الجمعة - الموافق 29 مارس 2024م

القطار القادم إلى الشرق بقلم :- عبد الرازق أحمد الشاعر

تخيل أنك عامل تحويله في محطة قطار نائية، وأنه قدغلبك النوم ذات مساء، فلم يوقظك إلا هدير قطار قابقضيبين أو أدنى، وأنك لما فركت عينيك لتزيل ما تبقىمن أثر للنوم فوق جفنيك، رأيت خلف الزجاج في غبشةالليل خمسة أطفال يتقافزون فوق القضبان. المسافة فيكل ثانية تضيق لتقرب بين مقدمة القطار وأفخاذ الأطفالالذين صرفهم اللهو المؤكد عن الموت المحتمل. تذكر أنالقطار يقترب وأنك الوحيد القادر على تحويل مساره،وأن ضحكات الأطفال ستختلط عما قريب مع أزيزعجلات القطار لتسمع نشازا وجوديا لن تنساه ما حييت. 

لكن انتظر، فبين القضيبين الآخرين كهل يتهادى وقدشغلته همومه عن صافرات الموت. لعله كان يعلم أنهيسير في الطريق الموازي، وأن لا خطر من السيربمحاذاة قطار هادر في ليلة نصف مقمرة. تمنيت فينفسك لو لم يكن الرجل هناك .. أو أنك لم تكن بين قوسيواقع يزداد تأزما كل صافرة. تذكر أنك الوحيد هناك، وأنعصا التحويلة بين أصابعك تديرها كيف تشاء وقتماتريد، والخيار لك. إما أن تترك القطار يسير في طريقهالمقدور ليطحن العظام اللينة ويفرق اللحوم الغضة بينعجلاته الصدئة، أو أن تهرب من شر مقدور إلى شرممكن، فتحول قطار الليل عن وجهته ليفصل روحالعجوز عن عروقة المتغضنة، وبهذا تنقذ زهورا لم تتفتحبعد من مصير مظلم في ليلة نصف مغمضة.

تذكر أن القطار يقترب، وأنه ليست لديك رفاهيةالانتظار، وأن أحدا لن يشهد أصابعك التي تحرك عجلاتالموت إلا الله، وعصفور وقف قرب نافذتك نصفالمضيئة، وضمير لم يمت بعد. سيكون لديك وقت كافللبكاء على من رحل، لكنك الآن تحتاج إلى قرار ستدفعثمنه لاحقا من أمسياتك الباردة. يمكنك أن تعود إلى النوملتدفن رأسك في سترتك الصوفية، وتدعي أنك لم تَر،ولكنك عن قريب ستنزل من برجك العاجي لتملم بقاياالطفولة من تحت أقدام المسافرين والباعة. ولن ينمحيالأحمر اللزج من فوق القضبان ولا من ذاكرتك الهرمةأبدا.

ربما كان العجوز يغازل الموت، ولعله لم يذهب إلىطريق الخلاص إلا ليزهق حياة صارت عبئا فوق ساقيهالنخرتين، وإلا ما الذي دفعه إلى مكان كهذا في ليلة باردةكهذه؟ لعله جاء من بعيد ليتخلص من جثة لم يعد يرغبفي وجودها أحد بعد أن صارت عبئا على كل أحد. ولكن،ألا يمكن أن يكون لهذا الكهل زوج رؤوم، وأنها ستفقدبفقده الزند والسند؟ لعله ينفق على ابنته الأرملة أو حفيدهالمعاق، فيفقد العائل بفقد العجوز اليد الحانية والصدرالدافئ؟

الخيار لك، وعصا التحويلة بين أصابعك، ولا أحديجبرك على تحريكها يميناً أو التجمد فوقها حتى الصرخةالأخيرة. لن يلومك أحد على موت أطفال غادروا صدورأمهاتهم وليل أسرّتهم الدافئ، وغامروا بأطرافهمالصغيرة، فتركوها للبرد والزمهرير. ولن يُعاتبك أحدعلى الاستسلام لقدر لم توزعه على أسر أطفال لنيتقبلوه. ثم أنك لست شريكا في الجرم إلا باليقظة .. ليتكظللت نائما. لكنك للأسف يقظ تماما، وتعرف أن الثوانيالقادمة ستغير مجرى الأشياء، وأنك لن تستطيع إعادةالأطفال إلى أحضان أمهاتهم ولو ملأت غرفة التحويلةدموعا، وملأت لياليك صراخا وندما. الخيار لك ..والقطار يدنو من الرؤوس اللاهية، وعيناك حنجرتانقادرتان على الصراخ في ليلة ليست ككل ليلة.

القرر لك، إما أن تترك الرياح تسير في أعنتها وإن لمتشته السفن، وإما أن تدير ظهرك لها وتدفن ذقنك فيكوفيتك الصوفية الخشنة، أو تحاول أن تغير مسارالأحداث لتخرج من الأزمة الطاحنة بأقل الخسائر. الخيارلك، حتى الصمت والهروب خيار، لكنك مضطر أيهاالعربي البائس إلى المشاركة في لعبة الموت التيوضعتها الأقدار على طاولتك ذات غفلة، ومضطر لدفعكل الفواتير التي ظللت تتهرب منها دفعة واحدة. قطارالموت القادم نحو الشرق سيدفعك إلى التخلي عنعنتريتك الجوفاء، ليضع عنقك تحت سيف الحقيقة، ويدكتحت سكين الاختبار.

مضطر أنت في ربيعك القادم للاختيار بين السيءوالأسوأ، وبين الموت والموت. وقطار ترامب القادم نحوالشرق بسرعة صاروخ عابر للوعي سيضعك في حرجبالغ أمام التاريخ وإخوة الجوار. فإما أن تذهل كل أُمَّة عماأنتجت، وتضع كل ذات عصبية جهالتها، أو يضطر كلزعيم إلى التضحية بالجار وإن عز، أو الصديق وإنوفى. سيضعنا طوفان ترامب أمام اختبار حقيقي للإرادة.وسنخرج خاسرين على أي حال من غرفة أطلقنا النومفيها حتى أيقظتنا صافرة قطار ليل سريع جدا.

عبد الرازق أحمد الشاعر

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك