الخميس - الموافق 28 مارس 2024م

علاء جمال الجرزاوي يكتب «الثانوية العامة: وهمٌ كبير أم صناعةٌ مغلوطة»

مرت سنونٌ وانتهت المرحلة الإعدادية, وولجنا مرحلة تعليمية جديدة : المرحلة الثانوية, وكان ذلك إبان الألفية الثالثة في إحدى قرى صعيد مصر, على بساط أرضها الواسعة علت أسوار مدرسة ثانوية وحيدة, يأتي إليها طلابٌ من كل حدبٍ وصوبٍ؛ قرابة العشر قرى يدرسون بها. في أول يومٍ من أيام دراستنا نظرتُ إلى قائمة توزيع الفصول تلك المُدَون بها اسمي, مكتوبٌ أعلاها : “1/1 فصل الفائقين”. كان هذا الفصل يجمع –بكل صدقٍ- صفوة الطلاب علمًا وخلقًا, وكان جديرًا بالذكرِ- بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ وبما تشتمل عليه من مبانٍ فصلًا متفوقًا؛ فلم يكن عار الغش قد عرف طريقه إلينا؛ وبالتالي كان مجموع درجاتنا في المرحلة الإعدادية انعكاسًا لمستوانا الحقيقي. كان شرط اللحاق بهذا الفصل المتميز الحصول على أعلى الدرجات, المعلمون المهرة والأكثر كفاءةً وخبرةً يقومون بالتدريس لهذا الفصل دون سواه؛ وهذه كانت أول صدماتنا مع العدالة التعليمية وسقوط أول لبناتها, أدركنا الظلم الواقع على بقية الفصول رغمَ أجسادنا الصغيرة وأعمارنا القليلة وخبراتنا المحدودة, وسياساتهم المقصودة.
انتقلنا للصف التالي وبدأ التخصص، وبطبيعة الحال اختار الفصل الشعبة العلمية عدا بضعة طلاب لا يتعدون أصابع اليد الواحدة اختاروا الشعبة الأدبية ، وأنا كنتُ من الفئة الأخيرة.
كان أحد طلاب الشعبة العلمية الرياضية ذا مستوى عالٍ من التحصيل الدراسي، ويتمتع بذكاءٍ رياضيٍّ منطقيٍّ لا غضاضة فيه، ومضى في طريقه واثق الخطى نحو تحقيق حلمه، ودخول كليته المثلى: الهندسة، حلمٌ يراوده منذ نعومة أظفاره، كان يحب أن نناديه بالباشمهندس؛ إلا أننا اصطدمنا بواقعٍ مزرٍ أثناء أدائنا لامتحان الثانوية العامة؛ كانت نماذج الإجابة تدخل إلى اللجنة وتمر على كل الطلاب، وأصواتًا عاليةً تصدعُ بالأجوبة من على سور المدرسة باستخدام مكبرات الصوت، بل كان أحد الشباب المتحمس يصعد إلى أعالي أشجار النخيل المنتشرة حول المدرسة متسلقًا حتى يصل متوازيًا مع الجالسين داخل أروقة اللجنة يراهم ويرونه، ولا يفصل بينهم سوى النافذة، كأنه يمتحن معهم، واهمًا نفسه بأنه يقوم بعملٍ بطوليِّ منقطع النظير. لم تكن التكنولوجيا حينئذٍ قد شقت ظهرَ العوارِ فينا بنصلِ مشرطٍ مصقولٍ بقبحٍ.

من المسئول عن هذا المشهد وما ألت إليه أحوالنا؟ ولماذا؟ وإلى من المشتكى؟ أسئلة عديدة كانت تخامرُ أذهاننا. كانت الإجابات كثيرة، فتارة يُقال أن الأهالي يهددون المراقبين الذين لا حول لهم ولا قوة في ظل وزارة هشة لا تضمن لهم الحماية الطبيعية أثناء تأدية الواجب، وهم بدورهم -تحت تهديد السلاح- لا يجدون بُدًا من ترك الحابل بالنابل درءًا للخوف، ثم يأتي الليل الغابر فتُقام لهم الولائم تحت مسمى«الأصول وإكرام الضيف»، أو ربما جزاءً وفاقًا. وقيل أيضًا أن من بين الممتحنين أحد أبناء مسئول كبير في إحدى الهيئات، لم أتذكر بالضبط هل كانت تنفيذية أم تشريعية أم قضائية، وقيل أيضًا أنه ابن رجل من رجال المال والأعمال. لقد أدركنا الدرس الثاني أن الحقائق تتوه أحيانًا في ظل إعلامٍ براجماتيٍّ ينهال علينا بالأكاذيب كالسيل الهادر.
كثر الكلام واللغط، وتناسيتُ أغلب تلك المشاهد الصادمة، ولكن ظل مشهدٌ وحيدٌ محفورٌ بذاكرتي من كل هذه الأحداث الجسام، هنالك في الركن البعيد الهادئ، ينكبُّ طالبٌ على ورقة أجوبته، رافضًا الخوض في هذه المهزلة الكبرى، صائمًا عن الغش، ممتنعًا عن ابتلاع أقراصه خشية آثاره الجانبية المدمرة لأركان المجتمع، فيخرج لنا طبيبًا يتاجر في الأعضاء البشرية، ومهندسًا يكون سببًا في انهيار عقارٍ على رأس ساكنيه، ومحاسبين ومحامين وضباطًا ومعلمين فاسدين. لقد كان قلمه عفيفًا، وكراسه نظيفًا. نعم؛ الامتحانات صعبة وتعجيزية وأمرها جلل يشبه قتالًا مع جبل، لكنه لم يستغل الموقف؛ بل حافظ على المثل والقيم، وأبى أن يدخل الهندسة زورًا وحرامًا وبهتانًا. نعم؛ كانت أمامه فرصة مواتية جاءته على طبقٍ من ذهب للغش والحصول على أعلى الدرجات وتحقيق حلمه ورغبته إلا أنه بثباتٍ انفعاليٍّ متفرد استطاع في اختبارٍ حقيقيٍّ أن يفرض فلسفته وتربيته وشخصيته رُغمَّ صغر سنه، وقلةِ خبرته في الحياة إلا أنني شعرتُ بأن عمره ألف عامٍ من الرجولة والثبات على المبدأ، وحينها تذكرت مقولة توماس جيفرسون «سر مع التيار فيما يخص المظاهر ، أما فيما يتعلق بالمبادئ فقف مكانك مثل الصخرة».
ها هي النتيجة حلت. لم تأتِ الرياح بما تشتهي السفن. لم يرقَ مجموعه -الذي هو ثمرة اجتهاده قدر المستطاع في ظل ضوضاء وفوضى هدامة لم تسمح للممتحن بالتركيز، والحفاظ على صفاء الذهن، واستدعاء المعلومات والمعارف والخبرات من الذاكرة طويلة المدى- للالتحاق بكلية الهندسة، ومما زاد الطين بلة، وعمَّقَ الهوة، وأذهب من العين الكرى، وزاد في القلب الجوى؛ أن الأقدار ساقته إلى كلية الخدمة الاجتماعية، التي هي بدورها أدنى الكليات في نظرة مجتمعٍ بائسٍ، وثقافة مجتمعية هدامة؛ فمن لا يدخل الهندسة أو الطب محكومٌ عليه بالفشل في بيئة القهر والحرمان، فلا مرفأ له أو شُطْآن؛ لكنه لم يغرق كما غرق أصحاب الإرادة الضعيفة، والقوى المكسورة الهشة؛ بل خلق لنفسه طوق النجاة، واستجمع بالعلم قواه، وحارب أحزانه بأحلامه، واغتال بالصبر أوهامه، وأصر إصرارًا عجيبًا على التميز في كليته النظرية، ومما ساعده على اجتياز الاختبار الصعب، والتغلب على اليأس بلا ريب: أسرته المدركة أن النجاح والتميز في الحياة لن يحددهما مكتب تنسيق، أو سياسات تربوية غير مدروسة، ومعاييرٌ غير مضبوطة، وإنما يحددهما قدرتنا على العطاء بعد السلب، وأن مجموعنا مهما قل ليس عيب، فتقبلوا الأمر بصدرٍ رَحْبٍ، وظهرٍ صلبٍ، وإيمانٍ بقضاء الله وحسنِ تدبيره، وعظمةِ تقديره.

إن ردود الأفعال المعتدلة، والرضا لهما الوقود الذي أمده بالطاقة الإيجابية لمتابعة السير والتقدم في ساحات العلم. بدأ حلمٌ آخر يراوده، أراد أن يصبح أستاذًا بالجامعة، وقد كان؛ فأصبح الذين يلومونه بالأمس -مرددين: كيف وصل به الأمر بعد مشقةِ الشعبة العلمية أن يلتحق بكلية هي طبقًا لمكتب تنسيقنا ونظرة مجتمعنا أقل الكليات؟!- يتمنون مثلما له اليوم ويقولون: يا ليت لنا ما للدكتور عصام من علمٍ ومكانة.
قصة حقيقية بطلها الدكتور عصام بدري: المدرس بكلية الخدمة الاجتماعية، قسم تنظيم مجتمع.
الآن هو ليس مهندسًا مدنيًا أو بتروليًا أو ميكانيكيًا؛ بل مهندسًا مجتمعيًا وبحثيًا يساهم في حل المشكلات المجتمعية التي تُوَرِقُنا، دأبه في ذلك كدأب العباقرة، ويفندها كصائغٍ يستخرج قطع الألماس من بين صخور الفحم، وقد تم تكريمه في عيد العلم من قبل الأستاذ الدكتور خالد عبدالغفار وزير التعليم العالي ولفيفٍ من العلماء، وذلك في إطار فوزه ضمن أفضل ثلاثة بحوث لمعالجة إحدى القضايا المجتمعية الشائكة.
وختامًا، الثانوية العامة عامٌ من العمر ليس أكثر، ولن يحدد ما يمكن أن نكون عليه في المستقبل، فاصنع شخصيتك بنفسك؛ لأن صناعة الإنسان وتربيتهُ لا تتعلق بتخصصٍ أو تقدير، وإنما تتعلق بما نمتلك من إرادة للنجاح واكتساب المهارات اللازمة لذلك في ظل منظومةٍ من القيم النبيلة والمعايير العادلة. فلتدرك أن الحرب الطاحنة الدائرة بين جنبات نفسك بسبب الإخفاق لن تُنهيها حرب مثلها؛ وإنما ينتصر عليها السلام والطمأنينة المنبعثة من الثقة بالذات، ولتفهم أن الظلمات التي احتلتك جراء الإحباط واليأس لن تحررها ظلمات مثلها؛ إنما تحررها مشكاة الأمل وضياء الإصرار على النجاح مهما كانت المعوقات. واعلم أن الله ما منع منك إلا ليمنحك، يقول الشيخ الشعراوي في هذا السياق «عندما لا تنجح في أمرٍ ما، فاعلم أن الله -سبحانه وتعالى- يعلم أن هذا خيرًا لك؛ إما لأنك غير مستعدٍ له، أو لأنك لا تقدر على تحمله الآن، أو لأن هناك قادم أفضل لك. فارضَ بما كتبه الله لك، وابتسم ولا تعجز».

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك