الجمعة - الموافق 29 مارس 2024م

دور الدولة في صيانة الفكر بقلم :- الدكتور عادل عامر

دور الدولة مهم جدًّا في صيانة الفكر، وحراسة العقيدة، ورعاية الملة، ومراقبة الأفكار الوافدة، وأي دولة مهما كانت – ومنها الدول الغربية المتقدمة – فإنها تقوم على أسسٍ فكرية وعقائدية، قبل أن تقوم على أسسٍ سياسية، والفكر والعقيدة هي البنية التحتية، والقواعد الأساسية للاستقرار والثبات، ولا تخلو دولة من قيمٍ فكريةٍ ترعاها وتحرسها، وتُقاس قوتها بقوة تلك الأرضية الفكرية. ومتى ما اختُرق النطاق الفكري لأي دولة، أو زُعزع أمنُها الفكري، أو فكِّكت منظوماتها القيمية، فإنها تفقد (قوتها الناعمة)، التي هي في الحقيقة مبدأ تماسكها وترابطها.

وإن أخطر أنواع الضعف هو الضعف العقدي والفكري، والذي سوف يُحرض جميع أشكال وأنواع الأفكار الأخرى المعادية لك، لاختراق نطاقك الفكري ومنظومتك الأمنية، لتفقد المنظومة تماسكها وجوهريتها، وجاذبيتها وقوتها.

ان الأحداث الإرهابية التي حدثت في مصرسُبِقت باختراقٍ فكريٍ خارجي وافد (ليس المجال لإيراد الأدلة والوقائع حوله)، وسهل تلك المهمةَ وجودُ التقنيات الحديثة، وتم تجنيد مئات الشباب في هذا المسلك الإرهابي، عن طريق إقناعهم بواسطة الفكر أو (القوة الناعمة للتكفيريين)، لقد أثاروا القتل والدمار أينما حلُّوا، وكانت بدايتهم مجرد فكرة!

وإن المواجهة الفكرية اليوم مواجهة الأفكار الإلحادية، التي لا تقل خطرًا عن مواجهة الإرهاب والأفكار التي تقف خلفه؛ لأن هذه المواجهة تُهدد ديننا وأمننا الفكري ووطننا؛ لأنها في حقيقتها انقلاب فكري له تبعاته المتشعبة سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا… إلخ.

وهذه حقيقة واقعية، يشهد لها أنني شخصيًّا قد قُدرَ لي أن أكون حاضرًا في إحدى المحاضرات خارج بلدي، وكان المحاضِر يتحدث عن التأثير الفكري للقيم والأخلاق، ومما قاله: “إننا الآن نُركز على مصر لاختراق مجالها الفكري، ولم يَعد الأمر صعبًا؛ لأن التقنية تخدمنا في ذلك، ويمكننا أن نصل لعقول الشباب هناك بسهولة”! ولعل المراقب للمشهد المصري المحلي يلحظ المتابعة الدقيقة، والاهتمام المتزايد للغرب بالخارطة الفكرية السعودية، وإجراءهم العديد من استطلاعات الرأي العام حول مختلف القضايا الفكرية في المملكة.

إن واجب الدولة تجاه هذا الأمر مُهم جدًّا، فإن ((الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن))، وإن الحصانة الفكرية، بتمحيص الأفكار، وصيانةِ عقول الشباب، وفتحِ الحوار معهم – واجبٌ شرعي وعقلي، يُحتمه الشرع والواقع، وإن ترك تلك الأفكار الدخيلة والعقائد الفاسدة تسرح وتمرح في عقول الشباب، لَمهدِّدٌ بضمور القوة الناعمة التي تمتلكها الدولة، والتي تمثل شرعيتها الدينية والسياسية، فإذا فسد الشباب فمن للوطن؟!

إن من أهم واجبات ولي الأمر – وفقه الله – محاسبةَ القنوات الفضائية التي تبث ما يُفسد العقائدَ، ويفكك المنظومة الفكرية، ويُخل بالأمن الفكري، أو على الأقل منعها من ممارسة نشاطها داخل الحدود وباسم الوطن والوطنية، وكذلك محاسبة الصحف والمجلات والمطبوعات والمواقع التي تنشر الإلحاد، أو تحارب الدين، أو تستخف بقيم مجتمع أرضِ الرسالةِ والوحي ودولة التوحيد؛ بل لا بدَّ أن يكون للصحافة الوطنية دورها القوي والحاضر في صد تلك الانحرافات الفكرية الوافدة، لا أن تكون قناةً للترويج لها، وكم أتمنى أن تضع الدول الإسلامية الأنظمة واللوائح الصارمة لمحاسبة المحرضين على العقيدة والدين، كما هو الحال بالنسبة للأمور السياسية.

وتكمن خطورة حرب الأفكار في أنها تهدف إلى إخضاع الإنسان من خلال السيطرة على تفكيره، والوصول به إلى النتائج التي يريدها الخصم، دون الحاجة إلى استخدام القوة، وإنما من خلال بناء إدراكات وإيحاءات لديه توصله إلى مرحلة التسليم لإرادة الآخر، والقبول بها وكأنها الحل الأمثل.

 ومن خلال التجربة نعلم يقينًا أن الفكر لا يواجه إلا بالفكر، وحرب المعلومات لا تواجه إلا بالمثل، وعلى نفس المستوى، وبنفس الأساليب والأنساق.

إن من يأكل الطعام الفاسد أو المسمَّم فإنه سوف يموت أو يتسمم بما أكل، وإذا كان هذا هو شأن الطعام الفاسد المسمم، فإن شأن الأفكار المسممة والفاسدة على العقول أعظم وأخطر. والأفكار – مهما اعتقدنا أنها بسيطة أو ساذجة، وأننا في بلد التوحيد – إذا تُركَت دون نقد أو مواجهة، قد تكتسب قوة هائلة، يصعب بعد ذلك مواجهتها.

إن الغرب مع الانفتاح الذي يعيشه، إلا أن كبار المفكرين فيه يُوصون بإلحاح على مراقبة الأفكار الوافدة، ونقدها وتمحيصها، قبل أن تتمكن وتُشكل خطرًا على المجتمع، ومن ذلك تفتيشهم وتقاريرهم التي يرفعونها حول الكتب المتواجدة على رفوف المكتبات في المراكز الإسلامية في الغرب، وشكواهم حول مناهج المدارس الإسلامية هناك؛ بل وقرارهم الأخير – والصادر منذ أيام في أمريكا – بحق تفتيش رجال الأمن والجمارك للحواسب الآلية الشخصية للقادمين إليها، ومصادرة ما بداخلها بعد أن عجزوا عن معرفة ما بداخل عقول هؤلاء الوافدين الزائرين، وهذا يطرح تساؤلاً مشروعًا عن مدى عودة القوى المتقدمة لممارسة المكارثية مرة أخرى، باسم حرب الأفكار، وحماية القيم والمبادئ الفكرية!!

وهذه حقيقة يشهد لها الواقع اليوم، سواء تجاهلنا هذا الأمر، أو كابَرْنا في قبوله، وما الثمار المرة التي نراها على المستوى الأخلاقي والفكري للجيل الحديث إلا خيرُ شاهد على خطورة تلك الأفكار وقوَّتها، مع غفلتنا عن نقدها واحتواء الشباب.

إنني أعتقد أننا في هذا العصر معرَّضون لمواجهة المرحلة الثالثة من “طوفان الأفكار الوافدة”، حيث كان “الطوفان الأول” في بداية عصر الترجمة في العصر العباسي، حينما تُرجمت الكتب اليونانية، فدخلت الفلسفات المختلفة إلى المجتمعات الإسلامية، فأفسدت كثيرًا من العقول بقصفها بوابلٍ من المحدثات والشبهات.

لقد شغلوا الأمةَ عقودًا بهذه الأفكار والفلسفات الوافدة، وكان لها ولهم ضحايا من الشباب، فانتشرت الفلسفات الوجودية والإلحادية، والأطروحات الثورية، وانتشرت الثورات اليسارية في أرجاء الوطن العربي، لقد بدأت الأمور بفكرة، وانتهت بثورات عديدة!

ثم لما اندحرت الدول الاستعمارية، وسقطت دولة الشيوعية، وانهارت أكثر تلك الأفكار الوافدة، وخَبَتِ الثوراتُ البائسة، وأذن الله للصحوة الدينية المباركة، جُدد للأمة أمر هذا الدين، بعد اندراس كثيرٍ من معالمه، وأصبح الانتماء للقومية أو البعثية أو الشيوعية مسبةً وعارًا وشنارًا. إن خطورة هذه المرحلة تتمثل في سرعة انتقال الفكرة، وسرعة انتشارها وتأثيرها، إن خطورة الفكرة تتمثل في أنها هي التي تصنع الفعل!

إن الجيل الجديد يئن تحت وطأة الغزو الفكري الجديد، ويُطحن الآن تحت طاحونة “حرب الأفكار”، وإن جماعات عديدة مشبوهة قد نشطت في الارتباط بشبابنا عبر عمليات اتصال واسعة، عمليات يتفاعل بمقتضاها متلقي الرسالة الفكرية، بمقتضى ما يريده المرسِل، وفي هذا التفاعل يتم نقل الأفكار والمعلومات الموجهة بقصد ممارسة أكبر قدر من التأثير على المُرسَل إليه؛ من أجل تغيير أفكاره. ولقد وجدتُ نشاطًا محمومًا من مؤسسات دينية دولية – مخالفة – تتظاهر بالإلحاد، وتنشر الكتب الإلحادية وتبثها في المنتديات باسم مسلمين، تلبيسًا على الشباب، ودعوة لهم إلى التمرد والعصيان

ونحن في أمسِّ الحاجة في هذا العصر إلى رجال عظماء يواجهون بالعلم والإيمان والفكر السليم الطوفانَ الثالث، الذي بدأت تتشكل سحابته السوداء في الأفق، وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة جدًّا لا قدر الله؛ لأن الطوفان الثالث يختلف كثيرًا عن السابقَيْنِ، كمًّا ونوعًا وتأثيرًا، ويختلف في أنه يُركز تركيزًا خطيرًا على قلب ومنبع ومصدر الإسلام، بلاد الحرمين الشريفين وأهلها، نسأل الله أن يحميها وجميع بلاد المسلمين.

ومع تقديري لجهود الدولة المبذولة – حفظها الله – في مواجهتها، التي لا هوادة فيها، لمواجهة أفكار الفئة الضالة، إلا أنني أحسب أن الغالبية الصامتة من أفراد المجتمع تأمل وترغب في توسيع هذه المواجهة، لتشمل الطوفان القادم، وأزعم أن الوقت قد آن لإدراج هذه المواجهة ضمن الخطط الاستراتيجية لأصحاب القرار؛ حتى لا يأتي يوم نعض فيه على أصابع الندم، ونتأمل عندئذٍ – وبكل أسى – الآيةَ الكريمة: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} (غافر: 44)، فهل يستجيب القادة، والعلماء والدعاة وأهل الفكر، لحماية عقول شبابهم، وقوتهم الناعمة، وأمنهم الفكري؟

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك