الجمعة - الموافق 29 مارس 2024م

شهــوة الرفعــة فى عيون الأدب والأدباء Lust Of Superiority In The Eyes Of Literature And Writers بقلــم د. طارق رضــوان – مصــر

“إنك لا تجني من الشوك العنب”.
“إنَّا لا نستعين على عملنا بمن يريده” مقولة خاطب بها النبي – صلى الله عليه وسلم – رجلاً طلب توليته عملا، وهي قاعدة سار عليها القياديون من صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام.. ولم يكن ذلك خاصاً بأمة دون أخرى، فمثلا: النصارى وضعوا شرطاً صارماً في هذا الجانب، إذ تقول قاعدتهم: لا نختار للجثلقة إلا زاهداً فيها، هاربا منها، غير طالب لها
لو قرأنا سجل الشخصيات المتسلقة منذ فجر التاريخ، فإننا سنكتشف، وببساطة متناهية، أن عشاق المناصب -بعد أن تمكنوا من دفتها- كانوا غير جديرين بإدارتها، لأن نفوسهم نزاعة إلى رغباتهم الخاصة، ومطامعهم لا تقف عند حدود، ومن السهل أن تضحي هذه الفئة، في سبيل أهدافها الشخصية، بأمانة مسؤولياتها القيادية، وهذا ما رمز إليه الفاروق في خطابه “من طلب هذا الأمر لم يُعَن عليه”، إذ رأى لهفة الوصولية مخلة بشرط الكفاءة، وقاتلة لها، بغض النظر عن كل المؤهلات والمزايا التي تتمتع بها الشخصية الاستغلالية .يبدو أن كتاب “الأمير” لمكيافلّي كان مرجع الوصوليين الذي بنوا عليه استراتيجياتهم النفعية في العصر الحديث، منطلقين من قاعدته “الغاية تبرر الوسيلة”، فكانت جنايته باهظة الثمن على المجتمعات الحديثة.
ويلخص أ.د. عبد الرحمن هيجان رؤيته للشخص الوصولى فيقول: تأتي توصية المسؤول بتعيين شخص بعينه في مكان ما، متجاوزة للمعيارالأقدمية أو الكفاءة، حيث تقف وراءها غايات شخصية لا علاقة لها بالجدارة، ومن أهم دوافعها: الانتماء الذي يلعب دوراً كبيراً في اختيار أشخاص بعينهم، قد يكونون غير مؤهلين لتولي ذلك المنصب، إما لعجز إداري أو لجهلهم بمتطلبات هذه الوظيفة القيادية.
ولا شك أن أهم الانتماءات التي تقف وراء هذه التوصيات تكون –عادة-مناطقية أو قبلية أو أسرية، ثم جدَّ انتماء آخر شديد الخطورة، مرتكزه مذهبية بحتة، حيث يلحظ في الآونة توصيات خفية غير منظورة يقوم بها بعض المتطرفين لدعم من ينتمون إلى مذهبهم، وزرعهم في أجهزة الدول التي يعيش فيها أصحاب هذه النزعة، وهذا التخطيط المدروس يرمي إلى وضع المتنفذين في مناصب مهمة ليسهلوا لهم تنفيذ مخططاتهم ذات النفس الطويل.
إن علم النفس يعرف الوصولي بالشخص الذي يضع نفسه في المقدّمة من دون تردد أو خجل أو شعور بالذنب، وبما أن التملق مرض اجتماعي خطير فإن القرآن الكريم لم يهون من شأنهم أو يلين لهم الجانب فقد خصص له سورة كاملة وهي سورة ) المنافقون).
وعلى الرغم من وجود معايير لاختيار الكفاءات، إلا أن هناك فريقاً آخر استطاع أن يصل إلى مناصب قيادية أقنع فيها المتنفذين من خلال قدرته على تلميع شخصيته،أو من خلال التزلف والقفز فوق أسوار القانون لإرضاء مسؤول ما، على طريقة ( شيلني وأشيلك)، وهذا هو الوصولي الذي يقفز على كل المعايير ويأتي إلى المنصب مجردا من الكفاءة والجدارة والتخصصية.
ويصف بعض الأدباء الوصولي بأنه رجل متمركز حول ذاته، وقيمة الأشياء والأفكار عنده ليست في جوهريتها ولكن في قربها من المركز.. وتمركزه حول ذاته كارثة، لأن الذات تصبح هي المعيار في الحكم، والنموذج في السلوك، مشيراً إلى خطورة الوصولي على المجتمع، لكونه -دائماً- مشغول بالعرضي والتافه، وبالمصلحة على حساب المبدأ، والمكسب على حساب القيمة، فالوصولي كائن بلا ملامح، وبلا قضية، لا يتورع في سبيل الوصول إلى غايته من تدمير كل شيء، واتنصل من قيم الفطرة والمواطنة والإنسانية.. المهم أنا والآخر في الجحيم، مؤكداً على أن من أعظم معضلات المثقف العربي المزمنة هي الوصولوية والنفاق، وحين تصبح الوصولية ثقافة يتحول الناس إلى مجموعة من القوارض التي تأكل جسد المجتمع، وتُعجَِل بفنائه، والتاريخ شاهد على ما نقول..فلم نجن من الوصوليين سوى شوك السعدان، والعرب تقول: “إنك لا تجني من الشوك العنب”.
الوصولية.. بلا مبادئ ولا ولاء. والوصوليين من الرجال والنساء أيضا، لكن أعتقد إذا كانت هناك بيئة عمل تضم رجالا ونساء فإن النساء يتفوقن على الرجال في هذه الصفة. الشخصية الوصولية تتسم بالنفاق بالطبع لأنها ترى أنها يجب عليها أن تنافق الرؤساء والشخصيات المقربة من الرؤساء حتى تصل إلى مبتغاها
أما أ.د عبدالرحمن بن هيجان – أستاذ الإدارة العامة وعلم النفس فقال أن تعريف الوصولي يختلط عند بعض الناس مع الشخص الطموح الذي يصل بجهده، وعلينا أن نفرق بينهما، فالشخص الطموح عمليٌّ لديه هدف بيّن وبرنامج، وقدرته على التنفيذ واضحة، ولديه أفكار إبداعية، لكنه ليس حالما فقط، والوصولي ليس بعيدا عن هذا، لكن قدرته كامنة في الإقناع الكلامي لا الرؤيا البناءة، وهو يختار ضحاياه جيدا، حيث يعمد إلى الأشخاص الذين لا ينكشف أمامهم بسهولة، ويوهمهم بأن أهدافه لا تتحقق إلا بعد مدة طويلة، وخلال هذه الفترة يكون هو قد حقق أطماعه، مؤكدا على أن الوصولي غير قادر على تحقيق هدف ناجح، ويعتمد في إقناعه على الكلام، ومن أبرز سماته أنه يتنازل عن مبادئه بسهولة، وولاؤه ضعيف جدا، فإذا التزم بقيادة إدارية في منظمته، ثم ظهر من هو أقوى منها غيّر جلده إلى الطرف الآخر.
وينبّه هيجان إلى سمات هذه الشخصية الماكرة فهو ضعيف بل معدوم الولاء للأشخاص وللجهات التي يعمل فيها، ويجيد إلقاء اللائمة على الآخرين، ولو أخطأ مرة، فليس لديه ما يمنعه من ارتكاب الخطأ نفسه مرة أخرى، لأنه صاحب هدف غير نزيه، ورغم حذاقته في سبيل تحقيق أهدافه فهو يكرر أخطاءه التي ارتكبها مع ضحايا سابقين، مع ضحايا جدد على أمل أن تثمر مع الآخرين.
ويشير هيجان إلى أن لهذه الشخصيات الوصولية أضرارها البالغة على المجتمع لأنهم سيكونون في المستقبل أكثر تحيزا، ولا يسمحون إلا لفئة محدودة ممن يتبادلون معها المصالح، يقربونهم ويتقربون منهم، وعندما يكون الوصولي صاحب قرار في التوظيف لا يعين إلا من يعتقد أنه يستفيد منهم، إذ ليس لديه موضوعية ولا يؤمن بالجدارة في العمل، فهي ليست معياراً عنده.. حتى إذا قدّم شيئا في عمله فهو من منظور مصلحته
ويجدر الاشارة إلى بيئة الوصوليين المريضة، حيث تكثر بينهم المشاحنات والدسائس، إذ يضربون بعضهم بالخفاء، فهم انتهازيون متملقون، سريعون في تحديد فريستهم، سريعون في إدارة ظهورهم لها عندما يحصلون منها على ما يريدون.
وعن تأثيرهم على مسيرة التنمية نؤكد أن هذه الفئة همها الأكبر يرتكز على دائرة الاقتصاد، إذ هم يبحثون دائما عن منافع مادية مباشرة ولذلك فهم ينشطون في حقل الوظيفة والتجارة والاقتصاد عموماً وهم بحق أعداء المصلحة العامة، وكما يعرف الجميع فإن التنمية الاقتصادية ترتبط بمصلحة المجتمع ولذلك فهم يُعدون معول هدم للتنمية الاقتصادية وهم كذلك سبب مباشر في تأخير عجلة التنمية. والحل يكمن فى ان الرقابة والمحاسبة كفيلان بوأدهم.
وبالرجوع الى الأدب المصرى، كتب يوسف معاطي قصة فيلم (الواد محروس بتاع الوزير) بقالب كوميدي ساخر، القصة تعالج ظاهرة الوصولية والانتهازية في المجتمع المصري عن طريق شخصية محروس، تلك الشخصية الصغيرة البسيطة التصقت بشخصية الوزير الكبيرة المهمة، وأصبح محروس بتاع الوزير، ليتسلق من خلاله لأعلى المناصب، ويتخذه سلما للوصولِ السريع إلى القمةِ
وفي النموذج الفلسطيني لشخصية محروس يمكن أن يكون أى اسم أخر، رمزنا له باسم (دعيس) واستبدلنا بالوزير الرئيس حرصاً على القافية، ومن وجهة أخرى حرصاً على هويتنا الوطنية الفلسطينية الخاصة، التي تأبي إلاّ أن تكون مميزة حتى في نموذج الشخصية الوصولية الانتهازية، ليصبح اسم النسخة الفلسطينية من الرواية (الواد دعيس بتاع الرئيس)
نُعرّج على نموذجٍ آخر للشخصية الوصولية الانتهازية جسدها الأدب والفن، وهي شخصية (محجوب عبدالدايم) في رواية (القاهرة الجديدة) لنجيب محفوظ، التي أُخرجت فيلماً سينمائياً باسم (القاهرة 30) لصلاح أبو سيف، الرواية تتحدث عن فكرة الوصولية في ظل الأنظمة السياسية الفاسدة المستبدة، وذلك عبر إلقاء الضوء على شابٍ متسلق يطمح إلى الوصول إلى عالم الأثرياء بأي ثمن، وكان هذا الثمن هو الزواج من فتاة يشاركه فيها مسؤول بارز في الحكومة، مقابل تعيينه في وظيفة كبيرة… وتصل القصة إلى نهايتها في افتضاح أمرهم جميعاً، وانهيار أحلام الشاب بالثراء السريع بأي ثمن ضارباً عرض الحائط بكل المبادئ والقيم والأخلاق ومعايير الشرف والرجولة.
كان في شخصية محجوب عبد الدايم في الرواية وصف لحال قطاع عريض من المصريين بعد تآكل نظام دستور 23 وثورة 19، وإدانة ضمنية لحزب الوفد الذي تخلى عن قواعده فسمح للنظام الذي شكل هوية المصريين أن يتآكل ويتشظى لتقع مصر في حالة فراغ وعدمية سياسية. فمحجوب عبد الدايم الذي لم يجد قيمة يؤمن ويحتمي بها وسلّم شرفه لقاسم بك فهمي، الأرستقراطي والموظف الكبير المَرضي عنه من قبل النخبة المُنتفعة من الاحتلال، هو تعبير عن حال حزب الوفد بعد معاهدة 36 وحادثة 4 فبراير (عندما حاصرت الدبابات الإنجليزية القصر لإجبار الملك على تكليف الوفد بتشكيل الحكومة باعتبار الوفد حليفًا وقتها للإنجليز)، حزب مَهزوم فاقد الشعبية والشرعية والهوية السياسية النضالية أمام تحكمات الأرستقرطية الإقطاعية المتحالفة مع الاستعمار والمنتفعة من وجوده
إذا كانت شخصيتا محروس ومحجوب السابقتان تم تجسيدهما في الأدب الروائي والفن السينمائي، فإن شخصية (كمبورة) نموذج مشابه صوره الكاتب الساخر أحمد رجب بقلمه المبدع، فرسم صورة رجل انتهازي وصولي استطاع أن يصل إلى مقاعد السلطة بالطرق الفهلوية، والدروب الالتفافية، والوسائل الإعوجاجية، مستخدماً كل فنون النفاق ومهارات التزلف والاسترزاق…. حتى نال ما تمناه.
ودعيس في الأصل شخصية عصامية، وصلت إلى القمة بجهدها الخاص، ولم تستعن بأي رئيس أو مرؤوس، وقد تقدّم على جميع منافسيه من كبار (السحيجة)، وتفوق على جميع خصومه من (الطبيلة)، وصرع معظم حُساده من عتاولة (الهتيفة). ولم يكن ليغلب كل هؤلاء المساكين، ويصبح من عباقرة المنظّرين لنظرية التمكين، لو لم يكن قد أدخل تعديل جوهري على أفكاره القديمة ( العفنة)، لتصبح أقرب إلى النفعية وفي قاع الانتهازية، وبدون أن يترك مبادئه العتيقة (النتنة) ليستبدل بها أخرى وصولية نابعة من أصل الميكافيلية . ودعيس الفلسطيني تميز عن غيره بأنه سريع الهبش من المال العام سواء بالهبش المباشر كتحويل ملايين الدولارات في حسابات خاصة بالخارج، وشراء العقارات من الشقق والأراضي، أو الهبش غير المباشر بتعيين الأحباب من الذرية والأصحاب، في مناصب رفيعة.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك