الثلاثاء - الموافق 19 مارس 2024م

قراءة نقدية في الفلسفة الرمزية في مجموعة “وشم هارب من الطين” للكاتبة سميرة عبيد .. بقلم: هايل علي المذابي

إذا كان العنوان هو العتبة الأولى للوصول إلى محتوى أي متن أدبي أو علمي فإن إبداع مؤلف المتن يتجسد منذ الوهلة الأولى والإنطباع الأول الذي يتركه العنوان في نفس المتلقي.

“وشم هارب من الطين” هو عنوان المجموعة القصصية الأولى للأديبة والشاعرة والباحثة القطرية سميرة عبيد والعنوان كما نرى يؤلف جملة خبرية مفيدة ومكتملة لكنه يحمل من الرمزية ما يكفي لوضعه بين سياقين هما الشعر وروحه والسرد وجمالياته.

أكثر مما تفصح عنه تفاصيل القصة التي تحمل ذات العنوان في المجموعة القصصية نجد هذا الوشم هو تعبير عن القيمة الإنسانية الفاضلة التي ما إن يخلو أي عمل فني أو أدبي من تفاصيلها حتى يصبح بلا قيمة مهما بدى المتن مثقلا بزخم السرد أو الشعر أو الفن بأي أشكاله، والقيمة هي ما ينصع الخلود لأي عمل فني أو ادبي وتناولها في أي سياق يمنح هذا الأخير قيمة تشبه المواد الحافظة فلا يبليه كر أو فر الأيام ومهما تعاقبت عليه السنون.

إن التعبير بالقول وشم هارب من الطين بناءً على هذه الفلسفة التي تجعل الوشم معادلا موضوعيا للقيم الإنسانية تجعل من الطين الذي هو رمز لآدميتنا مسكنا للقيم لولا أن ثقل القيم ومسئولية تحملها يجعل من الطين مادة هشة لا تستطيع ان تحتمل ذلك الثقل وتلك المسئولية فماذا يحدث حينها؟

تلجأ الكاتبة في قصتها إلى جعل الحجر ملاذا قادرا على تحمل المسئولية حين يعجز الإنسان ان يحتملها، فيكون الوشم/القيمة آمنا على عدم محوه مهما تعاقبت الفصول من هذا الحجر/الإنسان القوي الذي يستطيع أن يتحمل المسئولية.

أي أن مسئولية تحمل القيم لا تناسب الناس جميعا فهي فقط موجودة لدى بعض البشر من الأسوياء الأقوياء القادرين على حماية ما يعتنقونه من قيم ونبل وأخلاق ومهما بدا حملها ثقيلا إلا أن قوتهم كفيلة بالقدرة على تحمله تماما كقدرة الحجر على الاحتفاظ بالوشم وضعف الطين بالمقابل في تحمل أي وشم.

من هنا فقط نستطيع أن نقرا المجموعة القصصية “وشم هارب من الطين” حيث تضم هذه المجموعة عددا من القصص التي تتناول القيم الإنسانية وفضائل الأخلاق كما نلمس لدى الكاتبة فلسفة خاصة في تناولها ويعبر عنها عنوان المتن ويدخلنا بفهم رمزيته إلى اعماق المجموعة ومحتواها.

حب الوطن وحب وطاعة وبر الوالدين وتفوق الأخلاق على الماديات وفضائل الخير بكل أبعادها وغير ذلك مما نجده في هذا المتن يفصح عما يريد قوله عنوان المجموعة.

كل قصص المجموعة التسعة عشر تتناول القيم بكل رمزيتها وأبعادها بفصيح العبارة تارةً وبفلسفة رمزية تارةً أخرى ومنذ أول قصة بعد الاهداء قطر.. موطن المطر، ثمإلى روح أبي..، ولوحة لأمي..، العازف الأعمى، فضيلة الخير، ياسمين، وشم هارب من الطين، عيد ميلاد بنكهة الفلسفة، إذا الغد لم يأتِ، جيش البنفسج، سجن بلا جدران، موت الكاميليا، حلم قديم، أتحبينني أم تحبين الفلوس؟، بطل منبوذ، تناقض، عشق حداثي، من أحاديث المرايا، الدرس العظيم.

إن المجموعة بما هي حكايات تعبر عن حالة فردية تنطق لتعيد تجديد هويتها، ولتستبصرها عميقا، ولتمدها بمعرفة تبدو – وهماً – معروفة من قبل لكنها تغدو معروفة- حقاً- عبر التشفير الرمزي؛ أي تحويلها إلى أشكال رمزية كما يرى السيميائي كاسيرر. وبذلك تنتقل من هلام مفكك يتمدد في الوعي واللاوعي إلى صور محددة في الإدراك المتعيّن باللغة.

تمارس الذوات المفردة حكاياتها لتعلن عن وجودها ( أنا أحكي إذن أنا موجود ) ، فوجودها بدون الحكي يعني الوجود غير المبين. اللغة داخل خطاب السرد هي من يهبنا صورةً بنيوية، و إلا فنحن حكايات مشتتة ؛ حكايات لا هوية لها ، ولا تأخذ هويتها إلا بالسرد. لماذا تموت حكايات عظيمة وتفقد وجودها ؟ لأنها ببساطة لا تحكى.

لقد كانت العرب قديماً، تسمي الشيخ الكبير بالشيخ الكنتي ( مِن كنتُ ) لأنه يحكي قصصه، يحكي كثيرا، يحكي أكثر من الذي لا يجد ما يحكي لأنه لا يزال في دوامة الأحداث. و يحكي أكثر ليعيد بناء هوية قوامها صنع الحدث، لكنها اليوم بعيدة عن تلك الفاعلية، هي، بعبارة محددة، مهددة بالفناء و تريد البقاء و ( الوجود).

وثمة تقليد تلتزمه القبائل في أفريقيا، يسمى تقليد ” أكين” وسيرة القبيلة بل ووجودها مرهون بشخصية “أكين” وهذا التقليد “تقليد أكين” عليه أن يحكي دائماً تاريخ القبيلة وأمجادها وسيرتها منذ البداية. وعندما يشعر “أكين” هذه الشخصية المختارة التي تحكي بكبره وقرب فنائه عليه أن يورث كل ما كان يحكيه عن القبيلة وتاريخها وحاضرها و أمجادها لـ “أكين ” آخر.

هكذا يرتبط الحكي بالجماعة كما يرتبط بالفرد. أيّ جماعة تحكي لتشكل هويتها، تحكي لتكون، وفي عوالم أقطاب الدراسات الثقافية فإن الحكي هو الأمةThe Narration Is The Nation، و كل حكي يشمل ” مجموعة قصص وصور ومشاهد وسيناريوهات وحوادث تاريخية ورموز وطقوس قومية ترمز إلى أو تمثل التجارب المشتركة والمآسي والانتصارات والويلات التي تضفي على الأمة معنى. و إذا كان الأمر كذلك ، فالأمة تحكي لتعيد تشكيل ذاتها ؛ لترسم معالم هويتها ؛ لماذا يحكي السود رحلة العذاب والعبودية بين أفريقيا والعالم الجديد؟ ولماذا يحكي اليهود الشتات؟ ولماذا يحكي العرب سيرة أجدادهم في هذا الزمن بالذات؟

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك