الثلاثاء - الموافق 19 مارس 2024م

المغرب للجزائريين حبيب / 55 بروكسيل : مصطفى منيغ

بمدخل “عين بني مطهر” وأمام مقرّ إدارة الجمارك وجدتُ السيد (ع) ينتظرني ، دون ضياع للوقت يُشير إليَّ أن نتبع الشاحنة التي تولىَّ قيادتها ، متجهاً نحو الشّمال الشرقي فوق طريق لا يمكن لغير العارف بها إلاّ أن يجد نفسه أمام الدرك الجزائري للمساءلة والاعتقال الفوري ، بين الحين والآخر (…) التطوانية تلتفتُ صوبي مستنجدة أن أحدثها في أي شيء ، المهم أن تسمعَ صوتي ، أقابلها بالابتسام فتقلِّدني على مَضَضٍ وهي لا تري يميناً أو يساراً إلاَّ القَفَار، ولولا الصوت المنبعث من محرِّك الشاحنة لساد صمت رهيب لم تتعود عليه طوال حياتها ، حتى والدتها المرأة الطيبة بدأ القلق يغيِّرُ نبرات صوتها وهي تسأل بصيغة الخائفة عن أي اتجاه نحن سائرون ؟؟؟ ، وإن كنتُ أثق في الجماعة الظاهر منها ثلاثة ، أم هي مغامرة والسلام قد تقودنا إلى ما لا يُحمَد ؟؟؟، سألتُها إن كانت تثق بي فأكدّت لي بهمس لم أتبين ما تضمَّنه صراحة ، “التطوانية” لا تفارق عناد المِقود والسيارة تترنَّح ترنُّح مُخْمِرِ أفقد النبيذ اتزان حركاته ، ومع ذلك يُكابر عساه يصل مسكنه وهو لا زال قادراً على فتح بابه ، وأخيراً وصلنا ، حيث اصطفَّت العائلة بنسائها ورجالها وشيبها وشبابها يتقدمهم السيد (بو..) المُطاع في قبيلته كلها ، كلمته منفَّذة من طرف الجميع دون نقاش ، له مِن الرّزق ما وفّره بالحلال زاد عمّا ورثه عن والده أضعافاً ، عانقني عناق أشقاء وهو يعاتبني عن عدم إخباره بمقدمي من وقتٍ يمكِّنه استقبالي بما استحقُّه من عناية أكبر وحفاوة فرح لا تُنسى ، ملتفتاً إلى “التطوانية” ووالدتها قائلا : – اعتبروني ضيفاً عندكم وليس العكس ، الأستاذ مصطفى منيغ نعتبره فرداً من أسرتنا ، وكلما شرَّفنا بزيارة نزداد تعلقاً به أكثر، لحسن خلقه وأمانته وما قدَّم لنا من خدمات برهن بها أنه المدافع الفذ على حق الضعفاء والأغنياء معا ، لولاه لسادنا الغبن وسيطر علينا الحزن وفقدنا ما كلَّفنا العمر كله لنصونه حقاً من حقوقنا الشرعية نتوارثه أباً عن جد.

… تَوَقَّف عن الكلام ما دامت زوجته تناديه لندخل الخيمة الكبيرة إذ الطعام جاهز، في الطريق تفقَّدتُ وجه السيدة الطيبة فوجدته قد تغيَّر بسريان الدم في عروقه سريان العائدة صاحبته إلى اطمئنان نفسي فقدته للحظات ماضية. “التطوانية” منبهرة تكاد لا تصدّق أن يكون هذا الترحيب يجعلها إحدى أميرات ألف ليلة وليلة ، وفي هذا المكان المفتوح على الطبيعة الصحراوية ، الزارعة في النَّفس التعلّق بالحرية ليحس أنه يحيا كانسان بما تعنيه كلمة إنسان ، فكان مدخلاً لا بدَّ منه لتتعمَّق في فهم طبعي ، وتقدير أسلوبي في التعاطي مع حقائق ، يجوز أن لا يعرفها حتى قليل القليل غيري ، ولو كانت تدري كم عانيتُ حتى وصلتُ إلى هذه المرتبة التي أحاطني بها حبّ هؤلاء الناس وعطفهم علي َّ ووقوفهم معي مهما كان الأمر يستحق مثل الوقوف ، لو كانت تدري ربع ما ستتيقَّن بسمع الكثير عن أحداثه واستقراء المزيد من رواياته ومعايشة من كانوا بجانبي لحظة وقوعه وكنت بجانبهم لنخرج حامدين شاكرين لباعث سيدنا محمد أشرف المخلوقين النبي الأمين ليهدينا إلى أحق دين . لو كانت تدري لتغيَّرت في نظرها أشياء تجعلها تفوز بمبدأ لن يخسر مفعول أي موقفٍ تتخذه ثقة في نفسها مهما عرَّضها ذلك لفقدان أشخاص لا يفكرون إلا في مصالحهم الذاتية ، قبل وبعد وصولهم لأهداف يتنعَّمون بغنائمها لوحدهم دون شركاء يزاحمونهم فيها ، لقد وصلت إلى هذه المكانة دون انتماء لسياسة حزبية وبغير وساطة نفوذ أي كان ، معتمدا على ما وصل إليه فكري المستمدّ طاقته المتحرِّكة نحو تطبيق ما تلقيته طفلاً من تربية إسلامية أصيلة ، على يد مسلمين حقيقيين ، وسط بيئة مسلمة إسلاما ينفع المحتاج الفقير، ويهدي الغني لما يوفِِّّق أي ترابط يجمع الفريقين ، لأنبل الأعمال وأطيب النتائج ، لفائدة حياة يتَّسع داخلها كل مخلوق في هذه الأرض المعلومة بالدنيا الفانية ، أحيانا الماضي يعيد ذاته ، ليس بنفس الدقّة ، لكن الاستعانة بما جري في السابق ، يساعد عمَّا يجري بعده ، وإن كان المقام بينهما يختلف شكلا معمارياً فالمضمون يبقي بينهما موحّداً ، في السنوات الأولي من ستينيات القرن الماضي ، وصلتُ ذات مساء مكفهرّ الجوّ ، مخفية سماؤه بما تلبّد فيها يُسقط بَرَداً لا يُطاق ، إلى مدينة “أطرخت” بالمملكة الهولندية ، بجيوب نظيفة من أيّ مبلغ ينقدني من المبيت في العراء ، في تلك الليلة القارسة البرودة ، فلم أجد غير الاحتماء بشجرة تغطي أفنانها المقعد الخشبي الموجود بالقرب من بركة تجمّد ماؤها في حديقة غيَّب سدول اللّيل جمالها أمام مقلتاي ، فأحسست بصوت يتعالي من صدري المبلَّل ، بترنيمة أعادتني للهدوء وأنا أناشد خالقي الآتي بي إلى هذا المكان لغايةٍ هو أدرَي بها سبحانه و تعالي ، أن يشملني برحمته ، لم انهِي مثل الرجاء حتى وجدتُ فتاة تحتمي بظهري متوسلة أن أساعدها في المحنة التي تعرَّضت لها فجأة ، كما فهمتُ من مظهرها وحركاتها العصبيَّة ، أنها هاربة من شخص لعبت الخمرة بلبِّه فطاردها طرد حيوان جائع لاغتصابها ، وقفتُ أمنعه عما فكَّر فيه ، بدلَ أن يسمعني صفعني بما بقيت له من قوة ، فأدركتُ أن أواجهه بنفس اللغة ، حيث حملته بين ذراعي وأوقعته أرضاً أذيقه من لكمات إنسان غاضب لا يرضى بالظلم مهما كانت جنسيته ، الفتاة أمسكتني من يدي وركضت بي لمسافة غير قصيرة حتى توقنا أمام بيت طرقت ناقوسه لتستقبلنا والدتها بتعجُّبٍ شديد ، بعد حديث دار بينهما طلبت مني تلك المرأة أن اتبعها لغرفة نومٍ استخرجت من دولابها بضع ألبسة قد تكون لزوجها ، منحتها لي مشيرة لناحية بابها يؤدي لحمام ماء رشَّاشه ساخن ، إلى هنا الكلّ واضح لا احتاج إلى مزيد شرح لأعلم أنني هذه الليلة سأنام فوق فراش وثير كما تمنّيتُ أن ينعمَ به عليَّ الحيّ القيُّوم ذو الجلال والإكرام سبحانه لا شريك له وهو على كل شي قدير يقول للشيء كن فيكون .

عدتُ إلى المغرب بعد سنوات خمس لقضاء شهر في تطوان لمغادرتها نحو “عين بني مطهر” وهناك … (يتبع)

مصطفى منيغ

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك