الخميس - الموافق 28 مارس 2024م

انقذوا تراث فاقوس .. بقلم / حمدي كسكين

كنت راجعا من عملي اتصبب عرقا وقد بلغ بي الجوع وتعب المواصلات مبلغه ورحلة السفر من والي الزقازيق صعبة وقاسية ومؤلمة لمن هم يشقون رحلة السفر اليومي مسافات طويلة بالمواصلات العامة أمثالي
نزلت موقف اكياد رأيت أمام الموقف تزاحم وتدافع وصخب موسيقي علي أنغام أغاني المهرجانات للمطربين   أمثال حمو بيكا
تلفت علي التزاحم لأملي عيناي بمنظر وكالة زلط للخضار والفواكه التي كانت ومازالت محفورة في ذاكرتي تختزل رحلة سفر اولاد الفلاحين لفاقوس ….فوجدت لافتة الوكالة وقد انتزعت لتحل محلها كشري – صرت اضرب كفا علي كف – كيف تحولت وكالة زلط العريقة التراثية التي تمثل لجموع الفلاحين في مركز فاقوس وشمال الشرقية والاسماعيلية تراثا وجدانيا لايقدر بثمن – رجعت ذاكرتي للوراء قديما متأملا ما اشاهده بأم رأسي – وأتمتم بكلمات غير مفهومة وكأنني أصابني الخبل – كشري ..كشري .. وأضرب كفا علي كف وكالة زلط تبقي محل كشري – السيارة مازالت واقفة لتحشر مزيدا من الركاب وانا عيناي تمسمرت علي الوكالة التي تحول بها الزمان – وغدرت بها الأيام لتتحول بقدرة قادر لمحل كشري – وانا مازلت أتمتم وأهذي بكلمات غير مفهومة توصمني بالجنون تارة وصواب العقل تارة أخري كشري..كشري ومازال السائق ينادي علي مزيد من الركاب لتحشر حشرا داخل كتل اللحم البشري المحشورة داخل السيارة وانادي علي السائق كفاية يا أسطي العربية انزحمت توكل علي الله – وتنادي أمرأة ومعها عيالها اصبر يا اسطي شوية الواد راح يجيب طبق كشري نتغدي بيه – فجأة يأتي الصغير بطبق الكشري وتقفل ابواب السيارة – وانا مازلت اهزي بكلماتي الغير مفهومة والمرأة وعيالها يلتهمون طبق الكشري داخل السيارة في الكرسي الخلفي غير عابئين بحراة الجو أو بالإجساد المتلاصقة والمحشورة في العربية وانا تشرئب رقبتي وأميل بعنقي ناحية الشباك لعلي اتنفس هواء نقيا ينقذني من رائحة السيارة العطنة بحمولتها الادمية الممزوجة بكراكيب ومقاطف الركاب وللسيارات في بلادنا رائحة خاصة ردة سوق الثلاثاء
و التي اختلط فيها رائحة عرق الركاب المنتنة برائحة طبق الكشري الفواحة والتي عبقت السيارة برائحة الثوم والبصل وماتحمله القرويات من فسيخ ورنجة وأكياس بوظة في المقاطف برائحة علبة المبيد الحشري الذي كان يحمله الرجل العجوز الذي كان بجواري مختلطة برائحة غبار الطريق والدخان المنعث من حرائق أكوام الزبالة الممتدة علي طول الطريق الممزوجة برائحة بحر البقر الذي تعبره السيارة وبينما انا غارق بذاكرتي في حال الوكالة أيام زمان اذ بالرجل العجوز الطيب الذي يجلس بجواري في السيارة يناديني ازيك يا استاذ حمدي اهلا ياعم الحاج شوفت حال الدنيا…. وكالة زلط تبقي محل كشري
شفت الدنيا عملت فينا ايه وموديانا علي فين عرفت الرجل جيدا فهو كان من كبار مزارعي البطيخ البعلي في منطقتنا وكان بطاطخي يمثل مرجعية لكل المزارعين تبادلنا اطراف الحديث انا وعمي الحاج طالعت الرجل وسمرة وجهه وقد حفر الزمن أخاديدا في وجهه وتجاعيد وجهه تخبئ معاناة وشقي السنين … عرفته انه أحد جيراننا ممن كانوا يتاقسمون معنا رحلة شقاء الايام وكان صديقا لوالدي رحمه الله وكان بطاطخي مشهورا في بلادنا ومشهود له بالبنان ومرجعية لكل من يزرع البطيخ البعلي – واستطرد في كلامه الذي تغلفه الحسرة والندامة علي زمن ولي وراح .. ونبرة الحزن والشجن والأسي تغطي صوته المبحوح وكأن وكالة زلط ملكه أو جزء من ميراثه وميراث أجداده الغابرين أو شئ عزيز مقدس عليه يناديني الرجل الطاعن في السن الوقور والله يا استاذ حمدي كنت انا وأبوك نأتي بالبطيخ للوكالة من الفجر وكانت عربيات البطيخ تكون واقفة علي البحر من كوبري المحكمة لغاية هاويس كفر البلاسي
وكانت وكالة زلط فاتحة بيوت ناس كتير وناس كتير بتسترزق من حواليها ذكرني العجوز البطاطخي بأيام وذكريات مازالت محفوظة ومحفورة في وجداني فقد كانت وكالة زلط للخضار والفاكهة يأتي اليها الفلاحين من كل فج عميق بسياراتهم المحملة بالبطيخ والخضار والفاكهة ويعتلي المعلمين الكبار أبناء ال زلط من فطاحل المعلمين سيارات البطيخ وكلما صعد المعلم علي ظهر سيارة يعلو الصياح والصفير والتصفيق والمزمار البلدي والطبل البلدي والمعلم ينادي
ابن حلال يفتح الباب ..صلي علي النبي مين يفتح الباب ويبدأ المزاد علي بيع سيارة البطيخ ينادي أحد التجار مائة جنيه والحاج شحتة زلط ينادي بأعلي صوته معانا مية معانا مية وصوت بائع اخر وخمسة يامعلم والمعلم بجلبابه البلدي الكشمير يمسك بخيرزانة طويلة في يده ويظل المزاد مشتعلا الا ان يصل الي السعر المعقول فيبارك المعلم البيعة ويسجل كاتب الوكالة اسم الفلاح البائع واسم التاجر المشتري انتظر انا ووالدي وسط القعدة الجميلة التي لن تمحو من ذاكرتي داخل وكالة زلط وفطاحل واعيان ورجالات مركز فاقوس ينتظرون باشكاتب الوكالة ليقبضهم الفلوس وهم يتبادلون اطراف الحديث والضحكات وأحوال السوق والأسعار وتعلو قهقهة الضحكات للفلاحين المنتظرين ان يقبضوا ثمن المحصول …ينادي الباشكاتب علي اسم والدي يلتقط والدي الفلوس وانا امسك بكم جلبابه البلدي ويتنفس والدي الصعداء حامدا الله علي المحصول الوفير وما التهمته يداه من عشرات الجنيهات من كاتب الوكالة وكانت العشرة جنيه في هذا الزمان تمثل قيمة مادية كبيرة وقيمة تسويقية وكانت تقطع رقبة الجمل بتعبير والدي عليه رحمة الله
نمر امام قهوة الفلاح وانا ممسكا بتلابيب جلباب أبي وينادي مجموعة من الفلاحين يجلسون علي قهوة الفلاح الملاصقة للوكالة علي والدي جبرت ياحاج السيد ووالدي يرد الحمد لله يجلس والدي منتشيا بجلبابه البلدي المهندم وطاقيته الوبر التي كان لايرتديها الا الأعيان في ذلك الزمان بوجهه الأحمر الجميل وكأنه أحد أغوات الاتراك يحتسدي فنجانا من القهوة مع أصحابه من كبار المزارعين أو الغلابة من الفلاحين فالكل كان سواسية لا توجد فروق اجتماعية أو طبقية في ذاك الزمان وكالة زلط كانت بالنسبة لجموع الفلاحين في ذلك الوقت بمثابة بنك تسليف فاذا اراد أحدهم زراعة المحصول الشتوي يذهب لال زلط للحصول علي سلفة علي الزراعية وال زلط مغبوطين مسرورين دون من ولا سلوي علي زبائنهم من جموع الفلاحين كانت الوكالة بمثابة بنك تسليف غير ربوي وكالة زلط ليست مبني خرساني تجاري قابل لتغيير نشاطه او تأجيره ليجني خلفاء زلط بضع جنيهات فهم في بحبوحة من الرزق ولديهم سعة وبسطة في الرزق وكالة زلط هي بالنسبة لأجيال من الفلاحين ملكا لهم جميعا هي تراثهم الفكري وذكرياتهم الجميلة وشاهد علي أيامهم الحلوة والمرة
هي ترجمان لذاكرة شعب وأجيال من أبناء شمال الشرقية ومدن القنال وسيناء ترجمان لذاكرة أمة وشريحة عريضة من الفلاحين البسطاء
كان المتعثر في زواج ابنته يلجأ للوكالة ليحصل علي سلفة غير ربوية علي الزراعية من ضاقت به السبل من بسطاء وأعيان الفلاحين كانت الوكالة هي الملجأ والملاذ الأمن بالنسبة له وال زلط لايردون أحدا مكسور الخاطر ولا يتبرمون ولم تكن هذه السلف هبة او عطية لكنها كانت سلف علي الزرعية وهي نوع من انواع التعاملات المالية التي كانت موجودة في ذلك الوقت وفجأة وبلا مقدمات تبصر عيناي ما تبقي من ذكريات جميلة
ومخزون تراثي وفكري في ذاكرتي لوكالة زلط أبصرها وقد تحولت لمحل كشري – لعنت الأيام ….وتمنيت لو كانت فاضت روحي قبل ان تطالع أم عيناي الوكالة التي فيها كل ذكريات أيام السعادة وأيام الهنا وموكب عودة والدي من فاقوس محملا بكل ما لذ وطاب
بعد ان باع المحصول لخلفاء زلط او رجوعه بالكسوة وقد اشتراها من شركة عبدالرازق رمضان كانت فاقوس بكل حواضرها تختزل في ذاكرة الفلاحين في وكالة زلط …فاقوس بالنسبة للغلابة من بسطاء الفلاحين هي فقط الوكالة ولا شئ غير الوكالة والان كما جرفت ذاكرتنا من كل ماهو جميل تجرف ذاكرتي برفع لافتة وكالة زلط ووضع مكانها محل كشري – ملعون أبو الكشري وأيامه ورحمة الله علي ايام الزمن الجميل – ستبقي ذكريات الوكالة حاضرة في ذاكرتي
ولا نملك الا توثيقها بالكلمات – رحمة الله علي رجالات الزمن الجميل الحاج محمد زلط والحاج شحتة وعدلي زلط وفاروق زلط وبارك الله في عمر خلفاء ال زلط وفي عمر نائبنا الحاج محمد فكري زلط

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك