثوي منتصر للحياة ،تلاعبت بسلمية المعاني ثم ما لبثت أن تحولت إلى البلاغات الماكرة ، استفز حديثها الناعم أدواته بلغة شعرية عفوية وبحرارة القول وجماليات الشعر ووهج العاطفة، كان هو مختلفا عنها من حيث التوجه والنبرة والمسافة فلجأ لحيلة معرفة أدق التفاصيل عنها وبدا كعادة المحققين يتحرون وهم على حافة الانهيار العصبي ويغرقون اضطرابهم بالمهدئات، حدثته وأخبرته بكل ما يريد فقط من أجل أن تلتق عيونهما وتغترف من عمق نظراته ما يرضي شوقها إليه، لقد امتزج عندها النظر بالعاطفة فانساقت إلى عالم البوح، كان حديثها همسا دافئا ، لحنا شجيا، يتسلل إليه كترياق شافي للوعته، كانت أفضل ما تكون في عطفها الغريزي، حاول أن يكون ندا لها يبادلها إطلاق عرائس الكلمات، لم يكن يدري أن قلبه مازال نابضا وليس كما كان يظن في نهاية الخدمة، لقد عاشت لتسعد يوما بالحب أما هو فيريد أن يحب من يسعد معها بالحياة، اندفعا بكل الشوق في منزلق السقوط في فخ الوجه الآخر للعاطفة، كلاهما أتقن ممارسة الذكاء العاطفي وأجاد التعبير، وفي غياب اللحظة أوقف وليمة الجسد، لم يشأ أن يساير اعتقادها أن شيوع القمع والمنع وراءه معركة وهمية عنوانها الفضيلة والأخلاق، غادرها مرة أخرى وكاد أن لا يفعل، لقد أكسبته الحياة بعض فنون الخروج سالما من المكائد، كان يؤمن أن الخطيئة مفسدة لعلاقتهما وقد تضعهما في منظومة تناقضهما الحسي المنبثقة من منظومة توافقهماالروحي والعاطفي.

هل هي حقا ثورة الحب ؟ هكذا تساءل وهو يجوب وحده تلك الحديقة التي صادفها فيها أول مرة وعديد الأسئلة فرضت نفسها على تفكيره وهو يمر على ذات المقعد الذي شهد ذات يوم تعارفهما، يعلم أن القلب الشاغر يحتاج لصدق المشاعر، فهل كان لسانها حقا ترجمان قلبها؟ وهل كانت أحاسيسها صادقة معه ؟ وإن لم تكن فكيف أصبح أسيرها ؟ نعم انه يحتاجها بجانبه ولا يعلم إن كان حقا أحبها أم فقط أدمنها، في قرارة نفسه يشعر أنها تستحق أن يزرع لها في وجدانه ورودا للمحبة، استل هاتفه واتصل بها ، أراد أن يتخذ لوحا خشبيا يطفو به على الأمواج الهادئة حتى يصل إلى شاطئها، وقبل أن يكمل حديثه قاطعته بالموافقة، وافقت ولكن بشرط تمسكت به وهو أنها لن تستطيع أن تضمن له صمتها.. لن تتوقف عن البوح الجميل، ولن تكف عن حبه ..

دمـوع على خفقات القلب

ما أعجب أن ينتهي بها المشهد تماما كما بدأ مع تهالك لياليها المتعبة تحت وسادة وجعها ،هكذا نشأت”بهية” فيبيت كانت هي أكبر أخوتها وكلهن بنات ، تنام وتقبع في زوايا حجرات قلبها الصغير أحلامها البعيدة ورغباتها البريئة، ويشاء العلي القدير أن يهب  أسرتها الذكر بعد شوق كبير فكان المدلل دائما ثم كبر وهو المسيطر الذي يأمر وينهي ولا يرد له مطلبا، تحملت بهية المسؤولية وهي لم تزل طفلة صغيرة وكان عليها أن تتحمل أيضا تصرفات أخيها العبثية والطائشة  حتى كادت تفقد حق التنفس أمامه عاد أخوها  يوما من المدرسة كعادته مسرعا وطلب منها أن تحضر له طبقه المفضل البطاطس المقلية المقرمشة ، ولكنها اعتذرت لأن موعد انصرافها إلى عملها قد حان وعليها أن تكون في الموعد ، صرخ مناديا والده فأتاه مهرولا وأجبر بهية أن تحضر له ما طلبه قبل ذهابها إلى عملها بالرغم من أنها كانت قد أعدت طعام الغداء وأتمت تحضير المائدة ولكنه أصر على طلبه  فاضطربت وأسرعت وبدأت في التحضير وبينما هي تهم بوضع البطاطس في الزيت المغلي انقلبت المقلاة بين يديها فأحرق الزيت يديها وشوه جمالهما التي بهما كانت تساعد والدها وتعينه على توفير ما تحتاجه  أخواتها والمنزل ، التحدي الذي يملأ قلبها دفعها إلى الذهاب للعمل ، كان إصرارها كبيرا على أن تواصل الوقوف إلى جانب والديها في تنشئة أخواتها وأن تكافح من أجل إسعادهم ، ومرت عليها الأيام متشابهة ، تراها دائما مهتمة بمحاولة تحقيق التوازن في معادلة إرضاء جميع أفراد العائلة ، وعلى صعوبته كانت تقابل طلباتهم بابتسامة عريضة حيث كانت تجد في ذلك متعة ،وكثيرا ما كانت مضطرة تحت ضغوط جائرة أن تلتحف وشاح الصمت وتشرع بوابة السمع ببلاهة وتدخل في شبه حالة تفقد فيها نبرات صوتها وتضيع ملامحها بين أصوات أخرى ولكنها تصبر على أمل أن تغمرها مياه الدهشة الباردة حينما تباغتها المفاجأة على مدرج العمر، ثم أتى ذلك اليوم الذي التقت فيه فارس أحلامها ، يعمل موظفا بإحدى الإدارات التابعة لجهة عملها ، استلطفته لما احترمت فيه أخلاقه الطيبة ، ثم تمتعت بأيامها وهي تعيش أجمل الحكايات التي كتبها لها القدر بشذى ورود الدنيا، وكان يبادلها نفس الاحترام والإعجاب الشديد ببريق عينيها التي امتلأت فرحا لا تخفيه نظراتها الآسرة ، لقد رأت فيه حلمها الملون الذي زرع الأمل بين ضلوعها ، عبر لها عن رغبته في التقدم  لخطبتها مقتنعا بأن سماحة شخصيتها تمكنها من التعايش مع كل أفراد عائلته ، وفي اليوم الموعودتأخرت بهية في تحضير ملابسها وزينتها وبينما هي منهمكة وأفراد العائلتين يتبادلون أطراف الحديث الباسم طلبت أمها أن تقوم أختها ” نرجس” باستدراك الموقف سريعا  فقامت بتقديم المشروبات والحلوى للحاضرين ، وما كادت تنتهي حتى حلت “بهية” وكانت على مسمى في أبهى حلة وأزهى زينة، ولكن المفاجأة كانت كبيرة وأصبحت كابوسا بمليون مخلب وألف رأس وكل رأس بلسان يمتص لون أحلامها وتسقط كلماتها الشاعرية التي أجلتها إلى موعد خطبتها في سراديب الصمت ، واحترقت فراشاتها المحملة بالأماني المنتظرة ، وتوقفت شفتاها عن الشدو، إذ بعدما رأى الخاطب أختها ” نرجس” انبهر بجمالها فهمس من توه إلى أهله من حوله أنها هي من جاء لخطبتها  ووافقت عائلتها وتظاهرت بهية بالانشراح قليلا  بعدما وجهها أبوها إلى ضرورة الصمت والقبول بالأمر فلدية الكثير من البنات يريد لهن الستر العاجل ،وبأصداء فرح أجلته بعدما خاب أملها تراخت الظلمة على جسدها المستلقي في آخر الليل أغنية حزينة تبحر بها ألحانها الشجية إلى آت مجهول، سعادة أختها تهمها ولا يهمها نفسها ، ما تزال مستعدة للتضحية في كل وقت من أجل أخواتها ، مرت السنون سريعة لفرط ما عرفته من مناسبات سعيدة ومسرات فقد تزوجت كل أخواتها البنات ينما بقت هي تجلدها السنون بسياط من جمر الحياة ، كلام الناس لا يرحم ، قاربت على الأربعين من عمرها وأصبح شبح العنوسة يلوح لها في اليقظة والمنام كأقرب ما يكون.

لدى خروجها يوما من عملها مهرولة نحو الصيدلية لشراء دواء السكري لوالدها اضطرت حتى لا تتأخر بالدواء عن أبيها المريض إلى استئذان أحد الشباب كان ينتظر دوره للشراء ، فسمح لها بالمرور قبله لما رآها على عجلة ، راق له أدبها ولياقتها خاصة عندما شكرته ، لقد كانت الصدفة  التي خلقت الفرصة ليجري بينها التعارف سريعا ، ثم كان أن طلبها للزواج رغم فارق السن حيث كانت تكبره بعشر سنوات، كانت دخيلتها تحدثها أن عليها أن تثبت لمن لم يرحمها بلسانه أنها لا تزال مرغوبة ولم يفتها قطار الزواج ، وتم كل شيء بسرعة وانتقلت للعيش معه في بيته المتواضع، أخلصت له وساعدته بمالها الخاص وباعت ما كان لديها من ذهب لتوفر له معها الحياة الكريمة ، ولكنها تصطدم بواقع مغاير لشخص أعمى الطمع والجشع بصيرته،وذاقت منه كل أنواع الذل والمهانة لكنها كانت تكتم سرها عن أهلها ،أدركت أنها عبثا تقف أمام شلال العمر وعبثا ترسم بمفردها تضاريس جزيرة الحلم الجميل، قصدت يوما الطبيب بعدما أحست توعكا بعد الشجارات اليوميةبينهما ،كان قد أنهكها حظها التعيس والشؤم الذي لا يبارحها ، أفاقت على صوت الطبيب يبارك لها حملها في توأمين ، استبشرت بحملها وأقنعت نفسها بأن كل ما يحدث حولها ليست إلا مواجع مؤقتة ولاشك أن الخبر سيفرح زوجها والأهم أنه لن يعيرها ثانية بأنها أصبحت عجوزا لا تقدر على الإنجاب، أعدت لهذه المناسبة السارة مساءا رومانسيا بعشاء فاخر، ولكن انهارت أحلامها التي زرعتها بطفليها اللذين لم يريا النور،إذ انهال عليها بالضرب المبرح فور سماعه بحملها ،أدخلها المستشفى وفيها أجهضت حملها ، لقد أصبحت مجرد امرأة مهزومة تغازل أطياف الشمس المرتحلة مخلفة وراءها السنين التي ضاعت وانقضت معها صفحة من  زمن العمر الحالم زرعتها لمستقبل ليس لها ، لقد أنهكتها المسافات وأرهقها الركض وراء تفاصيل الأمل الذي انتظرته منذ أينعت أنثى ،وبعدما خانتها أصوات النوارس المتلهفة  قررت في لحظة تجاوز واقعها المرير وحالها البليد ،عادت إلى منزل أهلها خائبة ، أضاعت مالها ولم يسعفها الوقت للإنجاب ، انه جنون اللحظة يخترق ذاكرتها الغارقة بهموم الحياة وتقلبات الزمن ، كل أشرعة أحلامها ممزقة حيث أصبحت مسألة استمرارها مع حكيم مستحيلة بعدما تعاظمت نسبة النكران والجحود والألم الذي يفترسها ومضى قطار العمر بها وحيدة وفي إحدى محطاته يتجدد أملها مرة أخرى إذ عبر أحد معارف عائلتها رغبته في الزواج منها قبلت به لأن لم يبقى لها أحد يؤنس وحدتها بعدما فقدت والديها، كان ” وحيـد” في مثل حالها ، كان ثريا وفر لها كل أسباب السعادة والراحة والهناء ، وكانت هي سعيدة به تعامل أهله بكل الحب و الحنان ومن بينهم ابن شقيقة زوجها الذي حذرها من طمعه خاصة في سن المراهقة التي يمر بها ومن طلباته التي لا تنتهي ونصحها بأنه من الأفضل أن لا تعوده على التقرب منها أكثر ، ولكن بهية أرادت أن تحتويه وأن يحبها مثل أمه وهي المحرومة من نعمة الأطفال ، كانت تحاول جاهدة تغيير نظرات كل من حولها برسم صورة للغد أجمل تعيش فيه بأمان وسط عائلة جديدة دون عداوة.

وقفت تنظر من وراء شرفتها إلى حيث تشرق الشمس كعادتها في كل يوم جديد علها تجد في أشعتها الدافئة الطاقة المتجددة للصبر وفرجة الأمل حتى يختفي ذاك الإحساس الرهيب بالوحدة والفقدان،لا تزال تحاول تغيير زمنها القاتم والموحش ، وفي منعرجات الأقدار التي قادتها لم تدر أن معاملتها الطيبة لم تشفع لها عند ابن شقيقة زوجها الذي استغل غياب زوجها عن البيت ليتوجه إليها يطالبها بمبلغ مالي كبير، وجدت طلبه غريبا ، وما كادت تستفسره عن حاجته له حتى صرخ في وجهها ووجه لها ضربة قوية على رأسها بقضيب حديد أسقطها أرضا وقام بسرقة ما تيسر له  ثم أحرق البيت كله بما فيه، لم يتبق منها بعدما تم إخماد النار إلا آثار الحرق القديم على يديها، ماتت تاركة حياة سرق فيها كل من حولها ابتسامتها عنـوة .

رســـــــــالة حب       

عاشت الشابة ” هديل ” هادئة البال في حضن والديها تنعم برعايتهما ، مرتاحة الخاطر في الأجواء الجيدة المتوفرة لها من مأكل وملبس وتعليم.. تمتعت بالحياة الباذخة ، لكنها عاشت فراغا عاطفيا ومراهقة حادة بالرغم من كثرة المتملقات حولها، لم تكن تعرف الكثير من معاني الحياة ، اعتادت على مشاهدة الأفلام الرومانسية لما وجدت متعتها الخاصة في تلك المشاهد التي تحمل من الإثارة الحسية والجنسية الكثير، كان ينسحب خيالها نحو صور مركزة تحدد قدرتها على التخيل فتراها تنحصر داخل صور ذهنية غنية بالحركات التي تغذي شحنات عواطفها العالية .

تعرفت يوما على ذلك الفتى الوسيم الذي تمكن من التغلغل بذكائه الاجتماعي ومهاراته السلوكية وجاذبيته الشخصية وسط مجتمع الفتيات، رأته حينها هديل مميزا عن الآخرين بسمرة بشرته البرونزية وبحيويته وأدبه الجم لذلك انساقت معه بسهولة وسرعان ما رفعت الحرج بالموافقة على تواصلهما رغبة  منها في إدامة فترة استمتاعها بعالمه المليء بالمغامرات الشيقة والحكايات النادرة ، تجاوبت معه إلى عوالم بعيدة من التفاهم والمودة حتى لم يعد بمقدور أحدهما أن يمضي يوما كاملا دون أن يلتقي الآخر، وكثير ما كان يلامس يدها البيضاء الناعمة ، وبقدر قوة قبضته عليها بقدر ما كان ذلك يبعث الطمأنينة في نفسها ، لم يعد أمرهما خافيا عن المحيطين بها ، ولكنها كانت كالصماء لم تبال بعبارات التنبيه والتحذير و التخويف بل زادها ذلك إصرارا أقرب إلى العناد على التمسك به.

فصل الصيف بدأ يطرق أبوابه بقوة ،حرارة أيامه أثارت المشاعر الرهيفة وهيجت الأحاسيس البريئة  ثم حركت الفكر نحو القيام بمغامرة..  إنها مجرد رحلة إلى ذلك الشاطئ حيث تملك أسرته منزلا صغيرا يقابل زرقة السماء والبحر، تحمست للفكرة واختلقت الأسباب وانسلت صباح يوم قائظ بعدما سافر أبوها لحضور جنازة عزيز لديه في مدينة ريفية نائية وانشغلت أمها بحضور اجتماع هام لجمعيتها الثقافية ، قضت هديل في غفوة من والديها أمتع لحظات حياتها كانت أوقاتها غنية بالدلالات والإيحاءات المتبادلة، عاشت علاقة حب بكل أطوارها محمومة بدفء الأجساد والبحر ونشوة الشباب وعرفت سر الوجود من خلال أحداث دارت باللونين منحت اللقاء بعدا إنسانيا وروحا من التعايش.

كان يوم فارق في حياة هديل ظنته بداية نهايتها إن افتضح السر، وخشيت أن يكون النهاية لبداية حبها إن لم تتدارك الأمر ، مرت شهورالصمت المريب متثاقلة ولا سبيل أمامها للاتصال ولا حيلة لها لتجديد التواصل ، انعزلت في منزلها وأدمنت الانكماش في فراشها، تجنبت لقاء صديقاتها وأنكرت وجودها . كانت تظن أنها أوصلت نفسها إلى نقطة النهاية لحياتها مبكرا واعتقدت أنها تدفع الثمن من عمرها ندما . لم يكد ينتصف نهار يوم خريفي مكفهر حتى طرق ساعي البريد باب منزل “هديل ”  حاملا لها رسالة، وجدتها من سطر واحد ” لا يمكنني ردع قلمي عن كتابة حروف اسمك مثلما لا يمكنني منع قلبي من حبه لك ..” حملت لها الرسالة مزيجا من دراما الحكاية بتوابل العوالم السرية لمرحلة المراهقة إذ أخذتها إلى تلك المنطقة من الذاكرة لتسترجع أحداثا عبقت بدايتها بأريج الورود يحملها النسيم بلطف فيغشاهما ،أحداثا خاضتها بكل انفتاحها النفسي والعقلي وأصبحت مستفزة لذاكرتها ومحفزة لتخيلاتها التي صارت تتوارد سريعا على ذهنها ثم تتداعى أمام عينيها صورا متحركة كونها تنتمي للواقع الذي عاشت تفاصيله  تفقدت الرسالة مرة أخرى وقد منحتها شحنة إضافية كبيرة استفزت مجددا قوة الحياة فيها .أفاقت ذات يوم متأخرة وشوقها إليه يحرق فؤادها، أعادت قراءة الرسالة مرة ثانية وثالثة، قلبها يخبرها أن هذه الرسالة ليست مجرد كلمات جميلة وعابرة، لقد استشفت منها طبيعة شخصيته وقابليتها للتواصل من خلال البوح الجميل ، نهضت وتأملت نفسها أمام المرآة وكأنها على موعد معه، تحسست جسدها برؤية فنان ، يدها تمر عبر خطوط منحنية تمارس حضورها بليونة وأنوثة لافتة وبصفات دلالية معينة ، لم تنتبه إلى صوت أمها تناديها، كان ثمة طارق بالباب، إنها أم الفتى الأسمر جاءت لخطبتها إلى ابنها، كانت كلماته الرقيقة تقديم رومانسي شكل صدمة لينة  بعد غياب مهدت الأجواء للتهيئة العاطفية لتقبل وقع المفاجأة فاحتوت الرسالة حبهما.

.

 

قلـــــــوب لا تتعـب

في بعض الأماكن استرجاع للذكريات القريبة أو البعيدة، وأحاسيس تهيمن على النفس وشعور بالانتماء وجدانيا،إنها مشاعر يكنها الفرد لأماكنسكنت طفولته فكانت لهاقدرة تأثيرهاعليه ،هكذا وجدها بجانبه أسيرة سحر المكان الذي يزوره لأول مرة معها منذ أن تزوجا ففيه تبتسم الطبيعة لكل من يدخله ، وفيه عندما يمتزج النظر بالعاطفة يأخذ الناظر إلى عالم البوح ولكنها كانت شاردة في تلك الأمسية القمرية حيث كانا يفترشان الأرض خارج الكوخ الذي فيه ولدت وقدامتدت عيناها بعيدا نحو الآفاق وكأن ليس لهوجود في مجالرؤيتها فسكن معها في ذات المساء ليل الغياب في منطقة ريفية لم تطأها قدماه من قبل  كان يعلم أنها فيها نشأت وعلى ترابها ترعرعت وفي مختلف أرجائها مرحت وركضت وتركت آثار أقدامها اللطيفة على وجه الأرض الطرية في كل الجهات ، طال شرودها في سكون الفضاء الوحي فيه أكبر من مساحة الكلام حتى كاد يحس أن العادة فقط هي التي تمنحه شرعية وجوده معها ، أراد أن يضفي بعض المتعة الفكرية الراقية على جلستهما  فلفت انتباهها إلى بعض القيم الجمالية المحيطة بهما ولكنه لمس منها سلبية أرهقت أعصابه وقهرت تفكيره فنأى بجانبه عنها برهة إلى أن أحس بأناملها الرقيقة تلامس كتفه في نعومة فالتفت إليها وقبل أن يحاول معرفة سر شرودها بادرته هي وكأنها أحست بقلقه أنها ليست مشغولة عنه بل مشغولة به ومن أجله منذ تزوجا ، فقط طاب لها أن تسترجع ظروف تعارفهما بالمدينة وما كان مساء ذلك اليوم الذي جاء منزلها خاطبا ، قضت حينها الليل بطوله تحلم أن يأتي المساء الذي يجمعهمافي ذات المكانالذي هما فيه الآن زوجين متحابين،مع أنها كانت تخشى أن يكون ذلك مجرد حلما صعب المنال لأن الواقع آنذاك كان مريرا، بدت له كأنها تصارع الذاكرة التي تلح عليها استحضار مآسي الماضي،لقد احتلت حياة النكد وحياة الكراهية حياة السعادة منذ وفاة والدها فأصبحت الحياة بصفة عامة متعبة ، ثم لم يعد طعم لها حين تمسك عمها بكلمته التي سبقت لأحد أصدقاء السوء سيء السمعة أراد خطبتها له رغما عنها وعن والدتها المريضة ، كانت الابنة الوحيدة والمدللة في هذه الأسرة الصغيرة التي أصبحت رهينة من يريد السيطرة عليها مقابل بعض المال الضئيل لا يكاد يسد الرمق ،روت له كيف كان إصرارها على الرفض وكيف كان تحديها لجبروته، كما تذكرت أيضا كم كان الثمن حين تم الحكم على النفس والأحلام والحياة بالمؤبد في سجن التفكير والشجن، تنفست عميقا وهي تمدد رجليها أمامها ، كان لتناسقهما الجميل وقع آسر في نفسه لما استرعي انتباههبياضهما في ظلمة المكان، أدركت ما كان منه فلاطفته مبتسمة ومسحت على رأسه بحنو ، فداعب أطراف شعرها المنسدل على كتفيها وحدثها أن ما ذكرته يلهم المتأمل في المعاناة بأنكل خروج من دائرة الخطر هو فرصةأخرىلنجدد قوانا من أجل لحظة أجمل بدل الانحباس في سجن اللحظات الماضية والمؤلمة ، دمعت عيناها فرحا وهي تبوح له أنها بعد خطبتهما وفي نفس هذا المكان كانت تنادي عصافير الفرحة لتشاركها سعادتها وتدعو طيور المحبة لتبلغه كم أحبته ، ولكن عمها كان يأبى إلا أن يجعل الحب والحزن توأمين..لقد تعمد دوما التخلص من كل لحظات الأمل في حياتهما واستبدالها بالندم والتحسر.. كان حادا بلفظه ، قاس بوصفه ، مثيرا للجدل في كل كلمة ..كان طامعا في المنزل الذي يأويها ووالدتها .. قاطعها ليهون عليها أن الزمن يطهر الجراح ويلملم أشلاء القلب لترسى النفس على بر الراحة والهناء مع من تحب ،انه يريد مخلصا أن يكون زواجهما أنشودة للفرح والحب والحياة،وأن لا يعكر صفو  حياتهما ماضي لا قوة لهما في تغييره ، نهض واستقام وبدا خلفه البدر مكتملا ، مد يده يدعوها للنهوض ثم ضمها برفق إليه هامسامن يفتح قلبه تتغير نظرته إلى العالم  فكل إنسان يحمل عالمه في قلبه .

أرسلت شمس صباح اليوم التالي أشعتها الدافئة التي تسللت إلى الغرفة ، أفاقت على وقع حشرجة أوراق  ورأته يقلب فيها في اضطراب ، سألته عن ما يبحث، انتفض وأخفى الأوراق بسرعة، لم تهتم كثيرا للأمر بالرغم من أن شحنة نفسية مائعة انتابتها ، في منتصف النهار لمحته من وراء زجاج النافذة منزوي في مكان خفي بين الأشجار ثم ظهرت لها امرأة مسنة تحدثه ،كانت تبدو لها أنها في عجلة من أمرها، لقد عرفتها إنها الخالة حليمة العوراء ، لم تشأ أن تخرج إليهما لتستفسر منه عن الأمر فقط حدثت أمها التي أخبرتها أنها امرأة سيئة وكثيرا ما دفعها عمها لتحاول أن تخرب بيتها، بهتت وأحست بتمزق خيوط الأحلام الجميلة التي لطالما نسجتها بقلب مفعم بالأمل لتجدها فجأة تتبخر، أسرعت قبله إلى غرفتها واكتشفت أن ما أخفاه عنها في الصباح هي الوثائق التي تثبت ملكيتها للمنزل، وفور وصوله أظهرتها له ، وقف متلبدا بخيمة من الخيبة يتمتم وكأنه يكلم نفسه من خلالها،بحث عن طريقة التكفير عن خطئه عن طريق البوح ولكنه تأكد أنه يواجه فشل مشروع مؤامرة في منزل يحصن نفسه بأدعية ساكنيه ، نظرت إليه نظرة حادة لم يصمد أمامها ثم صاحت في وجهه صيحة قوة لنصرة الحق  فانهار أمام امتحان الزمن، لم يغير شعورها نحوه اعترافه بأنه متواطئ مع عمها لنزع ملكيتها للمنزل في مقابل حصوله على مبلغ مالي كبير، لم يتبدل إحساسها تجاهه بعدما أبدى ندما شديدا وأسفا عميقا، لم تتأثر لمحاولاته تجديد الذكريات ولا لبراعته في رسم اللوحات الخالدة بل رأتها مجرد أطياف باهتة لم يعد لها ملامح في نظرها ولا معنى في نفسها ولن يكون لها وجود في قلبها .

مرتعليها الأيام متشابهة بعد عودتها نهائيا إلى منزل والدتها، عادت إلى نمط الحياة الريفي حيث نشأت واعتادت ،وانشغلت أكثر برعاية أمها والاعتناء بشؤونها بعد أن اشتد عليها المرض وألزمها الفراش، أثقلت أعباء الحياة كاهلها بعدما انقطع عنهما أي مصدر للدخل،اضطرت للعمل صابرة في المزارع المجاورة، كان الطريق إليها طويلا ووعرا والعودة منها مساءا شاقة .. وأكثر خطورة،لقد أصبح فهمها للحياة محصورا في مقياس ما تعنيه من ضرورات العيش، وكم كانت سعادتها في تلك الأمسية التي حصلت فيها على بعض المال لأنها عادت حاملة الدواء لأمها ، دخلت عليها متهللة فوجدتها قد نامت نومتها الأبدية على نفس سريرها القديم الوحيد الباقي من أثاثها الذي تمسكت به لأنه الشاهد على أحلى لحظات حياتها وأسعدها، لقد رحلت عنها بهدوء، مالت عليها وقبلت جبهتها قبلة طويلة أشعرتها أن روحها الهائمة تحلق على المنزل بقوة غيابها وتلهمها الإصرارعلى صنع حياة هي سيدتها .

قلـب فــــي مرســــــم

استيقظت على غير عادتها في تلك الأمسية الصيفية الحارة بعدما ضاقت بالفراش وضاق الفراش بتقلبها فيه، نهضت إلى الشرفة تتلمس ما يمكن أن ينعشها ، كانت النسمات الدافئة عليلة، تلاطف خديها بنعومة وتداعب قميص نومها الوردي الشفاف الذي يبتكر من ذاته لون عطره ويبوح في ذاته بعطر سحره والذي لا ترتديه سوى الأجساد الغضة التي تثقب بدلالها قميص الليل إلى كمال المعنى وسدرة المشتهى كصيحة تنبيهية تفكك ألغاز الجو الطلسمي وتكسر صمت الليالي، مررت يدها الرقيقة بنعومة على خصلات شعرها إلى الوراء وأبصرت ضوءا خافتا خلف النوافذ الصغيرة لمستودع كان قد اتخذه شاب فنان مرسما له منذ فترة ، دققت النظر أكثر لتعرف سر الحركة التي دبت فيه فرأته بين رواح ومجيء يرتب أغراضه وينفض الغبار عن أدواته ويعيد توزيع لوحاته التي تركها مغطاة قبل أن يغيب عنها طوال تلك الفترة التي قضاها في الخدمة الوطنية ، ابتسمت من أعماق لما تذكرته يلج عالم الفن صغيرا كان صغيرا في العمر وصغيرا في فهم الحياة بمقياس ما تعنيه من ضرورات العيش ،كم كان يروقها كثيرا أن تتأمله جالسا أمام لوحاته بين قلق وحيرة، وأن تتلصص لرؤية ما جادت به مخيلة هذا الشاب المكافح من أعمال فنية إذ لم يكن في مرحلة الطفولة الفنية بل فنان وضع الحياة في خدمة الرسم ، وكان أشد ما يسعدها أن ترى لوحاته الفنية في طريقها إلى يد من أراد اقتناءها من المعجبين بفنه ، وهذا كان مصدر عيشه ، ابتسمت من أعماقها وقالت في نفسها إنها العودة إذن، فجأة أفاقت وهي في غمرة استغراقها في تلك الذكريات على حمحمة خافتة صدرت بصوت فخيم ،كان خلال ذلك يتأملها مندهشا من وجودها في تلك الساعة المتأخرة من الليل بالشرفة ، تعلق كلا منهما بالآخر عبر نظرة طويلة رآها هو لوحة فنية تشرق ألوانها بأشكال أخاذة ، ورأته هي فيه فارسا من ندى فكانت ضربة البداية العاطفية لكليهما، استدارت خجلا وهرولت نحو فراشها وكانت ليلة ضاق فراشها بها أكثر فباتت وشيء في قلبها ينذر بدق أوتار القدر اختلجت في نفسها المشاعر التي طالما أفرغتها شعرا ، أما هذه المرة فقد عجزت لغتها الشعرية في ضبط الوزن والتناغم .

لم تتأخر في صباح اليوم التالي من النهوض مبكرة ، توجهت إلى غرفة الطعام حيث وجدت والدها وأخوتها حول القهوة يتبادلون حديثهم الصباحي المتشنج،كانت تراهم محترفي صناعة الأزمات ،ضاقت من تصعيد لغة حوارهم فأخذت فنجانها بعيدا وجلست قريبا من نافذة تطل على المرسم ، وجدت نوافذه كلها مفتوحة فوقفت ترسل بصرها تراقب ما يحدث فيه ، رأته يتحرك بكل نشاط  وحيوية  يدخل الكثير من الألواح الخشبية ولفائف الأوراق والخيش الخشن والكثير من العلب المغلفة ، إنها البداية إذن ، تراءى لها أن تزور مرسمه،ولكنها استخفت أن تكون الزيارة بمبرر حبها للرسم أو لعله يعلمها بعض أسرار هذا الفن،ولما كان الهدف بطبعه خالق للأداة فقد اهتدت إلى حيلة للتواصل معه ، وذات يوم سارت بخطوات مترددة نحوه ، أخذت دقات قلبها تتسارع وتكاد تسمعها أعلى صوتا من طرقها على الباب ، ظهر لها شابا وسيما ، تعلثمت في حديثها وسيطر الحرج عليها فاحتوى ترددها بالترحيب بها ، تقدمت وهي تتلفت حولها ثم جلست حائرة من كثرة اللوحات والألوان التي تملأ المكان، قطع حيرتها بالسؤال عما تريد ، سلمته صورتها الفوتوغرافية التي أرادت أن تحولها إلى صورة زيتية كبيرة ، تأملها طويلا بين يديه ونظر إليها نظرة مقارنة ،كاد يكلم نفسه من خلالها ، كان رأيه أنها أجمل بكثير من الصورة ، وأنه يفضل رسم الشخصيات مباشرة ليكسب اللوحة شخصية صاحبها وروحه فهو يخاطب الروح ليجسد أعمالا فنية تكشف عن رؤيته الروحية وباستطاعته لو رغبت أن يقوم بذلك ، سعدت بهذا الرأي ورحبت ، غادرت المرسم وهي غير مصدقة أنها ستلتقيه كثيرا بعد ذلك وتقول في نفسها أنها فرصة إذن. قضت ليلتها سعيدة واستحت أن تطل من شرفتها العريضة على المرسم بل اكتفت بمراقبته بين لحظة وأخرى من وراء الستار، وتمنت لو أنه الآن يخاطب روحها ، تراقصت أمامها عرائس خيالها فشردت عن واقعها وفي لحظة ذهولها عن ما حولها استسلمت لوحيها وإلهامها، وكان هو قد قضى قسط من الليل مستغرقا في تفحص صورتها التي نسيتها ، تسللت إلى نفسه مشاعر الإعجاب بملامحها الهادئة وقسماتها الرقيقة وجمالها الرباني الذي منح فؤاده وبصره السكينة والبهجة.، نظر للصورة مجددا وهو يتذكر أدبها وعذوبة صوتها وحلو حديثها ، ابتسم لما تذكر تعلثمها واضطرابها أول مرة وكيف كادت ملابسها الجميلة أن تتلطخ بالألوان الزيتية المنتشرة في كل مكان .

ترددت على المرسم عدة مرات بقناعة جمالية لعمل جلسات الرسم، وفيكل مرة تنتهز المناسبة كي تتمتع برؤية اللوحات الفنية المفعمة برائحة الحياة والحركة الدائمة حولها إذ شعرت بعبق اللوحات يخرج من الصور ليملأ البصر بالألوان الزاهية ،لاحظت رؤيته كفنان من خلال الخطوط المنحنية والمسحات اللونية التي تتجاور لتكتسب صبغة لونية صريحة وحارة وأن ثمة رهافة في تعيين ملامح الأشكال في لوحاته عبر خط خارجي يمارس حضوره بليونة وعفوية لافتة من أجل تضمين صفات دلالية ومعينة ، تبادلا أطراف الحديث في مواضيع كثيرة ، تحدث إليها وأراد أن يكون منطقيا  وتكلمت هي وأرادت أن تكون جذابة ، علم منها أنها شاعرة يرسم قلمها صورابالكلمات في قصيدة، حدثته أن تجربتها الشعرية والإبداعية تقوم على أساس انعكاس اللون في مرايا النصوص لإثارة الصور الشعرية السحرية فأدركا أنهما يتقاسمان الوظيفة الجمالية لتبليغ قوة الرسائل ومهارة التبليغ ونبل المعاني ، وأحسا أن عشقهما للألوان كان الوقود الذي غذى كوامن الرغبة في رحلة الإبداع ، كانت زاوية جلوسها تتيح لها النظر بكل وضوح إلى شرفتها المقابلة ، بينما كانت نظراته  الطويلة لها والمتفحصة لمحاسنها تأسرها إليه وعيناه تحتويها في عالمه فشكلت بسهولة وعيه البصري ومارس نوعا من التنقيب في أعماق روحها التي تحولت مع الوقت إلى طابع خيالي كما لو أنهما اندمجا  ليحلقا معا في الفضاء الحلم ، ثم جاء اللوحة على حسب مقدار الصدق الذي مارسه مع ذاته وبمقدار ما وثق بأقوى ما يمكن أن تهبه هي من سحر وجمال

في الموعد المحدد لاستلام الصورة كاملة ذهبت إليه في قمة أناقتها ،رحب بها ترحيبا مميزا وكان سعيدا بلقائها بينما كانت هي قلقة وخائفة أن يكون هذا اليوم ختام سلسلة لقاءاتهما ، ذهب ليغلف الصورة بالورق السميك فانتهزت الفرصة واستبدلت سريعا صورتها الفوتوغرافية بصورة أخرى لها ، وفور عودتها فتحت غلاف الصورة وعرفت مقدار نجاحه في وضع الرسم في سياقه الروحي ثم وجدت معها ورقة كتبها لها ” إلى من أحببت ” فأسرعت إلى الشرفة ورأته يقلب صورتها الجديدة بين يديه ويقرأ ما كتبته له خلفها ” إلى من أشتاق إليه” ، أسرع إلى النافذة المقابلة لشرفتها فالتقت نظراتهما مرة أخرى طويلا ، نظرة حملت توافقهما واتفاقهما على أن يكمل كل منهما إبداع الآخر في الحياة إلى آخر العمر.

أيـامــــي فـي العناية المركزة

لماذا كلما نحس بمعاناة تثير بداخلنا سريعا زوابع من رياح الشك التي تخرب اليقين وتشعل نيران الحيرة ثم نشعر بعدها بنهاية الحياة، في حين أن أجمل وأروع هندسة في العالم أن نبني جسرا من الأمل على نهر من اليأس ، بهذا التساؤل الحائر الممزوج بقناعة مفعمة بالتفاؤل سارت صباح ذات يوم بمحاذاة إحدى البحيرات العذبة التي توسطت مساحة واسعة من غابات الصنوبر ، كان الوقت خريفا وأوراق الأشجار المتناثرة تفرش لها بساطا أصفر ممتد يدعوها دعوة ملغمة للسير لمسافة أطول لأن مع كل خطوة تخطوها تلح عليها الذاكرة مرة أخرى إلى استرجاع ما لم تشف منه حتى وان بدا أنها قد تخلصت من أثره وكأن قوة خفية تقهرها لتضعها في دائرة القلق ، تواصل السير وقلبها التائه في بحر الظلمات يعتريه تارة اليأس من أن يوما يعود ، وتارة أخرى يتسلل إليها أمل في لقاء جديد فتجيش نفسها وتتملكها رغبة بأن لا تكف حينها عن البوح الجميل فما كان بينهما آخر مرة لم يتعد حدود العتاب بمحبة، حط في طريقها غراب كبير، نعق ثم طار، تابعته وهو يحلق فوقها ويتنقل بين الأشجار، ثم ما لبثت أن تملكها القنوطمن حقيقة ما كشفته لها الأيام أن حب رفيق الروح كان الشجرة التي تخفي أزمة مصلحته الشخصية ، بينما كانت تخفي حقيقة حب في أزمة.

توالت عليها الأيام متشابهة لا جديد فيها يحيها ولا رجاء في الحاضر ينعشها، أو أمل يلوح في الأفق يزيد تمسكها بالحياة، تسير دائما في نفس الطريق الذي حفظ ملامحها، أرادت أن تتنفس كلماتها ، أرادت أن تسمعها طيور الغابة أن الحب أخلاق قبل أن يكون فقط مشاعر ، لقد ترجمت نبضات قلبها بعمق أنبل الأحاسيس ، وقبل أن تسبق العبرات كلماتها انتفضت فزعة على دوي مفاجئ سقطت على إثره حمامة أمامها ، رأتها مضرجة بالدماء ورأته قادما بخطوات عسكرية قوية وثابتة رافعا بندقيته ثم تناولها بكل زهو ومضى ، لقد كانت لحظة قاتمة شعرت أنها ستفتقد كثيرا هديلها الذي ألفته كل صباح ووداعتها وهي تقترب منها لتناول ما تلقيه لها من فتات الخبز ، لقد اغتال من كانت تشارك في الغناء بألوان الحياة  باتت ليلتها ونفسها مائعة تتنازعها الكوابيس بين هديل الحمامة الذي يخفت ويتراجع أمام نعيق الغراب المزعج الذي يتصاعد أكثر مع ظهور من كانت تعتبره رفيق روحها في لباس صياد قادما نحوها فتحت له ذراعيها ولكنه مر بجوارها بكل غرور دون أن يعبأ بها .

أصبحت مبكرة لا تريد طعاما ولا شرابا ، توجهت إلى الحمام ووضعت نفسها تحت المرش طويلا  فانسدل شعرها الأبنوسي الطويل خلفها حتى أخفى نصاعة ظهرها وانساب الماء طهورا يلامس بحنو نعومة بشرتها على كامل جسدها محترما تضاريس أنوثتها وملتزما بانحناءات رشاقتها ، واصلت الدلك برفق حتى كادت أن تفتن بجمالها وبنفسها وتنساق إلى حيث الحديث عنه يجري بالأقنعة وفي زوايا ضيقة ومعتمة.

أرادت صباح هذا اليوم أن تقضى ما أمكن لها من الوقت في نفس المكان الذي يختزل بسكونه المريح للنفوس القلقة تفاصيل الحياة بأفراحها وأحزانها ،جلست قرب البحيرة  تتأمل جمال الطبيعة حولها ، تذكرت ما كان وفكرت في ما سيكون ، أومأت برأسها كمن لا حيلة له كأنها أدركت أن التفكير بدون التدبير لا معنى له ولا جدوى، بل أنه  قد يفقد المرء قدرته على فهم عمق الأمور إذا سارت وفق القواعد التقليدية وأن زمن من تعلقت به قد انتهى منذ زمن، انتبهت إلى تكاثر طيور البحيرة حولها الذين ألفوها أطعمتهم، داعبتهم ، وضحكت كثيرا ،حلق فوقها طائر الكروان الذي طالما شق بدعائه الشهير سكون المكان كلما رآها فلم تشعر أنها وحيدة،نهضت واتجهت إلى نفس الطريق المفروش بالأوراق الصفراء ، وغصة شديدة أصابتها تكاد تخنقها ، لم تعد تميز بوضوح معالم المكان ، ترنحت واتكأت إلى جذع شجرة فنعق الغراب نعقة جعلتها تهوى على الأرض، وفجأة خلع قلبها دوي مفاجئ  تذكرت الصياد ولكنها تجهل الضحية، زاغت عينيها بين الأشجار المتشابكة فروعها ،ولكنها وجدتها أرضا غير بعيد عنها، عرفته من صوته العذب انه مالك الحزين ينزف، كان في الطريق إليها كعادته كلما رآها، اقتربت منه حبوا وما أن بلغته حتى كان قد غنى أجمل ألحانه ،بكت خلفه وقد تأكدت من موته وبأنها لا تملك إعادته إلى الحياة في قلبها بعد أن اختار الموت فيها، علمت مع مرور الأيام أنها تقيم على حدود الخطر، تعيش بقية أيامها في حالة حرجة، لقد أجهضت أحلامها منذ أن تخلى عنها وبقي طوال فترة غيابه كجنين ميت بداخلها ، أصبح يحلو لها أن تغوص أكثر في عمق التجربة المريرة التي لم تتهيأ براءتها لها ولا تستطيع تقبل استمرار العيش في معاناتها، زهدت حتى ذبلت وضعفت مقاومتها ورغبتهافي الحياة، انتظرت ملاك الفجر، ثم كان آخر ما سمعت نعيق ذلك الغراب قرب نافذتها .

تفهم صمتي كي تستحقني

رسمت بجسدها الممشوق أمام قرص شمس الأصيل لوحة تضج بالأنوثة والجمال، الأفق يبدو وراءها حيث تلامس خضرة المروج زرقة السماء، كان يحلو لها  أن تتمتع ببهاء المكان وهدوئه الشامل فتضيفمن روحها الى روعته سحرا مميزا ،كان تقديرها للحياة من تقدير ما فيها من جمال ،أنها تجيد مداعبة الزهور البرية المتناثرة على تلك الهضبة الخضراء التي اعتادت أن تقصدها كلما ازداد حنينها الى الطبيعة البكر حيث السكينة والأمان تتأمل ما حولها وتسرح بخيالها بعيدا فتنسج من أحلامها صورا لا يراها سواها .

لم تلبث وهي في غمرة استغراقها أن سمعت هتافات تصلها من بعيد ،رأت جموعا من أهل البلدة فوق سيارات مكشوفة وآخرين يسيرون على الأقدام يرفعون صور مرشحهم لانتخابات المجلس المحلى ولمحت بعض النسوة في المؤخرة يزغردن ويصفقن ، اقتربت القافلة أكثر ومرت بجانبها ،ففترت حدة الهتاف وخفت الهرج وتوقف الصياح واشرأبت أعناق النسوة الى الفتاة التي لم تتحرك من مكانها وبقت منتصبة أعلى الهضبة وكأنها قطعة منها ، الجميع يعرفها ويشهد لها بحسن الأخلاق والسيرة الحسنة وكم حاولت بعض النسوة خطبتها لأولادهم دون جدوى ،كانت تراهم مجرد دمى تمشي على الأرض ،لا يتمتعون برجاحة الفكر وحسن التدبير ،تسكعهم استهلك قدرتهم على صنع الحياة ، المستقبل لا يعني عندهم سوى الغيب ويعتقدون أنهم لا يملكون ازاءه أي إرادة ،سأل مرشحهم السيد مراد أحد  رفاقه عنها وهو يمسح عرقه بمنديله الطويل وعرف أنها أمينة الابنة الوحيدة لأحد وجهاء البلدة ، تأملها جيدا ولم تغادرها عيناه ،تعلق بها والموكب يسير حتى غادرها ،التفت اليها خلفه ولكنه لم يرها ،اختفت وكأنها تلاشت ، فانشغل بها أكثر لأنه حرم من النظرة الأخيرة التي كان يمكن أن تحمل رسالته اليها .

لم تمر سوى بضعة أيام حتى طرق السيد مراد ذات مساء منزلها وخلال لقائه بوالدها طلب خطبتها له وانتظر أياما ليعرف الرد ، كان والد أمينة يعلم أن مستقبل ابنته معه مضمونا وستعيش معه حياة هانئة ، اقتنعت أمينة بفكرة والدها وتمت الخطبة في أجواء بهيجة اختلطت فيها السعادة الفرح بحماس الترشح للانتخابات ،تواصلت اللقاءات بين الخطيبين الشابين في حدود ما تسمح به العادات والتقاليد وحاولت خلالها  ابداء تعاطفها الكبير معه لما رأت فيه من طموح باهر وشجاعة لافتة محاولة بذلك تقليل مستوى التوتر الذي ينتابه كل حين من حملات خصومه ومنافستهم وكان أن تحولت لقاءاتهما الى مجرد اجتماعات عمل متشنجة، ورغم حرصها في كل مرة أن تبدو أمامه في أبهى صورة كأنثى تشتهيها العيون لم تلمس منه اهتماما خاصا بها ولم تسمع كلمة ترضي أنوثتها ، كانت تلوذ بالصمت الجليل في انتظار أن يعبر يوما عن سعادته بها ، الحملة الانتخابية لا تزال مشتعلة والباقي من أيامها لا يزال طويلا والأحاديث هي نفسها انها الشكوى المريرة من الحساسيات السياسية وصراع قوى النفوذ ،وسيطرة مراكز صنع القرار وتحكم أصحاب المال في المؤسسات الإستراتيجية ، الحالة الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة في البلاد ، لقد استمعت اليه مليا وتفهمته كثيرا ،وصبرت أكثر، وكلما تقربت منه وتجاوبت معه أمعن هو في الانصراف عنها ، لم تشأ أن تكون المبادرة بتحويل الحديث الى ما يهم طبيعة عواطفهما خجلا وحياء ،منعها كبرياؤها من البوح الجميل حتى أحست بجفاف عاطفي تجاهه ، ولكنها عندما تستدرك نفسها وتحاول أن تجدد أملها فيه عندما ينجح في الانتخابات يفاجئها بما لا يرضيها.

عاود أمينة الحنين الى الهضبة الخضراء ففيها تجد راحتها وتمارس طقوسها الخاصة في التأمل والتفكير لم  تداعب كعادتها الزهور بل انشغلت بحالها الذي لم تتوقعه ، لقد بدأت تسترجع صدمات ما تلقته من السيد مراد وما تجرعته في صبر وصمت من كلمات لها معنى ثقيل ، تذكرت ما قاله يوما لها أن أهمية الزواج بالنسبة للسياسيين أنه مجرد دليل اجتماعي على استقرارهم الأسري ولا يتجاوز حدود الحرص على اظهار عفة النفس لكسب الثقة والنجاح ، الهدوء الذي يسود المكان دفعها أن تستسلم لاستعادة المزيد من ما دار بينهما ، لقد فهمت من أحاديثهما أنه يصوغ أسلوبه في الحياة من تقديره للأشياء فقفز الى ذهنها سؤال أخافها هل أصبحت هي من أقل الأشياء في نظره حتى لا يعيرها الاهتمام اللائق بها ،مرت أمامها قافلة تعلوها الهتافات باسمه رافعة صور مكبرة له ،انتفضت في مكانها انتفاضة رفض داخلي أن تكون من مجرد أداة لفوزه في الانتخابات ،أبت نفسها أن تستمر على هذا الحال المهين ،لقد فتحت بتساؤلاتها أبوابا للأمل وللخروج من قوقعة اليأس، دفعتها كرامتها أن تقنع والدها بالتراجع عن هذه الخطبة ، وحين علم السيد مراد بقرارها كانت قد وصلته رسالة قصيرة منها لم تضيع قراءتها شيئا من وقته الثمين ، صاغتها في عبارة واحدة صغيرة أوجزت المعنى الكبير فتركته حائرا في أدق الأوقات بالنسبة له  ” كنت أود أن تفهم صمتي كي تستحقني ”  فرك الرسالة بغيظ واضح لفت انتباه المعاونين ثم تركها على مكتبه وانصرف فالتقطها أحدهم ، قرأها ومعاني المكر تلمع في عينيه ،التقطها خلسة  وانصرف في هدوء قاصدا أحد خصومه في الانتخابات..  فافتضح أمره الشخصي .

على هضبتها الخضراء رأت الحياة تتجدد باستمرار لا شيء يوقف حركتها تجولت بين الأزهار البرية تعجبت من كثرتها وأدهشتها ألوانها الجميلة المختلفة وكأنها تراها لأول مرة ، أحست أنها أزالت حملا كبيرا عنها وأزاحت عبئا أثقل قلبها وأسقطها بملء ارادتها في بؤرة دور الضحية فليس ثمة ما هو مرهق للفؤاد من أن يشغله من لا يحس به ويعذبه. لقد استعادت شخصيتها وعادت بعد تيه الى قناعتها الأولى تقدر حق التقدير قيمة يد رجل محب بقدر وقوفه الى جانب قلبها .. مرت أمامها مرة أخرى قوافل الناخبين يصيحون فرحا بفوز مرشحهم  في الانتخابات ،نظرت فرأت صورا مكبرة للمرشح الفائز ولكن لم يكن هو .

حكايات أميرة العاشقة

جلست كعادتها كل صباح تتناول افطارها الخفيف قرب شرفتها الواسعة التي تطل على حديقة البرتقال تتأمل أزهارها البيضاء التي أينعت معلنة قرب نهاية الخريف الذي لم يكن باردا هذا العام ، كانت تبدو كالأميرة في قصرها العالي، أنثى كما تشتهيها العيون تختزل بتفاصيلها جمال الحياة وقوة نبضها ، وجد الكثير في اختلاس لحظة النظر اليها  متعة وفي القراءة الجمالية لحسنها والتمعن فيه ما يوجب رفع قرار المنع ، لم تكن بعد استبدلت لباس نومها البمبي الذي يبتكر من ذاته لون عطره والذي لا ترتديه إلا الأجساد الغضة التي تثقب بدلالها قميص الليل إلى كمال المعنى وسدرة المشتهى ، ذلك اللون الذي أرادته صيحة تنبيهية تفكك ألغاز أجواء لياليها الطلسمية كلما سكن في روحها كل مساء ليل الغياب.

فارسها لا تريده  ذو شخصية منطفئة وكاريزما ذابلة بل من يملك فلسفة قوة الحياة البسيطة إن تقديرها لقيمة رجل محب هو بقدر وقوفه الى جانب قلبها ،هكذا حدثت نفسها وهي تتجول بين أشجار البرتقال وتلامس برفق أزهارها ، حينها بدا لها من خلال الأغصان المتشابكة ذلك الشاب الأسمر الوسيم الذي التقت به ذات مساء خلال زيارته الأولى لأخيها ، انه سمير مدرس الموسيقى البسيط المتواضع الذي استقدمه أخوها ،لم تنس أنه عزف لها ببراعة في نهاية الدرس لحنا عذبا على البيانو أهداه لها بمجاملة دافئة كان يتجول بخطوات بطيئة ولم ينتبه لوجودها فقد شغله عنها قلق الانتظار ، داعبت حكايات ذلك اللقاء الذاكرة فهاجت في نفسها أفكار عميقة زادت من حيويتها معايشتها للأحداث ، أخذت طريقا آخرا يجعلها تتقاطع معه ليتحقق لها لقاء آخر معه أرادته عفويا ، ترددت قليلا وهي لا تدري ما الذي يدفعها لذلك ولماذا تفعل هذا ، ولكنها أسرعت خطاها وكأنها تسابق الوقت قبل أن يحضر شقيقها عساها تحظى بلحظات في الحديث معه ،وكان لها ما خططت له وتمتعت بدفء كلماته واستغرقت في وجاهة أفكاره ولمست تميزه بالإقناع المصحوب بالجاذبية وبجماله الخاص وأسعدها أنه وعدها بإهدائها لحنا آخر سيعده خصيصا لها.  قضت الليالي ساهرة تتساءل عن سر ما طرأ عليها من انشغال به ، أهو الحب الذي لامس شغاف قلبها من أول لحن يهدى لها ؟ أم هي أسيرة شخصيته المتميزة ؟ تدق المنضدة بقبضة اليد وهي تتأسف على أنه لم يصارحها بعد بحبه لها .

لاحظت ذات يوم من شرفتها حركة تدب في الفيلا المقابلة لها ، لقد عاد أصحابها اليها بعد غياب دام سنوات،الكل يهم بإنزال الحقائب والأمتعة من السيارة الفارهة، لمحها مراد صديق الطفولة ومن شدة فرحه هلل لرؤيتها بأعلى صوته واقترب من سور حديقة منزلها غير مكترث لنداءات مد يد المساعدة بقدر ما كان متلهفا أن يتأملها جيدا من أقرب مكان ، لم يخف منذ البداية اعجابه بجمالها وحدثها كثيرا بدون تحفظ حتى احتواها ، لقد ترك في نفسها أثرا لازمها وشغلها ، كان في مثل عمرها ، وجدته شابا رشيقا أنيقا مفعما بحيوية الشباب ، اكسبته سنوات اقامته مع عائلته بالخارج شخصية متحررة ،لمست من خلال الزيارات المتبادلة بين عائلتيهما  أنه طموح ،مندفع ،محب للحياة ولا يعبأ كثيرا بنظرات الناس ولا بآرائهم ،كان يتعامل مع الأمور بشكل مباشر فيما كان ينظر آخرون في نفس الاتجاه بزاوية حادة ، منعها خجلها أمام جسارته العاطفية من مجاراته عدة مرات ومع ذلك نجح في أن يحقق من تواصله العاطفي معها بلغة مشفرة من المستحيل أن يفهمها آخرون أن يثير اهتمامها نحو مكنونات المرأة و طبيعة أسرارها عندما تحب ، كان يسيطر على مخيلتها وترتسم صورته أمام عينيها كلما استمعت إلى عزف سمير على البيانو ، حتى استشعرت في نفسها حياء الأنثى فأبت أن تسقط بملء ارادتها في بؤرة دور الضحية .

كانت صدفة أن التقته ذات صباح رفقة صديقه أحمد بلباسه السلفي المعروف ، قاومت رغبتها في الانجذاب نحوه ردت تحيته عن بعد بهدوء ورزانة وأكملت سيرها دون أن تلتفت خلفها،أعجب أحمد بجمالها وأخلاقها وأخذ يتأملها برهة وهو يقوم بتخليل لحيته الكثة الطويلة وسأل مراد عنها حتى عرف منه على ما يريد ،أرسل أخته المحجبة إلى أمها تريد خطبتها لأخيها أحمد ،وفي الموعد المحدد للتعارف بين الأسرتين تذكرته أميرة ، أعجبت بهدوئه وبشخصيته الرزينة وثقافته الدينية الواسعة وأدبه واحترامه الشديد لها إلا انها باتت ليلتها حائرة قلقة من ما سمعته منه ، انه تقي ويخاف الله فيها لكن شرطه لبس الحجاب ونقاب الوجه وجدته غريبا عليها، سرى في نفسها دبيب الشك في ما سيحمله لها المستقبل معه تذكرت حكايات صديقاتها اللائي خضن نفس التجربة وانتهت بالطلاق فتملكها الخوف من طريق ربما لو سلكته يؤدي بها الى الغلو والتشدد  ثم ينتهي أمرها الى التطرف أو الطلاق. عادت أميرة للجلوس قرب شرفتها التي انقطعت عنها أياما تتأمل أزهار البرتقال وقد انعقد بعضها ثمارا صغيرة تنشد النمو ولم تك شيئا ومنت النفس كثيرا أن تثمر زهرة شبابها يوما حياة هانئة وسعيدة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإفلات من عبء اللحظــــات القاتمــــــة

كبرت “ميساء ” فيأجواءعائلية هادئة ومستقرة بين أخوتها الذكور، ظلت منذ ولادتها زهرة العائلة وعطر حياتها، نفسها الطافحة بالحياة والخافقة بنبضها جعلتها تتمتع بقدرة كبيرة على إنتاج السعادة لأسرتها بدل البحث عنها وما من أحد التقاها حتى لامست بصدقها وشفافية روحها وبسلاسة حديثها وعذوبة كلماتها أعماق وجدانه وأثارت في نفسه البهجة والتفاؤل .

طرقت ميساء باب غرفة والدها تستأذنه كعادتها كل صباح في رؤيته قبل ذهابها للجامعة، طلب منها بكلمات متعثرة أن تمهله لحظة ثم أذن لها فوجدته يخفي بجانبه صندوقا معدنيا أصاب الصدأ أطرافه ، لم تعر الأمر اهتماما كبيرا وسرعان ما قبلت جبينه وانصرفت،تأملها هذه المرة بعين أخرى، رآها تسير أمامه بخطوات لم يكن يلاحظها من قبل ، كلها رشاقة.. وأنوثة ، تحسس موضع قبلتها وتهيأ له أنها غير بريئة كانت قبلة حارة تسلل معها إلى نفسه شعور مزعج ، أعاد فتح الصندوق وأخرج منه أوراقا مطوية قد اصفرت أطرافها ، كانت رسائل من أعز المقربين له لذلك احتفظ بها ، أراد إعادة ما كان يقرأ في رسالة تهنئة من أحد أصدقائه بمناسبة يوم ميلاد “ميساء” إذ استوقفه في نهايتها عبارة أحدثت في نفسه تحولا غريبا ، قرأها بصوت خافت وهو يحاول أن يستنبط المعنى الخفي من ورائها ” … وأن يلبسها لباس الستر والعفاف ويحفظها بما حفظ به الصالحات الطاهرات، وأن تكون ذخرا لمجتمعها ووطنها ”  أثارت معانيها قلقا في نفسه تحول إلى هاجس مخيف ، تنهد عميقا ونظر إلى الأفق من خلال نافذة غرفته العريضة حيث السماء تكاد تنطبق على الأرض في احتواء جميل وتذكر كم كان زواجه من ابنة منطقته الريفية  انتقالا جذريا من جحيم المعاصي إلى نعيم التوبة ، كما تذكر كم كانت الحياة أسهل في اليوم الذي قرر أن ينتقل إلى المدينة بحثا عن العمل ، ولكن المدينة اليوم ليست كما كانت بالأمس  الجميع يعاني من صعوبة العيش في مدينة تتخبط بين مقتضيات مسايرة التحولات الكبرى ومعاناة الاستسلام لفرائض التحولات المتطرفة ، لقد قضى سنوات عمره في كد وشقاء متقلبا بين مختلف الحرف والأعمال الشاقة واجه فيها ألوان من البشر وتركت التجارب في نفسه تراكمات عميقة جعلته يعيش كابوس البقاء في دوامة من حوار الشكوى الهامسة إذ ظل أسير ترسبات حياتية خلقت لديه اعتقادات خاطئة راسخة أن جسد الأنثى وروحها هو ثنائية للشرف والخيانة وهاهي تعاوده في إصرار مرضي بعدما ظن أن الزمن قد يطهر الجراح ويلملم أشلاء القلب لترسي النفس على بر الراحة والهناء وأن زواجه هو الدواء الشافي للتخلص من لحظات الندم والتحسر واستبدالها بالأمل والثقة.

في المساء ، أرادت ميساء بعفويتها أن تحدثه كعادتها كيف قضت يومها وتقص تفاصيل ما واجهته من أحداث جادة ومواقف مضحكة ، ولكنه كان يبدو جامدا معها لا يبدي رأيا موافقا أو قولا معارضا، بدا كمن غاب عنه حسن الظن وغاب لديه طهر التواصل، استشعرت حرج الموقف بعدما رفض أن تلامس يدها يديه ،صارحها بعد تردد أنه لا يريد أن يراها تخرج دوما من المنزل وتعود متأخرة في المساء ، يكفي ما بلغته من التعليم وأن… فجأة صمت، أخذ يتمعن في الوجوه حوله ويقرأ معاني الأسف والاندهاش الأقرب إلى الاستنكار والرفض، انكمش على نفسه وأدار رأسه بعيدا عنهم ، وكعادتها في الحالات الحرجة لاذت بالصمت الجليل الذي منحها علوا وانتصارا، برغم ذلك أثارت كعادتها أيضا أجواء من الضحك والبهجة قبل أن يأوي كل فرد إلى فراشه. لم تغمض والدة ميساء عينيها طوال الليل فما واجهته ابنتها من إحراج أمام أبيها لم تكن غافلة عنه وخشيت أن يكون وراء ذلك سيطرة أفكار غير واقعية عليه سببها استدعاء أحداث من الماضي، تعلم أنها كانت لحظات قاتمة عرفها في حياته جعلته يعاني قسوة الدونية المضمرة ، كانت تظن أنها نجحت في البداية لدفعه نحو سبيل التوبة والتكفير عن أخطائه عن طريق البوح الصريح والإقرار بالذنب،استجمعت همتها وشحذت إرادتها للنهوض بالمسؤولية القديمة المتجددة ، إنها الآن أكثر تصميما أن تواصل المضي في نفس طريق العلاج وكلها ثقة في النفس فهي لا تعاني من فقر الأفكار وبؤس الخيال وقلة الحيلة.

حول مائدة إفطار الصباح أبلغته أن أختها وزوجها وأولادهم سيتناولون معهم العشاء هذه الليلة ، ثم استدرجته في الحديث عن ما يمكن إعداده بهذه المناسبة ، علم أن لأختها بنتان وولد يزاولون الدراسة الجامعية بنجاح وأن زوجها المحامي المرموق كان ينتظر لقاءه به منذ وقت طويل، في الموعد كان اللقاء ، بدا الضيوف في أبهى حلة وأجمل زينة ، راقه تودد البنتين له واستعذب الحديث معهما ، وجد مظهرهما أكثر أنوثة من ابنته وألين قولا وألطف معاملة  ووجد أبيهما على قدر كبير من الأدب ومن الاحترام الجم ، تبادلا أطراف الحديث في عدة مواضيع ، تطرقا إلى مختلف شؤون الحياة وشاركهما فيه الأبناء كانت الأجواء مفعمة بالبهجة والسرور، وراقب خلال ذلك معاملة الرجل المهذبة مع بنتيه ولاحظ اهتمامه البالغ لسماع ما يقولانه من أراء وأفكار ، لم يلحظ عليه أي امتعاض على طريقة لباسهن العصري ولا أي حرج من ما يكشفه هذا اللباس من بعض الشيء منهن ، بدت ابنته ” ميساء” وسطهن كأميرة ، أنثى تطوف بخفتها وتجول، بعد تناول العشاء مالت والدتها على أبيها هامسة أن الأفكار التي شيدت الماضي لو كانت صالحة في زماننا لاستمر الماضي واقعا ولم يتحول إلى تاريخ.. حينها وضع زوج أختها كاس الشاي جانبا وعلا صوت مبشرا بحصول جمعيته على الاعتماد الرسمي، ثم التفت إلى والد ميساء واقترح عليه المشاركة في عضوية جمعية التي ستنشط في أعمال الخير والبر للأطفال اليتامى والمحتاجين للرعاية الخاصة  ثم رشحه أن يتولى مهمة الشؤون الإدارية بالجمعية ، هلل الجميع للخبر وزاد استبشارهم عندما وافق والد ميساء على المقترح بل وأظهر تحمسا واضحا للفكرة.

لم يمض وقت طويل حتى وجد والد ميساء نفسه غارقا في العمل الخيري كل يوم ،تارة بمكتبه يستقبل عشرات المواطنين والمواطنات وتارة أخرى يقوم بمهام واتصالات خارجية  كانت زوجته تحرص على أن تسمع منه كل مساء جديد نشاطه وأخبار الجمعية وتحثه على تقديم المزيد من أعمال البر للمحتاجين وعدم البخل عليهم بالرأي وبالنصح والمشورة ، ولكن الحقيقة أن ما كان يشجعه أكثر هو سماع عبارات الشكر والامتنان من المحتاجين ودعواتهم له، ومنها قويت علاقاته بهم وتكررت لقاءاته معهم في المناسبات الطيبة وكان يحلو له أن يقص تفاصيلها على زوجته بكل اعتزاز وفرح ، حينها علمت زوجته الحكيمة أنه بدأ على طريق التواصل الاجتماعي وأعمال البر يحسن الظن بالناس ، لقد استعادت زوجها من أسر مهلك أراد أن يدخله طوعا، نجحت أن تخرجه من دائرة الشك والظنون إلى فضاء اليقين والحقيقة الواسع، أما ابنتها فهي تعلم أنها تستلهم قدرتها على العيش من قوة أحلامها ، وأنها ستلتقي يوما في مكان يجمع بين وهج الطبيعة وعبق التاريخ بمن تطوف بحسنها مملكة غرامه وتجول في ميادين حبه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مـاريـــــــــا

 عندما يطغى الشر نشعر بالحاجة للخير أكثر

كانت تمشي بين أحلامها وتبدو كأنها قادمة من المستقبل ، نضج نظرات عينيها الزرقاوتين يسبق عمرها بكثير “ماريا ” هي ثمرة زواج مختلط  ولدت ونشأت في موطن أبيها ، كانت تسبق الحياة إلى جمالها فبدا جمالها نوع من الإحسان لناظريها ، كان جمالها ربانيا ، كبرت وأصبحت أنثى كما تشتهيها العيون ، شعرها الذهبي المنسدل دوما خلفها تهفو إليهالقلوب كلما عبث الهواء بخصلاته ،عاشت تضفيبروحها على كل مكان سعة الفردوس وتمثل بهدوء عمق مفهوم المقاومة الفكرية لإعادة الاستقرار والتوازن إلى واقع أسري مفكك يفتقد منذ البداية مقومات البقاء والدوام وقد أصبح على وشك الانفجار بعدما تنسلت أواصر العلاقات وتناسلت الأخطاء ، أمها لا ترى في واقع حياتها الزوجية ونمط معيشتها  ما تطمئن لها نفسها من أمن وسكينة ، تجمدت مقاومة الفتاة وهي تحضر تفاصيل النهاية الحتمية بين والديها  ثم تعيش وضعا مضطربا لم تكن لها فيه إرادة أو اختيار، مزقتها الهواجس حول مستقبلها ، وانهارت حياتها بعدما لجأ كلا منهما إلى رسم خارطة طريق لحياة أخرى لم يكن لها فيها أي مكان ، تخلصت منها أمها رضوخا لرغبة من اختارته رفيقا لها وكان من أبناء بلدتها جاء مهاجرا ولم يشأ وجود ماريا معهما ، ولكنها دفعت حياتها ثمنا لنزوة لم تقدر عواقبها فقد  غدرها بها وغادرها بعدما سلبها كل ما تملك.. واختفى، ولكن سرعان ما عثرت بفضل جاذبيتها وأنوثتها الطاغية على رفيق آخر لحياتها، فاحتضنتها جدتها بعدما ساءت حالتها مع الوافد الغريب ، وكفلتها في موطن أمها وكانت من الأسر الغنية بالمدينة ، حاولت ماريا التكيف مع الواقع الجديد بعيدة عن والديها ،والذي لم يكن أحسن حالا، إذ قرأت ماريا في العيون عدم ارتياح وبدا لها من أخوالها كثير من النفور والجفاء لم تدر سببه، وعاشت أجواء يصعب فيها التمني وبرغم ذلك تلمست السبل لكي تشعر بما هو أفضل في الحياة ليكون عيشها أسعد، ولكن ما خبأه لها القدر كان أفدح ، توفيت جدتها بعد شهور قليلة ففقدت الحضن الدافئ والصدر الحنون والقلب المفتوح الذي احتضن آلامها واحتوى أحزانها، وجدت نفسها أمام مستقبل غامض ومجهول بعدما طغت أحزانه على أفراحه ، لقد كان لها من الميراث نصيبا كبيرا استكثره عليها أخوالها فكادوا لها الكيد الأسود، فهي من صلب ذلك الأجنبي الذي أذل أختهم في بلده ، لم تجد أي وثيقة تثبت بها حقها ولا حتى نسبها وهويتها كل شيء تمزق واختفى والأفواه صمتت عن الحق ثم كان الطرد من المنزل الحلقة الأخيرة من مؤامرة الخلاص منها ، أصبحت الأزقة الضيقة مأواها تفترش الأرض ليلا وتهيم في الشوارع نهارا تبحث عن من يعينها للحصول على أوراق هويتها، وتبحث عن ما تأكله ، اتسخت ملابسها وتورمت قدماها وعلت وجهها الجميل مسحة داكنة  ، ذبلت عيناها وتكور شعرها الذي يأبى لونه لذهبي أن يزول ، وأخيرا خذلت كبرياءها بعدما لجأت بصعوبة وبعد تردد طويل وعلى استحياء كبير إلى طلب الصدقة، تحجرت الكلمات في حلقها وخانتها العبارات فحفظت بعضها من المتسولين أمثالها وكانت ترددها طوال الليل كي لا تنساها ، سارت كثيرا في الطرقات وعانت من الجوع ومصائب التشرد ، استجمعت شجاعة لم تكن تظن أنها تملكها ، أطلقت لحبال صوتها العنان تطالب بأوراقها التي تعيد لها كرامتها وحقها الضائع ، توسلت إلى كل من صادفتهم أن يعينها على ذلك ، ولكن منهم من اعتبرها تهذي ، ومنهم من رآها تشرق أكثر مع الفقر فتعرضت على ضعفها إلى أقسى المواقف وأعنفها وصارت حكاياتها على لسان الناس مثالا للشرف المفقود والكرامة المهدرة في طرقات مدينتهم .

توالت عليها الأيام تسقيها العذاب ألوانا، بدأت نذر الشتاء تقسو عليها سريعا قبل أن تفرض نفسها على الطبيعة ،بلغ بها وضعها المزري حد النواح، الجوع يفتك بها قبل القر الشديد ، ذاقت شعور التجمد من البرد ، تحجرت مفاصلها من شدة انكماشها ، انقلب هذيانها بالأوراق إلى بكاء مستمر يمزق سكون الليل وينتشر صداه ليبلغ مسامع الراقدين في غرفهم الدافئة ، ظنوها مجنونة وهي موؤدة في حياتها ، انكماشها طوال الليل فرض عليها الإقامة الجبرية في ذات المكان ، لم تعد تقوى على الوقوف ولا على الحركة من يراها يظن أنهاامرأة مسنة طاعنة في العمر، وهي لا تزال في ربيع العشرينات من عمرها ، ازدادت بشرتها سوادا واتسعت رقعته وتعفن جلدها ، لم يعد لها حذاء يقي قدميها أو لباس يدفئ جسدها الهزيل ، تذكرت كيف كانت نهاية أمها على يد أحد أبناء هذه المدينة التي تشهد أزقتها على موتها البطيء ، ضمت ركبتيها إلى صدرها وانكمشت أكثر من شدة البرد وكادت أن تدخل في غيبوبة قبل أن يقترب منها أحدهم ويناديها باسمها ثم يرمى إليها قطعة نقدية ، لقد عرفته أنه هو من غدر بأمها ، رأت في القطعة النقدية صورة أمها ، تملكته رهبة من نظرات عينيها وهي في أضعف حالاتها فانصرف بسرعة ، رفعت رأسها نحو السماء وتمتمت بعدة كلمات بصعوبة وقد آلمها تقشف شفتيها وتحجر صدغيها ثم زاغت عيناها في الفضاء الداكن الذي شقه بصرها فعاشت وسط النجوم .

مر بها فجرا من خرجوا مبكرين للعمل وارتأى أحدهم أن يلتقط  لها صورة بهاتفه النقال وهي على نفس الوضع الذي باتت عليه ، أراد نشرها عسى أن يتعرف عليها أحد ، أضاء الضوء الفضي الباهر للكاميرا وجهها ، كانت فاغرة الفم وعيناها ممتلئتان بكل معاني المناجاة ، مضى الرجل في طريقه ولم يلحظ أنها كانت رافعة سبابة الشهادتين ، رحلت ضحية للشر في صمت بعدما عاشت زمنا يشبهها، رحلت ببراءتها غريبة في بلدتها ، فقيرة رغم ثرائها ، ولكن ظلت صورتها المنشورة شهادة حية على عار من اغتالها .

الانتقــــامالأبيـــــــض

جلس حسن ينظر إلى ما حوله وكأنه يكتشف الأبعاد الحياتية لأول مرة ويتأمل صور ابنه رفيق وبنتيه بثينة وميساء ، يحدق فيها بعين دامعة امتزجت فيها الغبطة والحنين إلى تلك الأيام الخوالي، لم يكتف بتلك الحدود الزمانية التي تقيده بل يعود أكثر إلى الوراء ،انه يشتاق إليهم كثيرا في وحدته بهذه الصحراء الموحشة ،نعم انه وسط الكثيرين معه في العمل في هذه الشركة البترولية الكبيرة يعانون جميعا نفس المعاناة لكنهم على الأقل صابرون لأنهم يحتلون مناصب عمل كبيرة وبمرتبات مغرية وهو ليس إلا مجرد عامل نظافة أتى إلى هذا المكان لأنهم يدفعون له أكثر مما كان يعمل بالمدينة، كان حسن يزور عائلته مرة كل الشهر وكان يسره كثيرا أن يجد أطفاله مواظبون على الدراسة بكل جد، لم يكن هو وزوجته يحملوهم هموم الحياة وربما هذا ما جعل الحياة تسعى لنيل القصاص لأنه لم ينتهك حقها ولم يصرخ،لا تنقصه العزيمة والثقة بالنفس وربى أطفاله على نمط تربيته، لأنه إنسان صالح ابنه رفيق متفوق ومتقد الذكاء وحول القهر القابع بين جوانحه كلما رأى والده يخفي آلامه وراء ابتسامة حنونة لأطفالهم إلى رغبة في فرض تفوقه ، ومرت السنين وكبر ودخل رفيق  الجامعة وواظب على تحصيل العلم ، لم يكن يرى والده كثيرا ليشعر بحنانه ودفء أحضانه، ولما كان الفصل صيفا والناس هائمون والحر يدمر كل الأفكار الساذجة منها والعبقرية حرص رفيق كعادته منذ سنوات على عدم تفويت الفرصة واغتنام العطلة ليعمل بالنهار بائعا في إحدى المحلات التي اعتاد صاحبها السفر رفقة عائلته في هذه الفترة من العام ،كان يأتمنه على رزقه وماله ، وفي الليل يلجأ إلى متنفسه الوحيد وملاذه المفضل وهو دراسة اللغات حتى يبتعد عن الفراغ ويتجنب الملل، وفي خضم هذا التداخل في أحداث حياته دخل عليهم والدهم يوما على غير عادته ،انه مصاب بوعكة ، آلام صدرية إصابته بعدما استغنت عنه الشركة بأوامر من مديرها الجديد الذي يصفه حسن بالمتغطرس والجبار، كان ذلك لما علم أن له ابن مهندس على مشارف نيل شهادة الدراسات العليا في مجال البترول وكان يردد على مسامعه باحتقار أنه من المفروض أن يكون أبناء الفلاحين والمنظفين أمثال آبائهم يخلفونهم في عملهم وليس مكانهم رفقة أبنائنا بالجامعات، وكان يتعالى ويتفاخر بأنه أرسل بنتيه للدراسة بلندن بعيدا عن أبناء الطبقة الكادحة والضعيفة ولن يدرسا وسط الحثالة، التفت الى ابنه وقال : ” أتدري يا بني رددت عليه بأن بنتيه تدرسان في لندن بأموال شقانا وتعبنا المسلوبة وحقوقنا المهضومة ” فما كان منه إلا أنه وجد السبب الكافي لطردي وقال : “إن أردت أرسلت لابنك يأخذ منصبك في العمل ..” نظر رفيق إلى والده يريد أن يهون عليه : ” لا تحمل الهم يا أبي لقد أنهيت دراستي بامتياز وأنا أعمل بجد حتى أوفر جهاز أخواتي البنات  سأكمل أنا المشوار انه دوري يا أبي لقد تحملت الكثير من أجلنا ،عليك الآن بالراحة والاهتمام بصحتك ” لكن لحسن كان قد فقد فعلا السعادة وهو يشعر أنه لم يستطع أن يكمل مشوار أولاده كان ينعزل في إحدى زوايا غرفته وأصبح يفضلها على غير العادة مظلمة دائما فلا يحيط نفسه الا بذلك الفراغ الرهيب ،ولا يحمل في طياته إلا مزيدا من الوحدة القاتلة ، لقد تمكن في ظروف صعبة من تزوي  بنتيه وبرحيلهما عنه، لم يبقى له إلا ابنه رفيق وهو مشغول بالنهار والليل ، بكى حسن وملأت جفونه الدموع ، وفجأة أحس بعسر شديد في صدره فقبض عليه بقوة وأخذ أنفاسا سريعة ومتلاحقة ليقهر موجة الألم في نفسه ، تضاعفت عليه الآلام وزادت حدتها حتى وافته المنية، تتبع رفيق جثمان والده المسجى في نعشه صامتا وأضفى رهبة ومخافة الناس في صمته دفين، الموت له قدسيته ، ساعة من ساعات الله ، إنها جثة والده يراها ممددة أمامه،لا حراك بها ، يتذكر كيف رآه صباحا قبل أن يذهب لعمله وهو يقدم له منحة عمله البسيطة التي أحيل بها على التقاعد المبكر أو بالأحرى على الموت المؤجل . مرت الأيام ثقيلة والنار تأكل قلب رفيق ممن كان السبب في قهر والده وموته ، اتصل رفيق بالشركة التي كان يعمل فيها والده وطلب من مديرها العمل منظفا كما كان والده ، سر المدير لما سمع ووافق على الفور وأخبره أنه كان ينتظره منذ سنين ، هم رفيق يودع أمه التي ألف حضنها وتعلق بصدرها رضيعا حتى كان صعبا عليها فطامه وسيبقى حنينه لأول حضن احتضنه بعدما اشتد عوده ونال نصيبه الوافر من العلم ، شرع رفيق في العمل في ذلك المكان النائي ،عاش وشاهد تسلط الرؤساء وتجبر العاملين ، لمس عن قرب كيف كان يعاني والده وكيف كان يعيش بعيدا عنهم من أجلهم .

في أشد أيام الصحراء حرارة تلقى مدير الشركة اتصالا هاتفيا من لندن أن الشرطة وجدت بنتيه مقتولتين بشقتهما في حادثة سطو، فسافر على عجل ، وسرعان ما انتشر الخبر في الشركة ، تأمل رفيق وجه السماء مرددا أن الله يمهل ولا يهمل ، مرت أمامه حينها صورة والده الذي أحدث برحيله شرخا رهيبا في حياته ، رحل دون أن يقول شيئا ، لم يلفظ كلمة واحدة يوصي بها، قبل أن تفيض روحه إلى بارئها، ، وقرر أن يشرع على الفور في اتصالاته لتكوين ملف عمله الجديد وفق شهاداته العليا المتخصصة في ذات مجال نشاط الشركة وسرعان ما استلم مهام عمله الجديد لسد الفراغ ومن مكانته الإدارية الجديدة كانت الفرصة مواتية له ليتمكن من الاضطلاع على أدق تفاصيل ملفات الإدارة المالية والمحاسبة

لدى عودة المدير متأخرا من لندن كانت صدمته شديدة لما رأى رفيق في مكانه بالمكتب جالسا على نفس كرسيه يراجع بكل تمعن أوراق الملفات المكدسة أمامه فلم يعر لدخوله أدنى اهتمام ولا لكلماته الجارحة وهو يتوجه نحوه غاضبا،وقبل أن يتقدم منه أكثر رفع رفيق في وجهه ورقة سلمها له  ودون أن ينظر إليه ، حينها علم منها أن مصابه أصبح مصابين بعد صدور قرار وقفه عن العمل بتهمة الإهمال الإداري واستدعائه للتحقيق بعد ثبوت تلاعبه في أموال الشركة حقوق العاملين ، رفع رفيق رأسه نحوه بنظرة سريعة حملت أكثر من معنى ثم أخبره بهدوء وهو يعود لمواصلة تفقد الأوراق بين يديه أن أولاد الفقراء والبسطاء لهم الحق في تبوأ مراكز المسؤولية الكبيرة بجهدهم وبعلمهم، نظر إليه المدير وهو يهم متثاقلا بالانصراف نظرة انكسار وعينه لا تغادره غير مصدق أن ابن عامل النظافة تمتع بكل هذا الصبر وكل هذه الإرادة القوية  في الانتقام .

لـــــذة المحــــاولة

كان يصنع مشهدا للجنون بمشهد أخر مجنون أو ربما كان يريد أن يكون هو الجنون بذاته ، عندما أغلق عينيه هاجمته تخمة الأفكار المتتالية،أسئلة كثيرة تستفزه أكثر،تتعبه ، يتأمل غرفتهمرارا وتكرارا ، غرفتهالمسكونة بأشباح عواطفه والمؤثثة بمن سبقوه ،إنها تحوي أقدم خزانة عرفها تاريخ البشرية فيهاصورة لأمه وبقايا من رذاذ الشاي، يحز في نفسه أن يراها تهوي يوما من شدة قدمها . هنا تقبع أطيافهم وتعزف لحنا حزينا يسايره ضوء الشمعة  أشلاء حروف متناثرة على بقايا الكلمة ، كلمة تفاصيلها كبيرة وحرة طليقة كانت في كل مكان بل كانت هي المكان ، آه.. متى سأكبر وأصبح صحفيا مرموقا؟ قلب صفحات الجريدة التي يكتب فيها عموده الأسبوعي الذي لا يكفيه عائده لكي يمني نفسه بحياة الرفاهية، عاد مرة ثانية إلى ساحل العذاب والإلهام وغطس هو وعيناه في  الشاطئ الممنوع ،كانت الرحلة في الحلم طويلة وجميلة، لكن أحداثها متتالية ولامتناهية ، تراه مرة داعية يتقرب إلى الله معترفا بأخطائه،ومرة أخرى معلما يصنع من نفسه نموذجا يختصر تجارب الحياة،وأخرى فيلسوفا يصل إلى قناعات جديدة عن الحياة والتي ليست إلا ثرثرة خفافيش تخاف من المواجهة ولا تظهر إلا في الظلام ، ضرب على الطاولة ضجرا من ما حوله قائلا لنفسه :  ” أنه مجرد درس واحد لا ينسى سيعلمك الجرأة على أن تصرخ بأعلى صوتك ، لا ..لا للألم ، لا للعجز إن شكك الدائم في قدراتك أقعدك عن العمل ،لا للكسل الذي خدعك وأسلمك إلى الأماني الجميلة، وبدل أن تجتهد و تكتشف سر الحياة صرت إنسانا متواكلا لا ينفع غيره ولا نفسه ”  ينبعث ضجيج عارم من دار خالته مريم يفضح هدوئه المصطنع ويبعثر أفكاره بل جعله يتخلص من أنانيته وينصت للآخرين كان قبل هذا منهزما في كل الأحوال  زحمة الأفكار تحاصر أنفاسه المتوهجة و تسيطر على أحاسيسه، يصنع الخنجر من دمه و ينسل منه عند غفلته لكن الفشل يدرك كل طعنة تخترق ذاكرته ، يؤنسه نباح الكلاب وعواء الذئاب حين تختفي النجوم ، نشوة الوحدة هي رعشته الأولى ، إنها أفكار رزع و خبط تصيب الرأس بالصداع و الروح بالضيق بدلا من أن تكون وسيلة لسكينة النفس وهدوء الأعصاب ، يقوم بواجباته المهنية بانتظام، يصل إلى مقر عمله غالبا قبل مرؤوسيه وينصرف بعدهم ، لديه من البصمات الشخصية ما يمكنه من القدرة على تجاوز الروتين واتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب وتحمل مسؤولية قراراته،  تنهد وهو يردد شعر إيليا أبو ماضي :ا

             أيها الشاكي وما بك داء           كن جميلا ترى الوجود جميلا

صمت وعاد يردد وهو يلوح بقلمه يمينا و يسارا كيف يرى الوجود جميلا وهو منذ زمن يسابق  أثار أقدامه المغمورة في الرمال ويحاول اجتياز خطواته، ترسل الشمس أشعتها فتحوي وتغازل أهدابه ويكسو جسمه الدفء المعتاد منها ، مشى بضع خطوات تأمل الكون من حوله وأعجبه موقع بلاده على الخريطة ، تساءل هامسا أن كان بإمكانه اختصار الأبعاد، ما أجمل أن يحلم وهما جميلا ويصنع له طريقا مختصرة من الممكن في بحر المستحيل ، أنانية هي الكلمات، كل واحدة تريد أن تأخذ لها موقعا استراتيجيا في الصفحة وتتفق مع الجملة على أحداث انقلاب ضد اللغة ، صمت قليلا وهو يتأفف من رطوبة غرفته التي تبتره برائحتها الجريئة، يطل عليه من غار بالحائط فأر أجرب، يبتسم في وجهه ، همه الوحيد كسب صداقته رغم أنه يبالغ في تدليل قطه ، فجأة يلمع البرق ويقصف الرعد فتهتز أركان الغرفة ، كل شيء يرقص في مكانه ثم ما لبث أن سقط علىأرض قاسية ويتفتت ، صورة أمه وهي محمومة ، كأس البطولة المصنوع من الألومنيوم والذي اتخذه أخوه رمز الأمجاد المزيفة ، صحن جدته المصنوع من الفخار ، إبريق الشاي ، وحدها الخزانة بقيت صامدة في وجه الزمن المنصهر بذاكرتها المفجعة وشموخها المائل أمامه تقاوم ما أعقب الهزة من ارتدادات متوالية شديدة، وبعد سنين طويلة هبت نسمة باردة ضربت نخاعه الشوكي فأحدثت فيه فجوة عميقة ثم مضت حاملة معها فتات الأشياء ، وهكذا انهار الصمود  فهوت الخزانة بشدة وتناثر ما كان بداخلها ،انتبه إلى ارتطامها بالأرض وفزع من الضجة العارمةوحينها علم أنه استفاق من وهم محاولة كانت فيها كل متعته .

آخــــــر قطــرات عطـــــــــر

أغلق باب بيته الخشبي وراءه وخرج قاصدا مدرسته كالعادة لكن هذه المرة سيرا على الأقدام ، كأنه أراد أن يتعب جسده الصغير ليبعد عن عقله ما أنهكه التفكير فيه ،كان الوقت مبكرا وفي الشوارع الخريفية كل شيء كان هادئا ، صامتا ، لم يعرف في أي الطرقات سيسير وفكره مشوشا ، دخل مدرسته وحيدا منطويا ، لاحظت معلمته تغيرا كبيرا عليه، لا يشارك زملاءه الحديث واللعب، شاحب الوجه،وتعاظم قلقها عليه عندما تقهقر مستواه الدراسي كثيرا. عاد في نهاية اليوم إلى منزله ، وفي ساحته كان يلف ويدور يبحث عن شيء لا يعرف ما هو، أخذ ألبوم الصور احتضنه ثم أعاده برفق داخل الخزانة ، ينظر إلى النافذة ومن خلالها إلى أغصان بعيدة كانت عارية من أوراقها، يكز على أسنانه، وتذرف عيناه  البنيتان اللامعتان دمعا ساخنا ، ينتفض كمن توهم أمرا ما فيتوجه راكضا نحو الباب فيسند ظهره إليه ويشبك يديه خلفه وينادي بفارغ الصبر شبه صائحا ” ماما ، متى تعود ماما ، هل ستعود بعد شهر ، شهرين ؟؟ ” سحب والده الجريدة بين يديه للأسفل ورمقه ثم قام إليه واحتضنه ثم جلسا قريبا من النافذة يتأملان الأجواء الخريفية الحزينة خارج المنزل والتي لا تختلف كثيرا عن داخله ، أراد أن يخفف من أحزان ابنه الوحيد بأن دورة الحياة ستستمر وأن تجهم الطبيعة لن يدوم وستأتي حتما بهجة الربيع ، ولكنه لا يسمع منه سوى تلك التمتمة المعادة المعذبة التي لا تفيد أي معنى سوى أنه متمسك بشبه حلم لا يزال معلقا بالمستحيل، ابتسم لوالده ابتسامة حملت من خلالها  ثقل أحزانه الدفينة في أعماقه ولكنها لم تخف دموعه المحبوسة وظل الصغير مسافرا عبر أحلامه المتشوقة إلى حضن أمه. تمر الأيام على ” وليــد ” وحالته تزيد سوءا ومعها يزيد استغراب معلمته، قدم أوراق إجابته في الامتحان فارغة ، هجره أغلب زملائه بعدما لاحظوا إهماله في نظافة جسده وملابسه ، وتكرار تأخره عن أوقات الدراسة،  علم يوما من خلال  حديث زملائه المجتمعين الذي يأتيه عن بعد رغبتهم تنظيم حفل عيد ميلاد لمعلمتهم، أثارت هذه الفكرة في نفسه شعورا ملأه الحماسة فراح يبحث في كل أرجاء منزله عن ما يمكنه أن يشارك به في الحفل وأخيرا وجده ،أو هكذا أراد القدر أن يكون، في الموعد قدم كل تلميذ هديته إلى المعلمة ، فتحت الهدايا أمامهم والسعادة تغمرها،قدم وليد هديته واستغربت المعلمة طريقة تغليفها الفوضوية حاولت إخفاء ما اعتراها من امتعاض سرعان ما تحول إلى قلق أثار حيرتها فتقبلتها دون أن تبدي أي ملاحظة ،فتحتها برفق فوجدتها زجاجة عطر مستعملة لم يتبق فيها سوى بضع قطرات، ولكنها وجدت ورقة صغيرة مكتوبة سألها فيها  “هل تقبلين أن تكوني أمـــي ؟ ” صمتت المعلمة وقد علمت أنه ذاق صغيرا أمر عذاب في هذه الدنيا، ولكن هالها أنه اختارها هي لتكون عوضا له عنها ،ثارت في نفسها عدة تساؤلات حائرة ، إنها معلمته ومربيته التي يهمها أن يكون ناجحا في دراسته ولكن أن تقوم بدور الأم وهي لا تزال عزباء فان ذلك  سيمثل عبئا إضافيا عليها قد تخشى أن لا تتحمله ومسؤولية ثقيلة لم تتأهل لها بعد،القبول بها يعني أن الأمر سيكلفها عمرا ستنفقه من أجل إسعاد حياته .. استبقته بعد انتهاء الدوام وبعد خروج كل التلاميذ اتجهت إليه، شكرته على هديته ولسان حالها يدفعها لمعرفة لغز هذه الزجاجة، أخبرها والحرج يكاد يذيبه أنها آخر شيء احتفظ به من أمه،وانفجر باكيا، أدركت أنه يريد أن يرى فيها أمه، وأن يشم فيها رائحتها، توددت إليه ومالت نحوه هامسة في أذنه بكل حنان وهي تهذب بلطف شعر رأسه الصغير ” هل تقبلني كأم؟ ” استغرق الأمر مدة قصيرة ولكنها كانت كافية حتى نسجت في قلب أم جديدة ألفة ومحبة لا حدود لها حملت معها إشراقه جديدة لحياة وليد وفتحت أمامه أبواب الأمل مشرعة للمستقبل السعيد، هكذا وجد وليد في سؤالها الإجابة الوافية على أسئلته الحائرة ،وجد من يقف معه في مشوار حياته،عثر على سنده لاستعاد اجتهاده الضائع واسترجاع تفاؤله المفقود ،واظب على طريق العلم ،ولم تتخل هي يوما عنه،وقفت إلى جانبه في كل الظروف في البيت والمدرسة وكانت وراء الكثير من نجاحاته الدراسية التي تواصلت بانتظام حتى كبر ونال شهادته الجامعية وأصبح معيدا بالجامعة، وجاء يوم تكريمه على تفوقه الباهر فأرجع الفضل الأول والأخير لها ، لولاها ما استقامت حياته وما كان له هذا الشرف العظيم  استمعت إلى كلماته بكل فخر واعتزاز، وقد كانت له الأم التي لم تلده والتي رافقت دربه في أعسر أوقات حياته ، وفي غمرة سعادتها به غالبت دموع فرحتها به فرحة كبيرة شاركها فيها والده الذي لم يتردد من الشد على يدها امتنانا بفضلها واعترافا بجميلها بينما قبضت يدها الأخرى على تلك الزجاجة الصغيرة التي احتفظت بها طويلا ولم ينقص من قطرات عطرها شيء، كانا سعيدين وسط أبنائهما الذين صفقوا بحرارة في حفل تكريم أخيهم وليد .

حــــنيــن العائـــديـــن

حالة من الفوضى تتولد في نفسه وتسكنه كلما أطل من على حافة الجنون في اتجاه عناوين الحنين والشوق حيث نسائم بلده وتلك النجوم التي تعده بلقاء قريب يجمعه مع أهله في وطنه، يستحضر تقاسيم وجه أمه وملامح قريته التي يحيطها بهاء حقول اللوز والكروم ،تستقبل زائرها أسراب العصافير الرقيقة التي تفيض حنانا وحبا ، يشهر أحلامه ويرسم لغده لقاءا جميلا ، ترك إسماعيل بلدته فور زواجه وهو في سن صغيرة  ، سافر الزوجان إلى فرنسا هربا من الفقر والجوع وبحثا عن الحياة الناعمة ، وترك أمه تتكبد وحدها مشقة العيش وصعوبات الحياة.  في مدينة ” ليون” الفرنسية لم تكن الأمور سهلة  كافح وزوجته من أجل لقمة العيش، وبعد سنين من العمل الدؤوب وبالكثير من الصبر تمكن من امتلاك محل جزارة يعيل به أسرته وأولاده ، وفي عمق بهرجته الإنسانية المتطرفة مرة والمتداخلة مرة أخرى في امتداد الذات مع اتساع حدقة القلب تعددت زلاته وتنوعت صدماته وتفاوتت في شدة وقعها على بساط الإدراك ، كل الحالات التي يعيشها انتشى ببداياتها المطرزة بخيوط التمني والحافلة بالتفاؤل عند كل منعطف يعبر فيه حواجز الغربة والتردد ليذوب في حضن الاحتياج فأنهكته تفاصيل الغياب ووحشة الأمكنة الفارغة من الحنين، ألم الغربة يقيده بسلاسل الماضي ويحجب عنه رؤية المستقبل بوضوح ، ولكن أي مستقبل وقد مضى من العمر ثلاثون عاما قضاها في الغربة لم يزر خلالها والدته سوى مرات معدودات ثم انقطع بعدما فارقت الحياة، لمن يذهب ، فالبيت الذي كان جدده أهمل كثيرا لسنين طويلة، ولكنه هذه المرة صمم أن يعود لزيارة قريته وليعرف حفيده وأصله وبلاده وجبالها وسهولها، إن مجرد الحلم بالعودة تنطلق سريعا أمام ناظريه عديد الرؤى إلى القريب المنتظر، أنه ما تبقى له من الحلم يمسح بومضه ظلام الآلام الواهنة في ذاتها ولكنها الكاسحة بإيحاءاتها لخطوط الحياة التبادلية رغم تمرد الحظ بجملة مفارقات التي تبتسم على شفاه النحس عندما تفرط الأيام في بؤسها على مرآة الروح ، وبعد مرور العمر تتضح الرؤية للمشهد الذي استنفذ كل طاقته الذهنية لفهمه، سأل نفسه هل هو خارج منطقة الاستيعاب أم هي حالة تبلد أو أنه الهم يتنفس فيضا من المشاعر المبهمة على عتبات العجز، وذاكرة خائرة القوى ازدحمت من فراغ ، وفي تعدد المشاهد المؤلمة يغوص في أعماق الصمت حين يضطره الموقف، يرفض أن يكون مجرد صوت نشاز لا يسمن ولا يغني من جوع  في الضجيج  السائد ، الحياة جعلت منه حكيما يفكر بعقل وروية ، انه مصمم هذه المرة على السفر وتجديد الهواء ، في غربته طالما خذله صبره بالعودة على قارعة الانتظار ولم يفهم وجعه وقد شمل الأسى كل زواياه وفاضت دموعه ، كثير ما أخذت الغربة عزيزا عليه فلم يبقى في عمره الربيع ربيعا ولا الصيف صيفا فيمر يومه وهو يعلم أن مثله سيكون غده عليه نارا تحرق جسده ، لكن هذه المرة سيغلق باب الليل ويهزم الظلام ولن تتغير أشياءه، اقترب موعد السفر أحضرت زوجته سعدية متاعها رفقة ابنها مالك وحفيدها نسيم المتلهف ليرى جنة الأحلام التي وعده بها جده  تاركا باقي أولاده و بناته الذين رفضوا الذهاب معه لأن أشغالهم كثيرة ، وأخيرا عاد إسماعيل إلى أرضه ودخل بيته بعد جفاء وهجر طويل ، كانت الثلوج تكسو جبال قريته ووجوه أجيال جديدة نشأت ووجوه أخرى بحثت عن الحياة في مكان أخر وبلد آخر، تنهد طويلا أمام أشجار الزيتون التي هرمت وأهملت ، ترى هل سترحب به أرضه ؟ وهل ستلين حقوله له؟ هل بإمكانه أن يزرع الحياة فيها هذه المرة بعدما أخذت الغربة منه كل صحته؟ فكر مليا وعاد إلى البيت وقد كانت حبات الثلج تنذر بليلة باردة، زوجته سعدية رتبت البيت وأعدت الطعام ،ذهب ابنهما مالك إلى المدفأة وأشعلها ، قضوا الليل يحيون ذكريات الطفولة والمكان ويستحضرون الأحداث تتلوها أحداث ، يغالبون قسوة الطبيعة التي بالخارج ومن حلاوة الحديث أخذ كل واحد مكانه أمام الأخر وراحوا في نوم عميق ، مرت الأيام ولم يظهر إسماعيل ولا عائلته كعادتهم ، قلق أهل القرية عليهم وراحوا يسألون عنهم لكن لا مجيب لندائهم ، كسروا باب البيت فوجدوهم كلهم أمواتا ، فارقوا الحياة إلى الأبد نسوا أن فتحة مدفأة الغاز قد استعمرتها حمامة وبنت فيها أعشاشها وعمرتها طوال السنين الماضية حتى أقفلتها قفلا محكما ، ماتوا مختنقين بالغاز، غرق إسماعيل في نوم أبدي لا رجوع منه وهو يحضن أحلامه التي طالما انتظرها ، انه الوطن الذي سبق أن خذلته مثله نفوس المتعبين من أبنائه من قبل ولم يجد سوى هديل الحمائم الحالمة له .

دعوتـك يــــارب

” الموت شـيء مهم وموضوع شيق .. ويهيأ لي أن التحدث عن الموت هو المدخل الوحيد للوصول إلى قيمة الحياة .”  المفكر الفرنسي / أندريه مالرو

تقطن سكينة هي وعائلتها خارج المدينة وسط ريف عذري الفت جباله وأحبت سهوله  الخضراء الممتدة وأنست أوديته المنسابة تمنح الحياة ، اعتادت أن تصعد الجبال كل صباح لتجمع بعض الأعشاب البرية وخاصة لبان الصنوبر لتصنع منها دواء تبيعه لأهل المدينة فيه شفاء كبير من أمراض موسم الشتاء ، تقاسمت وزوجها الاهتمام بتربية الأبقار والنحل والدواجن ، كانا سعيدين بحياتهما رفقة طفليهما الصغيرين اللذين أعتادا اللهو في الغابة القريبة من منزلهما ، إنها عائلة  قانعة بما بين يديها ولكنها تؤمن بضرورة التغيير للتقدم نحو الأفضل ولتحسين أسلوب حياتهم ، كانت أسرة متميزة بمرونتها في علاقاتها مع الآخرين وبقدر نجاحهم في الحياة كانوا يرون أنفسهم بشكل صحيح .

ذات يوم اشتدت على سكينة ألام في منطقة العنق والحلقوم راجعت الطبيب الأخصائي في أمراض الأذن والأنف والحنجرة ولدهشتها الشديدة ودهشة زوجها أخبرها الطبيب أنها مصابة بمرض السرطان ولم يكن عمرها حينها يتجاوز 25 ربيعا ،فجأة ينقطع الماضي الجميل ومن دون مقدمات يهب عليهم الحاضر المفجع لينقلب فيه كل شيء رأسا على عقب وتموت فيه ابتسامتها وابتسامات من حولها لنفس التقاسيم ونفس الجسد لكنه أصبح حطاما ، هل هذا تكفيرا عن الذنوب كما يقولون أو هذا عقاب لذنوب لم تقترف بعد، هاجمها المرض الخبيث فلفها الحزن وكبلها الألم لفترة انتظار وبحث و ترقب وعودة إلى حقيقة لا مفر منها، أفاقوا بسرعة لمشاعر الحب العميقة التي تجمع بين العائلة ولروح التفاؤل الذي يملأ جوانحهم ، ولكن اعترت سكينة موجة أخرى من الآم الشديدة وكان لزاما إلحاقها بالمستشفى حيث أقر الطبيب المعالج ضرورة الشروع عاجلا في العلاج المكثف بعدما اتضح أن المرض قد انتشر في الغدة الدرقية والأوردة والشرايين من حولها.

قضت سكينة أيامها بالمستشفى تتحسس جسدها المريض وتتلمس في شجاعة طريق الأمل والخلاص، فكرت وتأملت وأحست واتعظت ، تمسك قلبها بالإيمان وبالأيادي الرحيمة التي امتدت إليها ووقفت إلى جانبها وبإرادتها القوية لتتمتع بفرصة أخرى تمنحها لذاتها من أجل تحقيق الحياة الأفضل التي تحلم بها لابنيها ،غلبتها الدموع حين احتضنت عائلتها الصغيرة في نهاية زيارتهم لها ،ابتعدت الوشوشة وتبخرت الأصوات وحاولت أن تستسلم للنوم ولكن شعور غامض يتسلل إليها من حولها ويغمرها شيئا فشيئا تنفست بعمق ،أرادت أن تسحب يدها فوجدتها مكبلة بإبر مغروسة وموصولة بأكياس الدواء الكيميائي، حدقت في ذلك السرير الذي أمامها وقد أصبح خاليا ، جفناها تقاومان الضياء الذي تسلل إلى الغرفة حتى غمرها معلنا صباح يوم جديد وهي ما تزال غير قادرة على استيعاب الأشياء من حولها فهي شبه مخدرة، أرادت ترتيب خصلاتها المتطايرة فذعرت لما تشابكت أناملها بالشعر المتساقط بكثافة، وفي حين كان المرض ينهكها علمت سكينة أنها حامل ، انه حملها الثالث الذي يدفعها الآن للتمسك أكثر بالحياة وللبقاء من أجل أبنائها الذين ملآ حياتها حبا وفرحا هذا الشعور جعلها تتقرب إلى الله الذي منحها هذا الطفل الذي ينمو بأحشائها في ظروف  تخشى فيها الموت الذي سيشيقه وحيدا في الحياة بدون أم ترعاه ، دعت سكينة الله كثيرا  أن تعيش من أجل إسعاد طفلها ، ظلت ابتسامتها الخفيفة تلازمها كظل فراشة ويدها ممسكة بكتاب الله عز وجل لا يفارقها،وزاد تعلقها ببحر كتاب الله كلما غاصت في أعماقه وتمتعت بشواطئه فمنه وجدت ما يزيل الحجب ويغسل الصدور، وبه كانت تشعر أنه سيرسم لها نهاية لليلها الطويل، انفلتت الدمعات الناعمة من عيونها الذابلة مثلما تنفلت اللحظة من ألم الموت، لم يعد الموت مؤلما وقاسي القلب بقدر ما صار مساحة بيضاء تتفتح على أجمل الاحتمالات فالتطرف في التصور ينتج فزاعة قد لا تكون حقيقية ، حضر زوجها لزيارتها وكما اعتاد حاول جاهدا أن ينحت معنى الأمل الجميل في أعماق روحها، ويدعوها للانغماس في التأمل والتعلم من قوة الإيمان ، تأملته وحاولت مجاراته لخلق جو مفعم بالمؤانسة، وبابتسامة منها بدت باهتة مسحت ثنايا وجهها فتلاشت كحزمة ضوء خاطف ، لمس اضطرابها البادي في كل حركة من حركاتها ، كانت تعي مقدار خوفه وشفقته عليها التي بلغت حد الدمع الخجول في عينيه عندما لمس الحقيقة المرة في معاناتها الصامتة ، استرخى كفها بين راحتيه وهو يساعدها على النهوض ، وبينما كانت الآلام تتكالب عليها وتتقاطر حبات العرق باردة على جسدها الوهن الهزيل أبلغهم الطبيب ضرورة إجراء عملية جراحية للغدة الدرقية لإزالة 44 عقدة ليمفاوية من عنقها ، انتاب سكينة شعورا رهيبا بالخوف ،خشيت أن يكون مصيرها كمصير معظم من سبقوها إلى الموت ، بقيت تنتظر الموعد كالسجين في الغرفة الخاصة للذين ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام ، أقبل والدا سكينة بالرغم من مرضهما في موعد إجراء العملية الجراحية التي جرت بنجاح ، قدرت سكينة صعوبة موقف زوجها بينها وبين رعايته لوالديها المسنين فقررت عدم البقاء في المستشفي والخروج منها في أقرب وقت ،أرادت أن تصنع حدثا يخرجها من عزلتها ويكون لها متنفسا  وكان لها ما أرادت لتعود إلى حضن بيئتها ، إلى ريفها الجميل ، ذهبت إلى حيث عشقت الحياة ، انطلقت في الهواء الطلق تمرح كطفلة صغيرة ولدت من جديد ، أنجبت طفلة في كامل صحتها، ساعدها إيمانها على قهر أخطر الأمراض وأشرسها وكانت كلماتها  “يـــــارب” خير دواء.

وجـــوه الأرصفة البـــاردة

أطلت مبكرة من الشرفة التي كانت على شيء مريح من الاتساع ، ولكن السور أمامها كان مرتفعا لذا لم يتسن لها أن تشاهد إلا صفحة السماء والطيور المهاجرة في أسراب متوالية، السماء في هذا الوقت من العام واجمة مكفهرة ولم تعد سحبها كما عهدتها خفيفة وجميلة بيضاء ولم تعد ترى فيهاأثرا للأطيار التي ألفتها تحلق في كل الأوقات ، ظلت خلف زجاج النافذة تنظر لأعلى إلى حيث بدأت تتساقط قطرات المطر، تأملتها كيف تهطل وتتساءل، كيف حملت السحب كل هذه الكميات من المياه لتضرب الزجاج بعنف ؟ ثم أين تلك العصافير المغردة التي لم تكن تبرح شرفتها؟ كم تمنت أن ترى سريعا السماء صافية كما رأتها ذات مرة زرقاء تزورها السحب البيضاء الناصعة مرورا لطيفا، لجأت نادية إلى غرفة بنتيها قبل نهوض زوجها، كانتا لازالتا نائمتين وقد علت شفاههما ابتسامة بريئة  أيقظتهما بضع لمسات حانية من أنامل والدتها وهي تهديهما القبلات الصباحية مليئة بكل الدعوات الجميلة الدافئة ، ابتسمتا للنهار الجديد ولمحيا والدتهما التي اقتربت من وجنتيهما لتقبيلها بكل ما في الكون من حنان، نهضتا تراقصان أشعة شمس الشتاء التي تسلل بعضها للغرفة من بين السحب ، كرهت نادية غربتها ، ترجع بذكرياتها إلى تلك البقعة البيضاء التي تعودت عليها مع أهلها وصديقاتها حيث ألفت أن يخفف عنها شدة قهر زوجها لها وتوحشه معها والذي لم يرحمها ولم يترك رحمة ربنا تنزل عليها بردا  وسلاما ، انه يعشق إذلالها وتعذيب بنتيها ولاء وشدى ،استفرد بها في الغربة ، تنهدت وهي تتذكر كم جميلة ساعات الفجر في بلدها ، إنها تشعرها كل يوم وكأنها أخرجت للحياة من جديد ونشأت في أحضانها كمثل كل الأولاد والبنات ، عندما لعبت وضحكت وركضت في تلك الطرقات الضيقة التي تعرفها ، أعادت التنهيدة مرة أخرى لكن من أعماقها فخرجت أنفاسها ساخنة كسخونة العواطف عندما تتغلب على دواعي الإنصاف حتى في نفوس العقلاء ، أخطأ أهلها بتزويجها، كان كل همهم أن يوفروا لها الستر في عباءة رجل ، لم يشفع لها عندهم شهادتها الجامعية التي نالتها بعد جهد وسهر ومستواها الثقافي المرموق كانت تظن أنها ستأخذ بعض من الحرية حتى تحدد اختياراتها واكتشفت أن الأمر في النهاية سيان سواء درست أو لم تدرس فالمجتمع يختصر الأمر بالنهاية في بلادها في شخص الرجل ولا وجود لحكمة المرأة ولا لرأيها حتى ولو كانت  منطقية وواقعية لأنها مرفوضة لكونها فقط امرأة ، تنتصر دائما أخطاء الرجل وما أدراك ما الرجل، قال يوما سنهاجر، لم يعترض أهلها فهو المسئول ، ولكنه متهور وقاسي القلب، لم يهمهم هذا الأمر كثيرا بل كانوا يصبرونها  فالفأس وقعت على الرأس وعيب وعار عندهم  لفظ “مطلقة ” طالبوها بالصبر كما صبرت الكثيرات مثلها، سيكبر وتكبر بناته وحتما سيتعقل، لم يمنح للانتظار مهلة و قرر السفر إلى عالم جديد مختلف تماما ،ومع الأيام صارت جزءا من الحياة اليومية لفرنسا ومن وقت لآخر وعلى هامش الذاكرة المتعبة تصحو فجأة على ضحكة تقفز منها عنوة لتدق أبواب القلب المشرعة للهواء المحمل بشيء من حنين الوطن والمفتوحة دائما لاستقبال نسماته، عاد أخر النهار من عمله ورائحة الخمر تفوح منه وبدأت الملحمة اليومية ضرب وسب وتكسير الأشياء كعادته ، قبعت محتضنة بناتها تصبر حالها بغد تجد فيه حلا لنفسها ، مضت السنين وكبرت البنات ، وبقي هو على حاله، لم تصلحه الأيام بل زاد سوءا، وذات ليلة عندما اقترب كعادته كل مساء لضربها،عاندتهشدى ابنتها الكبيرة كي تحول بينه وبينها، أرادت أن تغطيها بجسدها الطري الغض لتمنع عنها اللكمات ، فيما بقت ولاء تتأمل الموقف خوفا من وراء باب غرفتها الموارب ، رأته وهو يربط قدمي أختها ويعلقها ويبرحها ضربا ويمارس عليها كل أنواع التعذيب حتى إذا ما شارفت على الموت فك قيدها خوفا من السلطات الفرنسية بعدما هدده أحد الجيران بأن يرفع شكوى ضده ، بقيت متمددة  تتألم في فراشها، استجمعت شيئا من الشجاعة واعتدلت في جلستها وأخبرت أختها التي ظلت بجوارها وواظبت على مداواتها أنها لن تكمل حياتها في هذا البيت وستهرب، ليلتها  باتت ولاء فزعة من ما سمعت وحذرتها أن الشارع لا يرحم  اشتكت شدى من جروحها وكسورها التي لا تسمح لها حتى بالحركة لكنها مع ذلك صممت على الذهاب إلى الكنيسة المقابلة للبيت، وترجت أختها أن لا تخبر والدها بمكانها مهما كان الأمر وحتى أمهما فلو أخبرتها سوف تضعف وتخبره المهم عندها أن تبتعد بأي طريقة عن جحيم والدها الديكتاتوري المتوحش الطبع وسيء التصرف.. وهربت شدى. عاد الأب مساءا وكعادته راح يبحث عنها محاولا إيجاد أي سبب ليواصل عقابه لها وتعذيبها، لم ينس أنها  تجرأت يوما وحاولت أن تدفع عن أمها شروره ، كسر كل ما وجده في طريقه وهو يصرخ صراخا هستيريا ونادية تبكي وتقسم إنها لا تعلم أين ذهبت ، مرت السنون وشدى تعيش في دير الراهبات وتنتقل من كنيسة إلى أخرى، طال انتظار نادية لترى ابنتها وفشلت في العثور عليها وفي غمرة انشغالها فاجأها خبر وفاة والدها وقد علمت أنهم بانتظارها قبل أن يدفن حتى تأتي وتراه ، ولما أخبرت زوجها السكير بالأمر وأنها ستأخذ  ابنتها ولاء لتحضر جنازة جدها مانع ورفض ، ولاء تريد أن ترى أهلها وحتما ستعود لتكمل دراستها الجامعية وكذلك ستعود شدى إلى حضن أمها بعدما تركت البيت منذ سنين طويلة ، تحججت نادية بكل الحجج حتى يطمئن ويطلق سراحها ووافق على مضض ..أعدت ولاء كل أوراقها وأشياءها خفية عن والدها وما أن أقلعت الطائرة حتى تنفستا الصعداء، سافرتا معا في أول رحلة عودة إلى بلدها وعزمتا على أنه لا رجعة للجحيم بعد اليوم ، انه فصل الربيع الذي طالما انتظرته ، استقبلتهما السماء الضاحكة بدفئها ،عادت العصافير إلى تغريدها على  شرفاتها التي ألفتها ، اليوم عرفت أنه خارج أحزان سنين عمرها العالم كبير وما أوسعه، راحت ولاء ترمقها بعيونها الجوزية المتوقدة حنانا وذكاء وكبرياء وقد صدق ظنها في السعادة وراحة البال التي تنعم بها ..لانت لهما الظروف واستغلتا فرصة كل لحظة لإضفاء أجواء السعادة بحجم شوقهما لها ، لقد ودعتا ذلك الشتاء الفرنسي الشمالي القاسي الذي لا يكاد ينقطع، أخيرا خرجتا من سكونهما الحزين وانعقتتا من استكانتهما المهينة،انفرجت ابتسامة عريضة على ثغر ولاء تعلن إشراق دنيا جديدة في حياتهما ولعل أروع ما فيها أنها رأتها بعيونها وأنها تحمل أكثر مما كانت تتصور محملة بأجمل الأماني في تلك الأفاق المذهلة أن يجمع الله تعالى شملهما مع شدى، ، أما هو فانتظر سنينا بعدما هجرته زوجته وابنته طويلا وعاش وحيدا إلى أن أتى اليوم وجاءها اتصال مبتسر أن تحضر إلى المطار في موعد معين ، راحت ولاء رفقة والدتها التي أصبحت مشرفة على قسم الطب الشرعي بالمستشفى العسكري ، قصدتا المطار وكم كانت المفاجأة لما رأت ابنتها شدى مسرعة نحوها، احتضنتها برفق، دام عناقهما طويلا في هدوء وصمت  كانت مواجهة حارة بالحنين المتبادل، إنها المسافة التي باعدتهن كثيرا وكانت أطول مما ينبغي، مسافة أكبر من السنين ، مسافة العمر الذي انقضى في الهم والغم ، نطقت عيون الأم هاتفة، ها أنت يا بنيتي بين أحضاني من جديد بنفس الملامح البريئة وشوقك وطيبتك ، لم ينقص منك شيئا حتى آن لنا فالتقينا، وجدت معها طفلها الصغير “يونس ” أسمته على اسم والدها الذي غادر الحياة مريضا في مصحة للمدمنين، سألتها والدتها عمن كان يعتني وعلمت أنها هي من  كانت تراقبه عن بعد وكانت تدري كل أخباره ولما علمت انه دخل المصحة فعلت كل ما بوسعها لأن يحيا بقية أيامه مرتاحا لكن عذاب الضمير وشدة الندم وقهر الحسرة عجلت بموته بائسا تعيسا ، لقد ظلت شدى الابنة بارة بوالدها رغم كل إساءاته لها، أقبل عليهم زوجها ليكسر الأجواء الثقيلة بمرحه وثرثرته وكان يتصبب عرقا ومتلهفا لرؤيتهم ، انه مدير إحدى المدارس العربية الخاصة حيث تعمل شدى ، هو من ساعدها على استعادة ثقتها بنفسها وكان له الفضل في تقوية عزيمتها للنجاح في الحياة، هو من قبلها زوجة عن اقتناع بها، رحبت به ولاء وأمها وقد كان أنهى لتوه إجراءات إخراج التابوت من المطار،انه نعش والدها  فسرت شدى الأمر لوالدتها أنها لم ترض إلا أن يدفن والدها بأرضه ويتوسد ترابها فهنا يلتقون جميعاوبقلوب رحيمة يحيون في عالم من الصفاء والمحبة.

الراحلون الصامتون

استيقظ نسيم قبل آذان الفجر وقد ارتعش وجوده شحنا وسرت بين جنباته هفهفات النبض المتدفق والأصل الممتد عمقا وعبقا ،وبعد الصلاة اضطجع وبقي بين النائم والمستيقظ وكأنه هارب من ليلة جهنمية يعد فيها أنفاسه على مبنى روحه فكان يتحسس نهداته ويراوده شعور دائم بالخطر ، شعور بعبء الأعماق الغائرة فكان يمضغ ويلوك الظلام بما يكفي لتوطين قلبه وهو يحاول أن ينسى كل التفاصيل الحزينة التي سكنت روحه، قصد عمله ببطء شديد لتأدية واجبه في إدارة البلدية بإتقان وإخلاص مقابل تلك الدنانير القليلة ، أنها الأزمة أو هكذا يقولون وعلينا أن نتقشف هذا ما تتداوله الألسنة ، لا يكاد هذا الوطن يخرج من مشكلة حتى يقع في أخرى ، الحياة بالنسبة له غربة جعلته يتأثر بالأحداث في مشاعره  يتذكر يوم تركته خطيبته لأنه عجز عن أن يوفر لها الحياة الكريمة التي تتمناها أي بنت، لقد صبرت معه كثيرا وطال انتظارها فكانت خيبته كبيرة،مرت عليه الأيام وهو يدور في طاحونة الحياة مثل ثور مغمض العينين ، يعود إلى منزله كعادته فيقضي وقته يصول ويجول بين أركانه بين التفكير والملل ، في مساء أحد الأيام انتفض واقفا مذعورا على وقع دقات على باب منزله التفت حوله نحو الفراغ وفتح الباب وأوصاله ترتعد، انه صديقه الذي هاله ما رأى من ارتباك نسيم، أخبره أن هول الفجيعة لا يزال يلازمه وأدوار الحادثة بتفاصيلها ترويها أركان البيت، لا تزال صورة شقيقه التوأم تلازمه طول الوقت ، اتجه الى النافذة ليتأكد من أن بيوت الحي المثقوبة ما تزال مكانها ، كان الشارع طافحا بالأطفال وهو يدونون على الجدران وعلى غبش النوافذ عبارات الهروب من الوطن وجحيمه الذي لا يريد أن ينتهي ، يحلمون بزمن للحرية وآخر للعزة والكرامة، أطفال ولدوا بسرعة في زمن الرصاص والفوضى في زوايا البيت الرطبة ولا يملكون سوى القليل من الحظ، وجوه باهتة، تاهئة شخصيتهم في الكثير من الأمكنة الضيقة من عوالمهم،يتداولون ما يقال في نشرات الأخبار من عدد ضحايا السيارات المفخخة من أموات وجرحى، ربت صديقه على كتفه برفق وسأله إن كان يريد السفر خارج الوطن ، أجابه بل أنه يريد الهروب .. الهروب بعيدا عن صورة من غادره ومات غدرا يوم عاد من ثكنته العسكرية لزيارة أسرته ،يومها ارتجفت أوصال والدتهما ولامت عليه هذه المخاطرة ، ولكن لم يكن هناك من يمنعه من لقاء  من اشتاق لرؤيتها ولو ليوم واحد، كان الوقت شتاءا باردا ممطرا وطاب له دفء حضن أمه وأحس كأنه في جنة النعيم  فاستغرق في النوم العميق بقربها، حتى كانت تلك الساعة الشؤم التي انتفضت الأسرة كلها على  صياح غجري وطرق عنيف على الباب تبعه تكسيره ، دخلوا البيت بأحذيتهم المحملة بالأوحال والطين يريدون سحبه من بين ذراعي أمه المتشبثة به، يتذكر نسيم تلك اللحظات القاسية ومحاولته إيهامهم أنه ليس من يبحثون عنه أراد أ ن يضحي بنفسه ويدعي أنه هو المجند الذين جاؤوا من أجله ، لم يصدقوه بعد أن سلبوا وثائق أخيه ، سحبوه من فراشه بقوة ومن بين ذراعي أمه بعدما دفعها أحدهم بعنف وأخذوه إلى خارج المنزل ونظراته لا تفارقهم حتى أغلقوا الباب وراءهم، وفي صباح اليوم التالي وجد مغتالا ومرميا على قارعة الطريق على مرأى كل ذاهب وآت، من أجل هذا يريد نسيم أن يهاجر خارج الوطن الذي حرمه من كل أهله واحدا واحدا ، لقد ذهب إلى أكثر من طبيب وطرق باب ألف شيخ وشيخ ولكن لا فائدة لم يستطع أي منهم أن يفهم سجن أوجاعه ، ربما لو ترك الوطن بما فيه يستطيع أن يخرج من محنته لأن هنا لن يجد من يخلصه من أطلال المآسي التي لا تبارح أركان هذا البيت الذي تسكنه أشباح الذكريات المميتة تركوه في شرود طويل غير مستعد لمواجهة حريق قد يطرق بابه في أي لحظة، فجأة صاح نسيم  ” الفتنة قادمة ، أسرعوا أيها المعذبون في الأرض والمسكنون بالفراغ قبل أن يحرق الأوغاد بيوتكم وتجدوا أنفسكم أمام بوابات جهنم جديدة لا رجعة منها ، أسرعوا ودعوا نبضكم خلفكم ومن تحبون،ستستديرون بين يوم وآخر وربما بعد سنة وأخرى نحو لوعة تلك الأرض تودعنا من فيها إلى أي مكان يطلق جنونكم المستتر بعيدا عن أرض محفوفة بالخطر وغياب الوعي ، هي البقية التي لم يبق منها إلا الملامح والوجوه المفتعلة بضراوة وقساوة لحظاتها، زمن الحرية كان دمويا ومليئا بفصول الكلام الفصيح على الطرقات الملتوية والمتعرجة والمتقاطعة إلى مالا نهاية .”

سافر نسيم إلى اسبانيا لا يحمل أي وثيقة تثبت هويته، عاش غريبا فيها متهربا بين شوارعها، وطن لا شفاعة فيه لأحد حيث الوسامة والأناقة و” بابا نويل” الذي لا يحرم الأطفال من طلعته البهية ، وفي هذه الليلة بالذات انزوى نسيم في ركن بارد بأحد المستودعات منتظرا هديته وهو جالس القرفصاء ، يتذكر الغمامة التي كانت تعبر منازلهم القصديرية وهو يحملها قصائده الباردة التي أنجبها على عجل ، وأمانيه الجاهزة والرديئة، وفي صباح عام جديد وجد العاملون بالمستودع نسيم متجمدا في ركنه مفارقا الحياة في صمت كئيب إلى حيث الأماكن والأمنيات وديمومة الأسرار راحلا بعيدا عن فتح الفاتحين الذين يلفظون أنفاسهم الأخيرة .

 الهروب من الماضي

كانت تحتاج في كل لحظة ضيق إلى حضن يحتويها تشكو له همومها وأن تسند رأسها إلى كتف تبكي عليه انهزامها من ماضي تريد أن تفلت من أسره ومن العار الذي وصم عائلتها، لم يكن الأمر سهلا أن تتهرب ” نادية” من بعض ماضيها، لقد وجدت نفسها منذ طفولتها بين أحضان مدينة ” ليون” الفرنسية  فيها عاشت يوميات صباها وعثرات مراهقتها وأحلام شبابها، كان العرب المقيمين بالبلدة يتذكرون خلال لقاءاتهم موطنهم الأصلي بكل تفاصيله الجميلة بكل اعتزاز لكن لأسفها الشديد أن ماضي والدها كان يخذلها بعدما خان الوطن ولم يكن أمامه بعد افتضاح أمره إلا أن يجمع أسرته ومتاعه ويتركه لأجل غير مسمى، ولم يمنع هذا أن يلحقهم العار مع القادمين  الجدد إلى “ليون” وتعرفوا عليه  . في منزل نادية يعيش أفراد أسرتها غرباء عن بعضهم، التواصل منعدم بينهم، أصبح البيت مكانا للنوم فقط، والشيء الوحيد الذي كان يلهيها وينسيها كتلة الهموم التي تطبق عليها هي مدرسة الرقص التي تهرب إليها وتقضي فيها معظم ساعات يومها خاصة بعد هروب أختها من البيت مع ذلك الأفريقي الذي زاد الوضع سوءا. هي لطالما حلمت أن تسبق مكانها وزمانها بخطوة لكن الحياة لقنتها درسا تتجرع فيه لوعة الموت ولا تموت ، أسئلة كثيرة تشغلها وتستقر كبيرة في أعماقها المدمرة وتحرك فيها شعورا يدفعها لتدفن نفسها كل يوم في الوحل والرماد  ويقضي على كل بادرة أحساس جميل بالسعادة المفقودة.

ذهبت كعادتها للمدرسة ، وجدت في استقبالها الزملاء والزميلات يحاولون معها جاهدين كعادتهم إزالة مسحة الحزن التي تلازم وجهها ولا تفارقها طوال الوقت، ارتاحت نادية بعض الشيء بعدما علمت أن مدرب الرقص الفرنسي قد ترك العمل بالمدرسة إذ كان يعاملها بعنصرية مقيتة وحل محله المدرب الروسي ” أليكس” الذي ارتاحت إلى معاملته ومحاولته جاهدا أن يمحو علامات الأسى التي تهيمن على جوارحها وأن يخرجها من أسر السجون المظلمة التي حبست نفسها فيها ، ترجع إلى البيت متأخرة وتجد أمها قلقة تنتظرها ولكنها تبادرها هذه المرة باللوم العنيف ، كيف ائتمنت نفسها لإنسان غدر بأهل بلدته وخان وطنه ؟ وبأي وجه يمكن أن يعودوا إلى بلادهم ويقبلون ترابها بعدما طعنها أبوهم في ظهرها ؟ صاحت : إننا ندفع ثمن ذنب لم نرتكبه ، مللنا حياة الغربة والفراق، العائلة تشتت هربا من العار الذي ستتحمله أجيال قادمة ، كم تمنت لو أن غزارة الأحداث ومستجدات الحياة ومتغيرات العيش يمكن أن تنسي الآخرين عارهم ليعيشوا يوما واحدا في سلام بعيدا عن نظرات الاحتقار والشعور بالذل والمهانة، طأطأت الأم رأسها وبكلمات خافتة مقهورة أكدت لها أنها لا ذنب لها في ما حدث ، كانت مجبرة على البقاء لأجلهم وحمايتهم قدر استطاعتها ، ولكن اتضح لها أنهم مجرد أشجار لا تطرح إلا الكآبة والإنكسار، تنهدت نادية بعمق ما تحمله من آهات ، نظرت إلى أمها نظرة أسف وحزن يصفع وجهها ويتجمد .

أحبت نادية الذهاب إلى مدرسة الرقص ، وأحبت أكثر مدربها ” أليكس” الذي يجيد الإنصات إليها ويطمئنها أن الحياة لا تتوقف عند مشكلة أو حادث يمر بحياتنا ، ومع مرور الأيام توطدت العلاقة بينهما أكثر وأصبح كلا منهما يلازم الآخر ويشاركه همومه، حتى فاجأها ذات يوم بأنه يريد الارتباط بها لأنها أصبحت جزءا منه ، ترددت وخافت أن يكون مصيرها مثل مصير شقيقتها التي اضطرت أن تهرب من البيت ، وعدته أنها ستتصرف بحكمة خاصة أن والدها يعد أيامه الأخيرة بعد إصابته بمرض يفتك به يوما بعد يوم.

دخلت مبكرة المستشفى لزيارته ، اقتربت من السرير والسكون يلسعها كتيار يبعث الحياة في جهاز هامد  ألفت نادية بكاءه ودموعه المنهمرة التي تستبق الألم ، اقتربت منه أكثر فارتمى في حضنها رمية التائه الذي وجد ضالته وانتحب طويلا وهو يبحر في الذاكرة ، أمسك على وهنه بيدها وبصوت خافت ضعيف سألها هل سيعود إلى بلدته ، وهل سيجد من يبكي عليه هناك ، هل تقبل تربة بلده أن يتوسدها ؟ إنها أيام عمره تساقطت وتقطع خيطها .

مرت بضعة أيام صارت خلالها نادية أكثر صمتا ، ذهبت لزيارة أبيها رفقة ” أليكس” الذي نوى طلب يدها منه ، وفي صياح أخرس غادر الحياة ورحل عن عائلته وبيته الذي غاب عنه الدفء طويلا تاركا ذاكرة العار وبيع الشرف .. والأحزان ، وهناك في مقبرة بعيدة بضواحي مدينة ” ليون” المكتظة دفن وهو يحمل حنينا وشوقا للوطن، وجدت نادية فيمن اختارته شريكها في الحياة ملاذا لها من الذاكرة المحشوة بكل المتاهات التي لا  فرار منها سوى أن تنثر همومها على مسارح رقص الباليه على أمل أن يدفن الماضي مع أجيال قادمة وأن تتوسد تربة بلدها في نومها الأخير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لوحة من سراب

     قصة حروفها من نار تشعر صهدها من عاشت التجربة.. وما أكثرهن

في لحظات بلا معالم تركت صداها عند كل من عرف حكايتها ،حارت لمن ستبوح بما يذبح قلبها ويجلد مشاعرها بما تحمله نفسها من بصمة عار ، جلست بغرفتها وقد تهدمت الصور بالجدار التي علقت عليها أحلامها الصغيرة و البريئة ، تزلزلت الأرض من تحتها وفوقها واهتز كل شيء أمامها حتى نظرتها للأشياء اختلفت ، شعور غريب فما عاشته كان في قمة الغرابة ، ليس فيلما وليست قصة خرافية أو رواية خيالية بل واقعها الذي لم تتصوره يوما أن يحدث لها هي بالذات .. حكاية بعيدة عن كل الاحتمالات ، عرفت الحب بكل معانيه الحلوة آمنت بكلمات الشاعر طاغور ” الحب بلا فضيلة زهرة بلا ماء ” انه عرش عالمها الصغير ولد في داخلها و وجدته دون عناء بحث ، أخفته عن العيون ، تخوفت منه  عاشت تتوارى خلف الشجون كمن تخفي مولودها البكر بداخلها ، عاشته في أحلى مراحلها ، عاشرت الأشواق في أجمل أيامها ، تصارعت بداخلها كل أنواع المشاعر اجتاحها حب عنيف قوي شغل عالمها ، اقتحمها ، اقتادها إلى أسمى الأحاسيس ، كل شيء تتأمله يدعوها إلى الحب ، البحر يناجي القمر ، الشمس تسطع لتسحر وتذيب كل ألام الليل .. أشعة تغازل أزهار القلب الشذية ، مشاعر تفيض سحرا..وبين عشية وضحاها تفقد “نجوى” حبها الكبير عندما يغادر ياسين الوطن ، وطن يعيش على كف عفريت وجمره لا يخمد ، ناره تلتهب من حين لآخر ، جثث هامدة، أمهات وزوجات ثكلى، كل شيء في الوطن يحمل رائحة الدم و الدخان، ابتعد إلى بلاد الشقراوات إلى حيث كل شيء بخير ، وهو يرى أنه غير مجبر على البقاء في وطن دون مستقبل وفي بلد آيل للزوال ، ترك وراءه إنسانة مجبرة على البقاء لأنها أنثى الطرق أمامها كلها مسدودة ومكتوب عليها أن تعيش حتى نهاية عمرها في هذا الجو المشحون بالألم والمعاناة  تمنت لو كانت معه وأن تستعيد حريتها، لقد غابت الشمس بدفئها وحل الظلام وانعدمت الرؤية ،تلبدت سماؤها ، رعدت و أبرقت برحيله رددت في نفسها ” سيشعر بدوني بمرارة الغربة عندها يعرف قيمتي و قيمة الوطن ، لقد بعثر أوراقي في الهواء ولم يحافظ على ما كتبته من سطورها النقية ،لقد كتبتها في غيبته بوفاء لكن الآن جفت أقلامها و توارت سطورها  لأنه ببساطة لم يقدر ما كتبته ، لقد صمت بلبلها الذي كان يطرب له الجميع ، سهرت وفكرت و اشتاقت إليه ، تمنت أن يشعر بها كما شعرت به ، أليس الحب أسمى وأرقى وهو من يصنع إنسانيتنا، أليس هو الذي تملكها واحتواها في كل ذرة من جسدها فسارت معه في كل الاتجاهات، قبل سفره قابلته لتسأله ألم يحن الوقت ليخطبها من أهلها، وعدها أنه سيراها في الغد وبأخبار تسرها ، مر يوم ، يومان وعشرة ، قتلها الشوق وعركتها الأيام وليس لها أي مجال لمبارزة هذا الحنين القاتل هذا الشوق الفاتن العذب الذي تمارس من خلاله انتظاراتها باستمرار حتى صارت قرينة الانتظار، وبعد أعوام عرفت أنه مثل السراب لم يترك وراءه أي خيط اتصال وإذا كان كل شيء بالشيء يذكر فبأي شيء تذكره بحبه وقد اختفى من الوطن الذي احتواهما ، اليوم الوطن يعيش محنته ، هرب ولم يبق منها إلا عينيها الجميلتين وذلك الشوق الذي تخفيه بين رموشها ولم تقدر على مقاومته ، فجأة تنهمر الكلمات وتذهب أدراج الرياح ، عتاب على الغياب وما الفائدة لقد انقضى الأمر و انتهى ، مرت السنون وتزوجت أخواتها ، هي بقيت تعيش على ذكرى لا جدوى منها ، عادت من عملها كالعادة دعتها والدتها للدخول معها إلى الصالة ، وضعت حقيبة يدها جانبا ودخلت ، وجدته أمامها شابا أنيقا وسيما بجانب جارهم الأستاذ حسن وزوجته ، منذ دخولها وهي تحت مجهر عيناه لا تفارقها ، انتهت الزيارة كانت قصيرة المدة ولكن جميلة حافلة بالأحاديث الودية الطيبة ،لم تسأل عن سبب الزيارة دخلت غرفتها وتبعها والدها أجلسها بقربه وأخبرها بهدوء أنهم جاؤوا لخطبتها لذلك الشاب ثم استرسل في ذكر محاسنه انه شاب تسر له العيون تقي يقيم صلاته بالمساجد ومتخلق و..  وبينما هو يعدد أوصافه الحميدة شردت هي بذهنها بعيدا ،العمر يمضي وتمضي معه ملامح الشباب والجمال، هل آن الأوان أن يحق لها أن تعيش الحب ما بقي لها من العمر، انتبهت على سؤاله يحيل الأمر كله إليها ، بماذا يجيبهم ، نظرت إليه مستسلمة غالبت دموعها وهي تعلن قبولها بما أختاروه لها ،انحدرت دمعتان ليس لهما مكان على خديها مسحتها وأعلنت أن تعيش حياتها، لكل شيء حدود لقد انتهى دوره وأسدل الستار على بطولته الأولى والأخيرة التي ألفتها بعقلها وأخرجتها بقلبها و أنتجتها بعواطفها ومثلتها بكل مشاعرها ، كيف لها اختبار نجاحها أو معرفة فشلها ، لقد ملت العرض اليومي الرتيب لا تريد أن تفقد في لحظة حمق الحياة مع الإنسان الناضج والصادق ، ابتسمت ابتسامة مريحة لقد اهتدت نفسها إلى أن الحياة على امتدادها هي إجابات صريحة ونحن دائما نبحث عن الأسئلة الصحيحة ، إن حياتنا هي الإجابة ، فقط علينا أن نحدد السؤال.

أتم الشاب كل الإجراءات وكان دوما عند حسن ظنها في كل كبيرة و صغيرة ، أنه ليس من بلدتها ، لا يهم الأمر سيان بالنسبة لها المهم يقاسمها لغتها ودينها ، دخلت غرفتها وكأنها تراها بمنظار آخر ، أطالت الوقوف هذه المرة أمام المرآة تتفقد ملامح وجهها كأنها ترى نفسها لأول مرة تحسسته كمن تتساءل إن كانت ما تزال جميلة وتحمل تلك الجاذبية و الابتسامة الحالمة التي تضيء شفاهها ، هل ما تزال ملامحها الطفولية .. تحدث نفسها وقد غمرتها سعادة حقيقية لقد قلبت صفحة الماضي لتعيش مرحلة جديدة مع زوجها يوسف ، لقد تلونت بألوان السحر والخيال والجمال كانت تعكس ملامحها الداخلية أنها تعيش لحظة بكل سنين العمر، اليوم ينبض قلبها فقد شعرت بأنوثتها ، لقد غيرت حياتها صارت عروسا له ، أعد هو لها بيتا راقيا بوسط المدينة وجهزه بكل الأثاث الرفيع المستورد، واقتنى سيارة فخمة… لكن ما كان يحيرها هو ما نوع العمل الذي يقوم به ليتمكن من العيش في هذا المستوى الراقي، في كل مرة كان يردد أنها الأعمال الحرة.. امتدت حيرتها إلى بقاء إحدى غرف المنزل مقفلة دائما وبإحكام ،فشلت في معرفة سبب ذلك منه، عاشت معه في البيت الكبير وجعلته مملكتها، أغدق عليها بالحب والحنان واسمعها أحلى آيات الغرام واستطابت نفسها عذوبة كلماته ترددها منتشية طوال يومها ولم تر منه سوى ذلك الشخص الذي يخاف ربه ويحترم نفسه ، أنجبت له ثلاثة أطفال ، علمهم الصلاة ثم الصوم ،كانت تخاف عليه مما قد يحمله الليل في مدينتها خاصة وأنه اعتاد العودة من المسجد للمنزل في ساعة متأخرة، دفعها فضولها ذات يوم إلى محادثته في أمر الأشخاص الذين يترددون على المنزل وفي كل مرة ترى وجوها جديدة غير الوجوه الأخرى يجتمعون في تلك الغرفة المغلقة ، لم يكن يعير الأمر أهمية وبمرور الأيام أصبحت هي الأخرى لا تعير الأمر اهتماما مادام يعاملها و أطفالها معاملة لا مثيل لها ، أحبت أعيادها و أفراحها معه ، انشغالاتها صارت أكثر واهتماماتها أكبر، وفي ليلة بينما كان زوجها برفقة أصدقائه في الغرفة الخاصة ، شعرت أن ابنتها لبنى تعاني من إسهال شديد ،توجهت بها إلى الحمام دون أن تشعل المصباح حتى لا تسبب أي إزعاج لزوجها ، وبينما هي كذلك سمعت همهمة غريبة صادرة عن الغرفة حيث زوجها دفعها فضول الزوجة المحبة إلى فتح شباك الحمام فجاءها الصوت أوضح عبر الممر الضيق الذي يفصل الغرفة عن الحمام ، حاولت أن تفهم ما يجري فلم تستطع حتى فك رموز ما يتحدثون به ، كانت لغة غريبة عنها، كتمت الأمر إلى صباح اليوم التالي ، أبلغت أهلها بما سمعته وأخبرتهم بما كان وأكدت لهم أن أمرا غريبا يحدث في بيتها لم تجد له تفسيرا لذلك فهي تخاف على زوجها ونفسها وعلى أولادها ، هون والدها من روعها وأكد لها أن زوجها رجل صالح ولم ير أحد العيب منه أبدا ،ولكن تكرر نفس المشهد وذات الموقف وبنفس الأصوات والهمهمات الغامضة ، قامت هذه المرة بالاتصال بأخيها الأكبر وفي الموعد أخذته إلى مصدر الصوت ، اشرأب خلسة عبر النافذة فصعق لما رآه موقف لم يكن في البال ولا في الحسبان استدار لها وقد أصفر لونه وهرب الدم من عروقه ثم أخبرها بأن زوجها من ديانة يهودية وهو يقيم طقوسه باللغة العبرية رفقة آخرين بهذه الغرفة ، رآهم بلباسهم الخاص ، كادت أن تصرخ وتقع من الصدمة ، أسكتها وأعادها إلى غرفتها وطلب منها الهدوء التام ، خرج مسرعا يبحث عن أقرب مركز للشرطة ، أما نجوى فقبعت في مكانها منكمشة في ذاتها بعمق الحزن الذي اجتاحها، لقد التقت به في زحمة العمر ونسجت أجمل حكاية حب بكل طقوسها وتفاصيلها فتحت له مدن أحلامها فأسكنها معه قصر خيالي سرعان ما انهار على رأسها ، تريد أن تصرخ ، لقد تاه عنها البر، لا عزاء لحالها أنه الجحيم ، زلزال وبركان مدمر يأخذ الحاضر والآتي معه، تشعر أنها تتنفس آخر أنفاسها وترتشف من الدنيا رشفات هواء معدودة مصيرها الفناء وكأنها تتجرع سموم الآخرة ، كيف سينظر الناس إلى أبنائها وعيونهم لا ترحم.. انقلبت الدنيا رأسا على عقب وما عادت ترى أمامها إلا دخان الاحتراق بما أصابها، جسدها صار مجرد أطلال ما أصبح بمقدورها الحراك وكأنها تحت تلال من الأنقاض ، تحطمت الأمنيات و الأحلام والحياة السعيدة بل المزيفة التي أوهمتها إنها ذات يوم ملكت الكون الحياة بالنسبة لها هذه المرة انتهت في لحظة خاطفة بدون مقدمات ولا بدايات ، كسر زوجها عليها وحدتها ، دفعته علامات الانزعاج التي تعلو وجهها إلى السؤال عن السبب وهو يتأمل وجهها جيدا يحاول أن يقرأ ما تخفيه عيونها، لم تقنعه كثيرا إجاباتها التي حملتها أنفاسها المتقطعة الصادرة عن نفس مسكونة بنار الألم ، لم يستوعب أن تكون بعض مضايقات الأطفال أو التعب أو الأحداث التي يمر بها الوطن هي السبب فيما يراه من شرر ينبعث من نظرات عيونها  باتت ليلتها في فراشها إلى جانبه تتقلب والنار تأكلها طولا وعرضا وبدا هو كمن لم يأبه لأمرها كثيرا، وكان الصباح الباكر من اليوم التالي باردا ليس ككل صباح عرفته في حياتها معه، خفتت حرارة المشاعر  تجمدت أحاسيسهما عند نقطة الصفر وتوقف كلاهما عن تبادل تسابيح المحبين الصباحية ، خرج بخطوات أسرع من ذي قبل دون أن يتفوه بكلمة واحدة ومن حينها لم يعد مساءا ثم اختفى تماما.. عن الحي عن الوطن وقبل كل شيء عن حياتها، لم يهنأ والدها حتى سعى إلى تطليقها منه، وما أعاد إليها بعض الطمأنينة تأكيد علماء الدين أن المذهب اليهودي يمنح الأطفال جنسية وديانة الأم وليس الأب . تذكرته يومايخيرها بأي قلب تعيش بين أمرين فنهضت وهي تصيح لست الحبيبة الأميرة ولست بالملكة العاشقة بل أعيش بقلب الأم فقط

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عصـــافير بـــلا أجنحـــة

احتارت، وحيرتها دوامة تجترها الأيام فتهيم في الأعماق كسحابة داكنة سوداء، وأي سحابة هي .. إنها بألف وألف متاهة،وهي الوحيدة التي طوقتها بالأوجاع والآلام الفظيعة، هي الوحيدة التي أنستها من هي وفي أي عالم تعيش، كيف لها أن تنسى من هي والحقيقة هي وهو، هي وهم ، هي أعباء هذا وذاك الإنسان غرابة أن فهمت أن بداية الجراح هي بيد إنسان هذا الزمان دروب من مرارة الدفلى والحنظل ، دروب الأحزان تسير فيها مختارة أو مرغمة وفي النهاية هو القدر يلعب لعبته بكل الأشكال والألوان، كانت الساعة تشير إلى السادسة مساءا عندما غادرت سناء المستشفى متأخرة ، فعملها كممرضة ليس له مواعيد انصراف ثابتة دائما، بالنسبة لها لا تهم المواعيد ولا تهم الدقائق بل والساعات ، المهم عندها تلك  اللحظة التي يجد فيها من يحتاجونها الراحة وأعظم كسب لها راحة ضميرها ، هكذا علمتها الحياة أن كل شيء يهون أمام الأهم ، وكان الأهم يومها تلك الساعة التي رأت فيها سيدة قد خارت قواها من شدة التعب أمام باب المستشفى تحمل بين ذراعيها طفلا في الخامسة من عمره فاقد الوعي، نظرت إلى يديه المتورمتين المثخنتين بالجروح والدماء الحمراء تكسو الزرقة التي طغت يديه الصغيرتين من أثر القيد، والأم تبكي بمرارة المفجوعة ثم تصرخ كمن في قلبها نار موقدة  صراخا بعثره أعنف إحساس في الفضاء فاخترق كل الطرقات الموصدة وشق صداه الصدور وفتح آلاف القبور حزنا لآهاتها ، اقتربت منها وقد تملكت أوصالها رعشة غريبة لم تعهدها من قبل ،لأن الآلام كانت من القلب قريبة ، كان كل شيء مؤلم يجرحها، لكن بكاء هذه الأم كان جرحا ليس مثل كل الجراح ، كان يأسر القلب بإحساس ليس له قياس، كانت ألامها بنغمة الآهات ، اقتربت منها أكثر سألتها عن أمرها ،أجابتها وبكاؤها يغلب كلماتها أن حكايتها كحكايات زمنها حكايات أبطالها متعبون.. مرهقون، لكنهم مرغمون على لعب كل الأدوار،تمرسوا على أيادي جلادين يحسنون دفن المشاعر في كل الأوقات، ثم صرخت طالبة الطبيب فابنها يموت ، وبلهفة غير معهودة حملت سناء الطفل بين ذراعيها وكأنها هي الأم الموعودة وأسرعت به إلى قسم الاستعجالات ، وهناك نطق الطبيب بكلمات أبطلت مفعول كل العقول الطفل ستبتر يداه ، نطقت عينا التي كانت تحتضن الأمل رغم الألم طلبت أن يأخذوا حياتها وينقذوا فلذة كبدها انهارت في الأرض تكابد حسرتها ولهفتها على ابنها الصغير ، هبت عليها رياح الندم على أنها هي من جنت على صغيرها بضعفها وبصمتها، وفي رحلة دائرة الحسرة أسمعتها سناء كلمات جعلتها تستسلم للأمر الواقع ، أن حياة طفلها هي الحقيقة الوحيدة التي يجب أن تتمسك بها، تم الاتصال بالوالد ، وبينما كان الطفل في غرفة العمليات راحت الأم تسرد حكايته المؤلمة بكلمات متقطعة ، كان طفلها زهرة تفتحت بين يديهما لكننا نسينا فطغينا، فكان ألم الطفل بيد من سقى ورعى هذه الزهرة ، أنه أباه ، كان الطفل يلعب ببراءة الأطفال يقفز هنا وهناك ويدور حول أثاث المنزل أثناء قيلولة والده العائد متعبا من العمل وفجأة تعثرت قدماه بالخيط الكهربائي الواصل بالحاسوب فأسقطه أرضا ، انتفض الوالد مفزوعا على صوت الارتطام وقد أفقده العقل الالكتروني صوابه وعقله وراح بسلوكه المعتاد المجرد من مشاعر الأبوة يمارس مفهوم الرجولة عنده باستعمال يديه الحديديتين لأن التربية في نظر من لا عقل له هي الضرب والمهانة والتعذيب ، كان العقاب بأكثر من الجرم ، كبل يدي طفله بكل قوة وأتقن معه كل فنون الضرب والتعذيب أو كما كان يعتبره تهذيبا ، ثم سجنه في غرفته بلا رحمة أو شفقة عليه، حتى تورمت يداه وتعفنت جراحه وبقيت الأم بلا حول ولا قوة، ما كادت تقولها حتى وصل الأب وعلم بما حل بابنه،انهار وبكى بكاء الثكالى وهو يسمع للطبيب يخاطب الأم أن الطفل حي يرزق ولكنه سيعيش مبتور اليدين بقية حياته ثم أكد لها أن هناك إجراءات قانونية ستتخذ تجاه من لم يأخذ من الإنسانية سوى اسمها انحدرت دموع الأب ندما ثم ما لبث أن أجهش بالبكاء كطفل صغير تاه عن والديه، انصرف مسرعا إلى الغرفة حيث يرقد ابنه، جلس بجانبه على طرف السرير يتأمله ينتظر أن يفيق من غيبوبته،استرجع حينها لحظة أول قبلة طبعها على يده بعد ولادته كانت يديه رقيقتينناعمتينورديتين،تذكر كيف كان يدربه على المسكة الصحيحة لأقلام الألوان وكم كانت سعادته وهو يلون العصافير والأزهار، وحين كان يعلمه كيف يرفع كلتا يديه للدعاء ،انتبه إلى وجود زوجته عند باب الغرفة مسندة رأسها عليه ،لم يكن يقوى على الكلام معها ، ساد بينهما صمت كان أبلغ من كل مؤاخذة ،وأوجز كل ما كان، الأم المسكينة أصبح مصابها مصابين وصبرها صبرين، أخيرا استفاق الطفل ووجد وجه أبيه قريبا جدا منه، أصيب بذعر شديد وناداه متعلثما حاول أن يبرر فعلته بأنه لم يكن ينوي أن .. قاطعه والده ومال عليه يحتضنه باكيا هامسا له بأن لا يخاف فالحاسوب والدنيا كلها فداه ، اهتز الطفل من أعماقه وهو يسمع أن والده يسميه ” الغالي”  وأنه يفديه بروحه، أراد الأب أن يطبع على وجنته الرقيقة قبله وما كاد يفعل حتى رفع الطفل ذراعيه بصعوبة نحوه لما رأى دموعه، أراد أن يمسح دموع أبيه ولكنه لم يجد تلك اليدينالصغيرتين بل وجد ضمادتين غليظتين فتأسف لأبيه أنه لم يتمكن من مسح دموعه ورجاه أن يعيد له يديه ووعده بأن لن يلعب ثانية ولن يكسر أي شيء في المنزل ..صرخ الأب بأعلى صوته ورفع يديه للسماء يرجو رحمة الله، لم يعد يتحمل معاناة ابنه فنهض وابتعد عنه ثم جلس على كرسي قريب من النافذة مسندا رأسه للخلف يتأمل ابنه والأم تجفف دموعه بين أحضانها، رمق الطفل أباه ينظر إلى ما وراء النافذة كانت عيناه مثبتتان وسأله.. وسأله، ثم ألح عليه بالسؤال متى يغادرون إلى منزلهم، أنه يكره هذا المكان الذي أخذ منه يديه.. استغربت الأم صمت الأب الحزين ، نادته ولم يجب ،اقتربت منه فإذا هو جثة هامدة ، صرخت صرخة هرع إليها من هولها من كان بالمكان، تحرك الطفل بصعوبة محاولا النزول من السرير مستندا على ساعديه واتجه إلى أبيه يناديه، نطق الصغير عند رجلي أبيه فأخرس أفصح متحدث وألهب المشاعر وأبكى القلوب قبل بكاء العيون بأنه لن يطلب منه بعد الآن أن يعيد إليه يديه وأنه لا يريد من الدنيا سواه  وإذ لم يسمع الأب نداء ابنه فعسى قوله رحمة له في قبره، احتضنت سناء الأم الموجوعة ولسان حالها يدعو بالبقاء ضعفاء بإنسانيتنا ولا العيش أقوياء بوحشيتنا ـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ريتــــــــاج

نظرت “ريتاج”هذه المرة إلى شوارع حيها نظرة بائسة، كانت الرياح الماطرة لا تزال تعصف بكل قوتها منذ صباح ذلك اليوم وهي تبحث عن شيء ينسيها معاناتها حتى لا تأتي دودة التفكيرها تنبش ذاكرتها، ليست لها الشجاعة الكافية وقوة التحمل لتدخل إلى دهاليز أحلامها المظلمة والتي شاء  لها القدر أن تتوقف عند الحلم وإلى الأبد بل ولم يبق لديها أمنيات تنتظر تحقيقها مثل المحكوم عليه بالإعدام ، ريتاج زوجة في عقدها العشرين ، أم لوسام وأمير طفلاها الصغيرانتحبهما وتحب زوجها الذي لم يبخل عليها بعطاء من الحنان موفور والعطف الموصول وحماية بيت بنته معه بكل الحب والصدق والإخلاص، كان كما حلمت به وهي طفلة راشدة ، فارسا محلقا بها بين النجوم ممسكا يديها التي لا تريد أن تفارقه، سابحة في لجج أفكاره، يحتويها بين جناحي رعايته محلقة في المدى، كانت معه ترى الطريق إلى السماء قصيرة وسنين عمرها معه قصيرة، تتحسس دقات قلبه المتسارعة عند أطراف أصبعه وتندهش عندما يتأملها في صمته المفاجيء ، تقترب منه وتقترب اكثر فيوميء لها بعينيه أن تتوقف في غمرة عشقها المجنون به ، يداها الناعمتان ترتجف بين راحتيه لأنها لا تدري من الآن ماذا تقول ،ومن أين تبدأ،إنه الحزن، وهكذا تبدأ النهاية ، ليل كموج البحر أو بحر كالليل الطويل ، طبع قبلة طويلة على يدها فأحست بدفء غامض يسري إلى قلبها الحزين ، كانت روحه هي التي حلقت قبل قليل، غادرته لتستقر بجانب قلبها الصغير، ماذا تقول له وقد أصبح هذا القلب الصغير يحمل عذابا كبيرا،هل تبوح له بعذابها بينما يعذبها صمته والآتي بالنسبة لها وجه بلا ملامح ، تريد أن تعتذر له ولأولادها إنه ليس ذنبها بل ذنب الزمن الذي قسى عليها ، تفكر هي كما لو أنها تنزع الأفكار من رأسها، هل تموت الأحلام كالمدن تموت لأنها لا تمتلك خيار السقوط، ربما هناك مدن لا تسقط لذلك هي تبحث عن مفاهيم أخرى للتشبه بها وللتماهي معها، لعشقها لزوجها ولحبها لأولادها،للأسف أصبحت ترى الكل إلى جانبها أطياف لا أكثر، تلهج بالدعاء وتتضرع إلى الله سبحانه وتنتظر الفرج ،فرج يخفف عذابها ويحي نبتة الأمل في روحها ، إنه مزيج من الرغبة والرهبة، تظل عيناها دامعتين متضرعتين ترقبان استجابة الدعاء ، تنهدت من أعماقها واستغرقت في المعاني ما أجمل أن يكون قلب الإنسان واسعا يحتوي الكل ، كبيرا وصغيرا شريفا أو بسيطا ، إنها هبة رائعة يحبو الله بها عباده، وما أبغض أن ينكفئ الإنسان على نفسه فلا يرى ولا يسمع سوى صدى صوته ولا تهمه أنات الآخرين ، لكنها هي من تسمع أنات آلامها ، لم تشأ يوما أن تخبر زوجها وأولادها وأهلها ، تصورت كيف ستكون الصدمة ولا تدري كيف ولا تدري كيف سيتقبلون الأمر ، لابد أن يشاركها همها قريب ، لم يكن أمامها إلا صديقتها ” رفيدة” هي من تفهمها وتقدر جيدا ظروفها، حملت هاتفها وترجتها أن تأتي إليها لبعض الوقت ، وما هي إلا لحظات حتى وصلت مسرعة مخطوفة الوجه تسألها عن الأمر، بادرتها أن تعدها أولا بأنها ستهتم بأولادها وعائلتها .. وزوجها من بعدها ، تأملتها رفيدة حائرة ، أهي مزحة  كعادتها معها، أكدت ريتاج أن هذه المرةبالذات ليس فيها مزاح وأن الزمن لم يعد زمنها ، ومن يمر مسرعا كالمجنون يلهث ، يركض  فنتقطع أنفاسها وراءه يجرها إلى عوالم لا تعرفها، تشعر أن الأمور تتغير بسرعة والوقت يجري بسرعة، تبحث عنه في ثنايا نفسها وفي حناياها ولا تجد إلا الفراغ، تحاول أن تتمرد على صحراء أحلامها،، تتمرد على حقيقتها المؤلمةوتحاول أن يلد فكرها همسا لأوجاعها، أيام مرتوهي تحاول أن تزرع ورودا في ممرات المعاناة طامعة في ظلال من أمل يحتل مساحتها المتعبة ،أطرقت رفيدة وزادها القلق فضولا لمعرفة ماذا يجري بالضبط ،ذكرتها ريتاج أنه من أيام أخبرتها أنها تعاني من دوار وهبوط في الضغط ، وبعد إجراء  فحوصات عديدة أخبرها الأطباء أنها مصابة بالسرطان وفي مرحلة متقدمة جدا منه ، ولا أمل في العلاج  إذن أيامها معدودات في الحياة ، كانت الصدمة كبيرة على رفيدة فبكت طويلا وطمأنتها بأنها تبقى أختها الوفية ، صديقتها المخلصة التي لم تترق عنها منذ الطفولة، وتعلم أنها تنازلت عن الدراسة من اجل حبها لزوجها وأنها جعلت بيتها جنة تحسدها عليه كل بنات العائلة ، أما هي بالعكس اختارت دراستها لأنها هدفها في الحياة،خطوات صغيرة كانت كافية لتغيير حياتهما ولونت صفحات أيامهما شمس دافئة أشرقت بداخلهما وزادت توهجا ، فلم يفترقا يوما، ابتسمت ريتاج واستدركت لكنه الموت سيفرقهما ، إنه قدرها ولا مفر منه لكن أمنيتها أن تكون رفيدة زوجة لزوجها وأما لطفليها ” امير” المسكين الذي سيفتقد من يهتم به وهو في شهره السادس ، “وسام” التي تحتاج إلى من يراجع معها دروسها، ذرفت ريتاج دموعا ساخنة أبت أن تتوقف وهو ترجوها أن تهتم بهما وبزوجها “عامر” الذي يستحق حبها وحنانها ، صمتت لحظة وأصر صوتها على أن يظل حبيس حنجرتها، تشابكت يديهما بقوة وهما يؤمنان بأت مشيئة الله القدير والتي لا فرار منها  تمنعهما من معانقة الضوء، إنها نهاية الرحلة،حلمها لم يتسع لكل الفرحة التي كانت بقلبها ، إنها نهاية المطاف، مضت بضعة أيام وساءت حالة ريتاجأكثرفنقلت إلى المستشفى وحينها عرفت كل العائلة حقيقة مرضها، وفي كل يوم ترى سريرا يودع مريضة وداعا أبديا، وتبقى هي تتأمل ضياء حديقة المستشفى والأحاديث العابرة ، إنه ضوء في خاتمة قصة الصبر لحكاية صارت تشبه كثيرا شمعة شاحبة على حافة الاحتضار، بعد أيام قليلة ستصبح قصة بدفتر في درج الذاكرة ، إنها سنة الحياة ويأتي الغروب ليمنحها ذلك الإحساس الرهيب بالوحدة والفقدان والانقطاع عن الأحياء، ستلاقي هناك الكثير ممن سبقوها إلى دار الخلود، وفي ليلة كثرت رعودها ذرفت السماء دموعها فارقت ريتاج الحياة وكان لها ما أرادت ، رفيدة أصبحت زوجة لعامر ، عروس بدون عرس وأم وفية لوسام وأمير حيث لا تزال ترى في نظراتهما وابتسامتهما صورة أمهما الأخت والصديقة الوفية .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك