الجمعة - الموافق 29 مارس 2024م

تجديد الهوية المصرية بقلم :- الدكتور عادل عامر

تعرضت الهوية المصرية لكثير من محاولات التشويش و التشويه و خاصة من أنصار تيار الإسلام السياسي الذين روجوا لأفكار تدعو الى تبنى الهوية الدينية كبديل للهوية الوطنية، وترفض فكرة الدولة القومية القائمة على مفهوم السيادة والمصلحة الوطنية، أو تنظر اليها على أنها مجرد مرحلة انتقالية للوصول الى النظام الإسلامي العالمي العابر للحدود، والذى ينظر للولاء الوطني على أنه مخالف للعقيدة

. والواقع أن اعتراض الكثير من المصريين على نظام حكم الإخوان لم يكن نابعا من إحساسهم فقط بالإقصاء السياسي، ولكن أيضا بالاغتراب الحضاري و الثقافي في وطنهم. الهوية المصرية يمكن تجديدها أيضا بإعلاء مفهوم المصلحة الوطنية في السياسة الخارجية للدولة.

والواقع أن هذا المفهوم قد تراجع و تعرض لكثير من التشويش في عقود سابقة في مصر، وترتب على ذلك أن تورطنا في قضايا ونزاعات ليس لها علاقة مباشرة بالمصلحة الوطنية المصرية، وكان لها تأثيرها السلبى على الهوية المصرية. تفعيل الدور الخارجي المصري، وخاصة في الملفات الإقليمية، والذى بدأت تظهر إرهاصاته في ملفات المصالحة الفلسطينية و ليبيا و سوريا. والحديث دون مواربة عن أن سياستنا في هذه الملفات وغيرها تحركها المصلحة الوطنية أولا سوف يسهم بشكل كبير في ترسيخ هذا المفهوم، و تجديد الهوية الوطنية المصرية.

لقد عبرت الهوية عن نفسها في التجربة المصرية، بأحداث على مراحل ومرتكزات أساسية، ذلك من خلال تجربة الثورة العرابية 1882م، ثم ثورة 1919م، ثم ثورة 1952م، كلها ومعا طبقات لمرحلة واحدة ربما تبرز من بعد ما يمكن إن يوصف بصحوة الوعي المصري بالهوية، وذلك بعد تضافر العديد من العوامل:

– شعور الفرد (العادي) بقدرته على التغيير، بعد أن بدت الأحزاب والجماعات السياسية (المنظمة) أنها اقل فاعلية على أرض الواقع. – لعل جموع المسيحيين المصريين لم تحقق ذاتها وتحتفي بخصوصيتها، كما بدت بعد 25يناير2011م.

– تجربة حكم السيسي كشفت أن المصريين لهم هويتهم التي تتسم بالتسامح والتراحم والتفاهم والتشارك معا بين جميع أفراد المجتمع، بل وتلفظ التعصب والواحدة.                   – أن الفهم الخاص والعام للإسلام كدين سماوي، هو مجموعة القيم الفطرية الإنسانية التي هي جذر ثوابت هذا الدين، وهى المتجذرة في عقل ووجدان المصري (فهو الذي قال بالتوحيد.. والذي استقبل الدين الإسلامي بلا معارك..

 وتعايش مع كل المذاهب واحتفى بآل البيت.. وتعلم من تاريخه الزراعي أن الإنسان يضع البذرة في الأرض، ثم يتوكل باليقين الثابت أن الله هو المعطى والرزاق).. حتى عرفت القاهرة يوما بأنها مدينة الألف مأذنة، والآن تجاوزتها! تملك مصر تاريخًا وحضارة عظيمة منذ آلاف السنين؛ إذ كانت رائدة للعلوم والفنون ومصدرة للثقافات علي مر العصور، ولكن ما حدث في السنوات الأخيرة من تجريف للثقافة في مصر؛ يجعل البحث عن الأسباب والعوامل التي أدت إلى ذلك ضرورة، 

ويأتي من بين أهم تلك الأسباب تراجع دور المصادر التربوية والثقافية التقليدية، كالأسرة، والمعلم والمؤسسات المجتمعية التثقيفية؛ إضافة لتراجع دور الحكومة في مهمتها الموكلة إلى وزارات الثقافة، والتعليم، والشباب، بما تملك من هيئات ومؤسسات، وجاء كنتيجة سريعة لهذا الغياب، تدهور جودة التعليم، وتهميش دور المثقفين والمفكرين، وتدني المضمون واللغة الإعلامية ومستوى ما يُقدم من فنون.

كانت بداية دخول الهوية الثقافية المصرية إلى مرحلة التهجين عبر وسائل الإعلام التقليدي، التي صُبغت بشكل كبير بصبغة تجارية، وبدأت في التسعينيات من القرن الماضي تبني أفكارا جديدة تتماشى مع المتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، التي فرضها عصر العولمة، وظهر ذلك وقتها في تقليد الشباب لموضة الغرب، وسماع الموسيقى الغربية، ومشاهدة الأفلام الأجنبية،

 وانتشار الـ “فاست فوود” أو الأكل السريع، وبدأ انتشار مفهوم المواطنة العالميةGlobal Citizenship  في هذه الأشكال. ورصدت دراسات عديدة أن ثقافة الشباب العربي أصبحت ثقافة مهجنة نوعا ما، وأن هذا التهجين خلق صراعا جديدا أطلق عليه صراع الأجيال، حيث قلص هذا التغير الثقافي من تأثير الآباء والمؤسسات التربوية والثقافية التقليدية، وأدى إلى زيادة تأثير الأصدقاء والثقافات الخارجة عن إطار المجتمع، حتى أن هذا النمط الثقافي الجديد وصل في تأثيره إلى مناطق كانت وقتها من المحظورات، فتغيرت -على سبيل المثال- صورة رجال الدين، وأدى إلى ظهور ما أطلق عليهم “الدعاة الجدد”، الذين استطاعوا أن يغيروا شكل وأسلوب الداعية النمطي وواكبوا الثقافة الجديدة للشباب في المظهر، وأسلوب الخطاب، وطريقة التفكير.

كذا استمر هذا المتغير في أداء دور الباعث والمؤسس لما جاء بعده، وترك أرضا خصبة وجاهزة لاستقبال متغيرات أكثر حدة وانتشارا وعمقا، وفتح سماءً لم تستغلها النوافذ الثقافية التقليدية، حتى جاءت مرحلة “الإعلام الجديد”، الذى انطلق من ساحة الشبكة العنكبوتية “الإنترنت”، وما تضمنته من مواقع وتطبيقات خلقت مساحة ضخمة من التفاعل والتواصل، فكسرت حاجز المسافة والزمن، وعمقت هذا التغير الثقافي بشكل ملحوظ وفي وقت قياسي. الثقافة هي المحرك الأساسي للفعل الإنساني،

 فمقياس تحضر الأمم ورقيّها مرتبط بتقدمها الثقافي بكل ما يشمله اللفظ من دلالات وما يحتويه من معان، ولأن أعمدة بناء الأمم هي الشباب، فإن الحفاظ على الثقافة ونقلها إلى الأجيال الجديدة يعتمد في نجاحه على مدى استيعاب وإيمان الشباب بتلك الثقافة.

وفى ظل سيطرة وسائل الإعلام الجديد على الشباب تأتى أهمية البحث والتحليل لدور هذه الوسائل، وتأثيرها ومعالجة سلبياتها، وتدخل المعنيين بالحفاظ على الهوية الثقافية المصرية العربية كطرف فاعل في علاقة الشباب بتلك الوسائل؛ لضمان عدم انقراض الملامح الأساسية والخصائص الأولية لثقافتنا، مع الحفاظ على المكتسبات الإيجابية من دخولنا عصر الإعلام الجديد الذى سمحت جوانبه الإيجابية باطلاع الشباب على ثقافات العالم المتقدم، كما يضع أمام الجميع تحديا كبيرا، يتمثل في أن تحافظ على ثراء التبادل الثقافي، وأن تكتسب منه الجيد دون إفراط أو تفريط.

 لا تقتصر على الجانب الديني بل هناك التاريخ واللغة والثقافة والفكر والقيم الحاكمة التي ارتضى المجتمع أن تحكم سلوكه وتوجه مساراته فالقيم هنا هي موجهات السلوك وضوابطه وموازينه، وحامية البناء الاجتماعي ومفعّلته. كما يجب التمييز بين عدة مستويات عند الحديث عن الهوية : هوية الدولة، هوية المجتمع هوية النظام السياسي. فالقول بأن الديمقراطية والليبرالية والعدالة والمدنية والنهضة هي التي يجب أن تشكل ملامح هوية مصر الآن وجهة نظر تتعلق بهوية النظام السياسي،

كما أن المكونات الخمس تحتاج لمن يملأ مضامينها، والذى يجب أن يحددها هو التيار الرئيس بما يحمله من تاريخ وثقافة وفكر، يتمثل هذا التيار الرئيس في الجماهير ونخبتها المنطلقة من ثوابت هذه الجماهير والمعبرة عنها. فمن يصيغ هوية النظام السياسي هو هوية المجتمع والدولة، وعكس هذه المعادلة معناه معاداة الهوية الأصلية للملايين وهو ما مثل أحد أسباب الثورة المصرية حيث سعى النظام السابق حثيثًا لطمس هوية الشعب فلم يكن معبرًا عنها في توجهاته وسياساته الخارجية والداخلية. 

إن مقولة النواة الصلبة الحاضنة: الإسلام والعروبة لا تعنى أن الهوية أمر ناجز بل إن مفاد وجود نواة يعنى لزوم وجود دوائر متنوعة متراكبة غير متنافية تحتضنها وتظللها وتحتفى بها النواة الأساسية؛ لأن تلك الدوائر إثراء لها. فالإسلام يمثل عقيدة للمسلم، وحضارة للمسلم وغير المسلم باعتبار أن الحضارة الإسلامية العربية شارك في بنائها المسلمون والمسيحيون وغيرهم من أديان وأعراق مختلفة وهى التي تمثل الإطار الجامع لهذه المكونات. تلك الهوية ليست إقصائية استقطابية فضلا عن أن تكون مفجرة للصراعات فيما يصفه البعض بأنه ” هويات قاتلة” إشارةً إلى ما يثيره الانتماء الديني من صراعات ووجوب تنحيته جانبًا، فإذا كان مثير للصراع فينبغي تجنبه، وهو دفن للرؤوس في الرمال خصوصًا إذا ما طُلب ذلك من طرف واحد وهو في حالتنا المسلمين، في حين أن الآخرين ينزلون الشارع ويعتصمون حاملين رمزهم الديني.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك