الثلاثاء - الموافق 19 مارس 2024م

طاووس الملائكة The Peacock Of Angels بقلم د.طارق رضوان

 
 
ماذا لو أراد الشيطان التوبة؟ حيث يذهب الشيطان إلى بابا الفاتيكان، وحاخام اليهود ولشيخ الأزهر، رغبة منه في الابتعاد عن الشر، مرددا “إني أتوق إلى طعم الخير.. لا تحرموني مذاق الخير لحظة” (الشهيــد لتوفيق الحكيم).
“يوم عرف الإنسان الشيطان كانت فاتحة خير..” (إبليس للعقاد)
ظل موضوع الشيطان مصدرا مهما ومعينًا لا ينضب لإبداع وإلهام وخيال العديد من الشعراء والفلاسفة والفنانين والمفكرين والأدباء وكتاب المسرح لا في الأدب العربي (قديمه وحديثه) فحسب، وإنما في الموروث الشعبي والتراث الأدبي الإنساني على مر العصور. وترى الناقدة ماجدة خير الله أن تجسيد الشيطان يفترض أن يكون شخص ظريف وناعم لأن لو شكله مخيف من البداية سينفر الناس منه وستفشل خطته، بينما يريد هو الاقتراب منهم ليأخذهم لعالمه، مثل النصابين والأشرار”.
إن مسألة الجبر والاختيار أو قضايا القضاء والقدر من أصعب المسائل الدينية، ومن أعقد المشاكل الفلسفية التى واجهت الفكر البشرى على مدار تاريخه الطويل، إن لم تكن أصعبها وأعقدها على الإطلاق، ويمكننا أن نجد فى مجال الفكر الإسلامى أكثر من تصريح يثبت هذه الصعوبة منها :ما يقرره ابن سينا: من أن القدر سر الله .كما يصرح ابن رشد بأن: أدلة العقل والنقل حيال مشكلة القضاء والقدر متناقضة.
وتتلخص أفكار الكاتب فى مسرحية “مأساة ابليس” فى الآتى: أن قصة إبليس فى الآيات القرآنية ـ كما يزعم ـ تحمل فى طياتها تناقضًا بين المشيئة الإلهية والأمر الإلهى، ويبرز إبليس كبطل مأساوى يقع شهيد هذا التناقض، و يضحِّى بنفسه عاصيًا الأمر ليثبت المشيئة، و قد عرض الأستاذ توفيق الحكيم، فكرة قريبة من ذلك فى قصة له بعنوان”الشهيد” .ويذكر الشهرستانى فى كتابه الشهير “المِلل والنِحل” المناظرة بين ابليس والملائكة على النحو التالى:
يقول إبليس كما نُقِل عنه:
إنى سلمت أن البارى تعالى إلهى، وإله الخلق عالم قادر، لا يُسأل عن قدرته و مشيئته، وأنه مهما أراد شيئًا قال له: “كن فيكون”، وهو حكيم إلا أنه يتوجه على مساق حكمته أسئلة.قالت الملائكة: ما هى، وكم هى؟ فقال إبليس: سبعة.
الأول منها: أنّه قد علِمَ قبل خلقى أىَّ شىءٍ يصدر عنّى، ويحصُل منّى، فلم خلقنى أوّلًا؟، وما الحكمة فى خلقه إيَّاىَّ؟.
والثانى: إذ خلقنى على مقتضى إرادته ومشيئته فلم كلّفنى بمعرفته وطاعته؟، وما الحكمة فى التكليف بعد أن لا ينتفع بطاعة ولا يتضرّرْ بمعصية؟.
والثالث: إذ خلقنى وكلّفنى فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة، فعرفت وأطعت، فلم كلّفنى بطاعة آدم والسجود له؟، وما الحكمة فى هذا التكليف على الخصوص بعد أن لا يزيد ذلك فى معرفتى وطاعتي إيّاه؟.
والرابع: إذ خلقنى وكلّفنى على الإطلاق؟، وكلفنى بهذا التكليف على الخصوص، فإذا لم أسجد فلم لعننى وأخرجنى من الجنّة؟، وما الحكمة فى ذلك بعد إذ لم أرتكب قبيحًا إلاّ قولى: “لا أسجد إلّا لك؟”.
والخامس: إذ خلقنى وكلّفنى مطلقًا وخصوصًا فلم أطع فلعننى وطردنى، فلم تركنى إلى آدم حتى دخلت الجنّة ثانياً، وغررته بوسوستى، فأكل من الشجرة المنهىِّ عنها وأخرجه من الجنة معى؟، وما الحكمة فى ذلك؟، بعد أن لو منعنى من دخول الجنّة لاستراح منى آدم وبقى خالدًا فيها.
والسادس: إذ خلقنى وكلّفنى عمومًا وخصوصًا، ولعننى ثمّ طرقنى إلى الجنّة، وكانت الخصومة بينى وبين آدم، فلم سلّطنى على أولاده حتى أراهم من حيث لا يروننى؟، وتؤثّر فيهم وسوستى، ولا يؤثّر فىَّ حولهم ولا قوّتهم و قدرتهم واستطاعتهم؟، وما الحكمة فى ذلك؟ بعد أن لو خلقهم على الفطرة دون من يجْتَالَهُمْ عنها فيعيشوا طاهرين سامعين مطيعين كان أحرى بهم وأليق، ما الحكمة؟.
والسابع: سلّمت هذا كلّه : خلقنى وكلّفنى مطلقًا ومقيّدًا، وإذ لم أطع لعننى وطردنى، وإذا أردت دخول الجنّة مكّننى وطرقنى، وإذ عملت عملى أخرجنى ثمّ سلّطنى على بنى آدم، فلم إذ استمهلته أمهلنى، فقلت : “أَنْظِرْنِى إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ” وما الحكمة فى ذلك؟ بعد إذ لو أهلكنى فى الحال استراح آدم والخلق منّى، وما بقى شرّ ما فى العالم، أليس بقاء العالم على نظام الخير خيرًا من امتزاجه بالشرّ؟، ثم قال إبليس: فهذه حجّتى على ما ادّعيته من كلّ مسألة، انتهى
أن هذه الأسئلة الـ7 المنسوبة لإبليس، وما نتج عنها من أفكار سواء فى المجال الفلسفى أو فى المجال الأدبى، تتعرض لأفكار دينية راسخة فى الأديان السماوية، وقد اتخذت ذريعة أساسية للإلحاد، فإن الموضوع يتجاوز دوائر الأدب أو الفكر المجرد، ليندرج فى اهتمامات المثقفين المهتمين بالأديان والمؤمنين بها.
يقول محمد متولى الشعراوى: ان النص القرأنى (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) فيه تأكيد بأن إبليس ليس من الملائكة ولكنه من الجن. وهناك فرق بين الجن والملائكة.فالملائكة لا يستطيعون المعصية. لكن الجن كالانسان له اختيار، يستطيع أن يطيع أو أن يعصى.ولذلك كان إبليس أعلى منزلة من الملك وكان يسمى بطاووس الملائكة. وكان يزهو فى حضور الملائكة لأنه ألزم نفسه بمنهج الله تعالى. وسبب زهوه أنه صالح أن يطيع أو أن يعصى ولكنه تميز بالطاعة. وهذا الغرور هو الذى أوقع إبليس فى المعصية.فكان أحرى به وأولى أن يتبع فطرة الملائكة الذين لا يعصون الله ويسجد لأدم كما فعلوا.
ومن أهم الكتب التي ذكرت وصورت الشيطان كتاب (التوابع والزوابع) لابن الشهيد الأندلسي، و(رسالة الغفران) للمعري، وكتاب (ألف ليلة وليلة) الخالد. أما على صعيد الأدب العربي المعاصر نذكر: قصيدة العقاد (ترجمة شيطان) وكتابه الممتع (إبليس)، ونجيب محفوظ في رواية (ليالي ألف ليلة وليلة) ومسرحية (الشيطان يعظ) عام 1979 والتي نشرت ضمن مجموعة قصصية له بهذا العنوان، وهذه المسرحية مستوحاة من قصة (مدينة النحاس) في كتاب (ألف ليلة وليلة).
ونذكر أيضًا مسرحية الدكتور مصطفى محمود (الشيطان في بيتنا) عام 1972. أما في مجال الآداب الأجنبية فلا يمكن للمرء تجاوز الشاعر الألماني العظيم (جوثيه) (1749 – 1832) في ملحمته الشعرية الخالدة (فاوست)، وبودلير في ديوان (أزهار الشر)، وبرناردشو في مسرحية (تلميذ الشيطان)، والأمريكي (آرثر ميللر) في مسرحية (البودقة)، وملتون في ملحمة (الفردوس المفقود) و(دانتي) الإيطالي في ملحمة (الكوميديا الإلهية) والقصصي المجري البارع(كارجيال) المتوفى سنة 1911 في قصته القصيرة (الاختراع الأعظم).
وفي مجال الفكر السياسي، كان للشيطان نصيب وافر، وفي كتاب (الأمير) للإيطالي (مكيافيللي) 1467 – 1527 نقرأ – تلميحًا لا تصريحًا – عن (الشر الشرعي) إذا صح التعبير في عبارته الشهيرة البليغة “ليس للأنبياء العزل مكان في غاية السياسة”، وفي هذا المعنى قال (ونستون تشرشل) عند تحالفه مع (ستالين) أثناء الحرب العالمية الثانية “في سبيل مصلحة بلادي أتحالف مع الشيطان”.
ومما صدر عن المكتبات الأجنبية من كتب سياسية حول هذا الشأن كتاب (لعبة الشيطان) سنة 2005 تأليف (روبرت درايفوس)، وقد أضاف (درايفوس) في كتابه هذا معاني أخرى للشيطان، فقد أضاف: “شيطان كبرياء الكبار من القوى العظمى أو ما يسمى بالتعبير الإنجليزي (غطرسة القوة)
وشيطان التعصب الديني، وشيطان الاستعمار والاستبداد والاستعباد، ومثال ذلك توظيف الولايات المتحدة والقوى الغربية للدين عامة، والإسلام خاصة ضد الاتحاد السوفيتي في حقب الحرب الباردة كواجهة مضيئة لامعة لإخفاء بضاعة رديئة خادعة.
وتثبت مسرحية “أوديب ملكًا” لسوفوكليس مواجهة الإرادة الإنسانية للأمرين المتعارضين ، حتى أضحى نص هذه المسرحية مجالا يستعرض فيه كبار الأدباء عقيدتهم فى القضاء والقدر، والوحى، والنبوءة، وحرية الإرادة، والحكم، والمحاكمة، والبصر، والعمى.
اهتم الأدباء بكتابة حكايات بطلها الشيطان مجسدا بعيدا عن الرمزية في عدد كبير من الروايات والقصص القصيرة، ومن بين الذين أفردوا مساحات كبيرة للكتابة عن الشيطان، الأديب توفيق الحكيم، فمجموعته القصصية “أرني الله” ضمت 3 قصص بطلها الشيطان، هي “الشهيد” وفيها يتحدث عن ماذا لو أراد الشيطان التوبة، حيث يذهب الشيطان إلى بابا الفاتيكان، وحاخام اليهود ولشيخ الأزهر، رغبة منه في الابتعاد عن الشر، مرددا “إني أتوق إلى طعم الخير.. لا تحرموني مذاق الخير لحظة”، لكن تُقابل محاولاته بالدهشة ثم الرفض، حتى أنه يصعد للسماء ويقابل “جبريل” الذى يؤكد له أن وجوده ضروري ليصبح للخير معنى، فيمتثل لأمره معتبرا نفسه “شهيد”.
أما القصة الثانية فترك فيها الحكيم العنان لخياله في “وكانت الدنيا”، في بدايتها يؤكد أن قصة نشأة الدنيا معروفة إذ جاءت في الكتب السماوية ولا سبيل إلى الشك فيها، موضحا أن “خيال الروائي يجنح أحيانا لاختلاق صور أخرى للحادث الواحد”، ويحكي القصة من وجهة نظر خياله، وبطلها الأساسي “عزازيل” أو “إبليس”.
بينما حملت الحكاية الثالثة اسم “امرأة غلبت الشيطان”، وهي الحكاية التي تم تحويلها لفيلم تحت عنوان “المرأة التي غلبت الشيطان”، وتحكي عن امرأة دميمة تعيش خريف العمر يعقد معها الشيطان صفقة أن تسلمه روحها ليذهب بها إلى جهنم، مقابل أن يمنحها الشباب والجمال ومتع الحياة خلال 10 سنوات، ويحررا صك بدمها، لكنها وقبل انتهاء المدة تزهد الدنيا ومتعها، وتطلب منه أن يذيقها متعة الروح في الوقت المتبقي من الـ10 سنوات، فتغرق في العبادة والتأمل وعندما يأتي أجلها يذهب الشيطان ليأخذ روحها معه، فتمنعه الملائكة وتأخذ روحها إلى الجنة.
واستعان صناع السينما والدراما التليفزيونية باسم الشيطان في عدد كبير من عناوين الأفلام: مثل “الشياطين في اجازة”، “الشيطانة التي أحبتني”، “الشيطان امرأة”، “أصدقاء الشيطان”، “الشيطان يعظ”، “وثالثهم الشيطان”، “ابن الشيطان”، “حدائق الشيطان”، و”أفراح إبليس”.،” سفير جهنم”،” موعد مع إبليس“،” المرأة التي غلبت الشيطان“،”
“يوم عرف الإنسان الشيطان كانت فاتحة خير..”
وهي كلمة رائقة معجبة تروع المسامع، وتستحق في بعض الأذواق أن تقال، ولكنها من قبيل الحقائق الرياضية التي تثبت بكل برهان وتقوم الشواهد عليها في كل مكان.” إلى أن تقررت المقاييس الإلهية في الأخلاق والأعمال، وتقررت حينئذ المقاييس الشيطانية، وحددت معالم لشخصية الشر (شخصية الشيطان) عندها صار للأخلاق ميزانٌ يكون معيارًا للتمييز
هكذا كانت العقائد البدائية كما ذكرها العقاد في كتابه ” إبليس “، غياب تام لاصطلاح الخير والشر. ويختم كتابه بالحديث عن علاقة الشيطان بالفنون وبالشِّعر خاصة، كما يعرض صورته في الأدب العربي القديم والحديث.

 

 

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك