الخميس - الموافق 18 أبريل 2024م

طريق الموتى .. بقلم :- عبد الرازق أحمد الشاعر

Spread the love

الخروج على جلباب الأب والتجرد منه، والتمرد على النواميس الرب وكتبه، وإعلان الحربعلى الرسل والتابعين ليست شيئا جديدا البتة، لكنها أزمة فكرية يمر بها كل من يطرق بابالتنوير. المزعج في الأمر أنها تحولت من حالة فردية غاية في الندرة إلى ظاهرة تستحقالدراسة، لا سيما بعدما أصبح التمرد على أي نص وإن كان مقدسا طريقا نحو الشهرة والمالتغدقه جهات مشبوهة ومنظمات غير وطنية.  

كان التمرد في القديم وسيلة لنقد الذات وتطوير أنماط التفكير، والارتقاء بالفكر المجتمعي من أجلإحداث طفرة في المحيط. أما اليوم، وبعد أن تربع على عرش المال والإعلام حفنة من الجهلةوالمفسدين، صار التمرد سلعة رخيصة يستدر بها الإعلاميون التافهون متابعة الدهماء الذين لايجيدون فعل شيء إلا الحملقة في الشاشات ومط الشفاة وفغر الأفواه.

تحتاج مجتمعاتنا العربية أشد ما يكون الاحتياج إلى رجال يدركون مكامن الخلل في العقليةالعربية ويعملون على إصلاحها من أجل خلق جيل واع يستطيع مواجهة فتن الداخل ومؤامراتالخارج. جيل لا يحصر فكره في الهيئة والجلباب وفصاحة الخطاب قدر ما يهتم بالفكرةوالمسار.

في روايته “طريق الموتي” يقدم لنا “شنوا آشيب” بطلا من ورق، يفسد من حيث أراد الإصلاح،ويهدم كل المعابد في طريقه نحو التنوير. فبعد ترقيته إلى مدير مدرسة ثانوية، وإطلاق يده فيإصلاح حالها، يقرر “مايكل أوبي” إحداث طفرة نوعية في طرق التدريس ووسائله. ويقررالانتقال برفقة زوجته الشابة إلى قرية “ندومين”. ليس المطلوب مني هنا، ولا منك قطع عزيزيالقارئ، البحث عن موقع هذه القرية على “جوجل إيرث” أو “ستريت فيو”، فهي قرية لا تختلفكثيرا عن كثير من قرانا التي فر متعلموها ونسيتها الحكومات ردحا من الزمن.

تستغل نانسي مهارتها في زراعة الزهور لتساعد زوجها المتحمس في تحويل المدرسة التي نسيهاالتاريخ إلى مدرسة عصرية على أحدث الطرز الأوروبية لتقوم بدورها غير المألوف في نشرالثقافة والعلم في ربوع قرية تسودها الخرافة وتهيمن عليها أرواح الموتى والجن والعفاريت.ويصطدم الرجل رويدا بأهل القرية الذين يؤمنون بالتاريخ أكثر من عشقهم للجغرافيا، ويثقونبالموتى أكثر من ثقتهم بأبنائهم ونسائهم.

وذات صباح، يجلس مايكل وسط حديقة المدرسة ليتابع آخر التحديثات التي تمتعت بها مملكتهالصغيرة في عهده الميمون، وفجأة تمر أمام عينيه امرأة شمطاء، تقطع ساحة المدرسة منالمنتصف دون أن تلقي بالا له أو لرفاقه. يقف الرجل مشدوها ليسأل عن سبب مرور العجوز منهذا المكان، فيخبرونه أنه طريق مقدس عند أهل القرية، لأنه يربط بين الخلف (المعبد) والسلف(المقبرة)، ويمثل قيمة دينية غير هينة عندهم.

يستشيط “أوبي” غضبا، ويقرر قطع طريق الموتى بأسلاك شائكة ليفصل المواطنين القادمين منأقصى تخوم الجهالة وجذور ضلالهم. في البداية، يلجأ أهل القرية إلى القس، فيذهب الرجل بدورهللقاء “مايكل” كي يثنيه عن خطته “البلهاء”، لكن مايكل الذي تأخذه العزة بالإثم، يرفضالإنصات إلى الرجل، بل ويتطاول على زيه الأبيض ولحيته الكثة. ويخرج القديس غاضباليضرم نار الغضب في قلوب قوم أصبحوا يعتبرون قطع طريق الموتى قضية حياة.

يمر الناس أفواجا من ساحة المدرسة فيدمرون بأقدامهم المشققة أسيجتها التي دأبت “نانسي” علىرعايتها، ويقومون بهدم سور يفصل بينهم وبين ما يريدون، اتقاء لسلك مايكل الشائك. ويقف”أوبي” مشدوها وقد أسقط في يده، لا يدري ما يفعل. ويأتي أحد المتابعين ليرى حجم الدمار الذيحاق بالمدرسة، ويفتش عن سبب انهيار جدار الثقة بين أهل القرية البسطاء وبين من جاءلتنويرهم، ويقرر في النهاية فصل “أوبي” من الخدمة، لأنه لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.وتنتهي القصة بإزالة السلك الشائك وعودة العفاريت إلى أحاديث الناس وأسمارهم.

هي نفس قصة يحيى حقي “قنديل أم هاشم”، والتي سافر بطلها (إسماعيل) إلى ألمانيا قبل الحربالعالمية الثانية، وعاد إلى بسطاء قومه مرتديا القبعة وروح التعالي على خلق الله. ليتحول الذيعاد من سبإ بغير نبإ ولا حجة إلى عدو لأهل بلده بعد أن تجرأ على كسر قنديل أم هاشم الذيكانوا يضعون زيته في عيونهم بغرض التبرك والعلاج بعد أن تسبب في فقدان “فاطمة” حبيبةقلبه نور بصرها، ناعتا الناس بالجهل والتخلف والبداوة. وهنا يحدث الانفصام التام بين طبيبالعيون الذي أراد أن يصحح أبصار قومه، وبين من جاء لنجدتهم من إرث التخلف والحمق. وفيالنهاية يضطر “إسماعيل” راغما إلى احترام فكر أبناء قومه وعدم التجاوز فيما يتعلق بمقدساتهمحتى وإن بدت له سطحية وتافهة.

في رأيي أن يحيى حقي فتحا بابا في نهاية النفق، بينما اكتفى “شنوا” بإلقاء حجر ضخم في محيطالتخلف الراكد في محيطه الواسع. وقد أجاد الرجلان في نقد وقائع مزرية لمجتمعات لم تفرق بينالخرافة والدين، وانتصر كلاهما للفكر المعتدل الذي يسعى إلى التجديد مع مراعاة مقتضىالحال.

لكن الذين يخرجون علينا عبر شاشات الفتنة المتربصة اليوم، فيهدمون من العقائد كل الثوابتدول أثارة من فكر أو دليل من نقل، بحجة أنهم لا يريدون إلا الإصلاح ما استطاعوا. وللأسف لايجد هؤلاء رجالا بقيمة “شنوا” أو بقامة “حقي” ليصلحوا ما أراق الموتورون من زيت مقدسوما أغلقوا من طرق للموتى.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك