الخميس - الموافق 28 مارس 2024م

الدولة وبناؤها بقلم :- الدكتور عادل عامر

أن بناءهم للدولة كان أيضًا ببناء المدن الجديدة، مع رسم خطتها وفق ما تقتضيه المدنية والحضارة، وخير شاهد على ذلك ما قام به أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه في بناء مدينة الكوفة بالحجارة وفق تخطيط محكم. ان بناء الدولة تحدٍ كبير علامة فارقة في هذا المشهد السياسي، فرض سياق العولمة تحدّياً نظرياً تمَثل في عدم تطابق المفهوم مع الواقع الراهن، نظراً لكثافة المتغيرات الجديدة التي طرحها هذا السياق، حيث أدرك المتخصصون في دراسة هذه الظاهرة، ضرورة إعادة النظر في مفهوم بناء الدولة،

 لكن ذاك يظلُّ طموحاً نظرياً بعيداً عن التحقق الفعلي، ما لم يُدرك الباحث أننا بصدد الحديث عن انحسار النموذج الليبيرالي الغربي وانخفاض درجة قبوله في معظم الدول النامية، في مقابل بروز نماذج محلية وبديلة في هذه الدول، ما يعكس جزئياً علاقات القوة والحقائق العالمية. بناء الدولة بين الثابت والمتغير؛ طَرحت هذه الثنائية أسئلة مُزمنة ظلّت عالقةً إلى اليوم على الأصعدة التالية: السيادة، القانون الدولي، مبدأ عدم التدخل، إعادة تصميم قدرات الدولة ووظائفها، حافز البناء، إلخ. للوصول إلى المفهوم الحقيقي لبناء الدولة،

 ينبغي تتبع هذا المفهوم نظرياً وواقعياً في خضم التغيرات الراهنة. إذن، ما هو التطور النظري والمنهجي لبناء الدولة حسب علماء السياسة المقارنة؟ وما هو البديل المنهجي الذي طرحته النظرية السياسية المعاصرة كمقاربة لمعالجة الظاهرة؟

إنّ النظرية التقليدية لعلم السياسة تفترض أنّ وحدتها الدراسية الكبرى هي الدولة، ولكن هذه النظرية تتهاوى الآن أمام نظرة جديدة تعتبر أنّ حصر البحث السياسي بالدولة هو تضييق له، لأنّ هناك أنظمة سياسية قَبَلِية، تتجلّى فيها الظاهرة السياسية وتُمارس فيها السلطة أو القدرة بدون أن تكون القبيلة دولة بالمعنى القانوني المصطلح عليه، ويمكن اعتبار هذه النظرية الجديدة ثورة منهجية، ولذلك يُرجّح الآن في تعريف النظام السياسي الاعتبار الاجتماعي على الاعتبار القانوني أو الدستوري

إذن، بناء قدرات مؤسسات الدولة؛ هو عملية بناء خيارات من خلال نظم مؤسساتية، وقد تزامن هذا الطرح مع بروز نظريات الخيار العقلاني والتي جاءت كمحصلة للثورة العلمية الثانية في حقل السياسة المقارنة، حيث أضفى ذلك على عملية بناء الدولة بعداً استراتيجياً عقلانياً، وفرضَ نسقاً معيّناً يجعل عملية البناء تتم من خلال اختيار بديل أمثل من بين البدائل الممكنة، هذا الاختيار قائم على حساب اقتصادي محض (أقل خسائر بأقل تكاليف في وقت قياسي). ولكن لم ترق هذه التصورات إلى مَصاف المقاربة العلمية الشاملة للظاهرة لأنّ كل مدرسة أو منظور ركّز في تحليله على متغيرات مُحدّدة، فرضها سياق معيّن، إلا أن ما أفرزه الواقع الراهن للدولة في ظل العولمة من مشكلات وتحديات، يجعلنا نختبر مدى القصور التحليلي للافتراضات التي وردت في المنظورات السابقة.

إنّ الدور المطلوب من القانون الدولي هو تحسين عملية بناء الدولة، صحيح أنّ هذه العملية يمكن أن تكون ناجحة فقط إذا توفر لديها الدعم المحلي، في حين أنه سيكون مُكلفاً وغير فعالٍ على خلاف ذلك، والأمثلة من كوسوفو والبوسنة والهرسك لا تؤكد هذه الفرضية، رغم أنّ هذا لا يُقوّض عملية بناء الدولة كفكرة أو مشروع. فوُفق روبرت باستور Robert Pastor، فإنّ التحدي الحقيقي للقرن الواحد والعشرين ليس الإطاحة بالأنظمة القمعية وعملية بناء الدول الديمقراطية، ولكن من وجهة نظر القانون الدولي، ينبغي صياغة معايير واضحة والتي تنص تحت أيّ ظرفٍ يمكن للمجتمع الدولي فرض عملية بناء الدولة

إنّ عملية بناء الدولة عند راولز محورها فكرة العدل الذي يبدأ انطلاقاً من وضع أصلي كتصور إجرائي كوني مقبول من الجميع، تُحدّدُ فيه القواعد والمعايير التي تحكم المؤسسات والنظم الأساسية في المجتمع، وتنظيم التعاون والتطور الاجتماعي والاقتصادي بأقصى ما يمكن من الإنصاف الذي يقتضيه المطلب الديمقراطي.

إذن، توصلت النظريتين السابقتين إلى تصور إجرائي حول عملية بناء الدولة خاصة وأنّ الدولة الديمقراطية المعاصرة يؤسسها العدل والشرعية اللّذان يشكلان أساساً للأخلاق والسياسة52، وعليه من خلال النظرية السياسية المعاصرة (الراولزية والهابرماسية، رغم اختلافهما في المنطلق: الأول انطلق من عقلانية براغماتية محلية والثاني انطلق من عقلانية كوسموبوليتانية، إلا انهما يشتركان في المصب وهو تأسيس إجراءات عقلانية لعملية بناء الدولة.) نلاحظ أنّ عملية بناء الدولة يوجّهها نظرياً براديم العدل وأسس الشرعية (Basis oflegitimization)

الذي يمكن أن يؤسس لنا نموذج لدولة قائمة على متغير الاستجابة53، خاصة وأنه لا يكفي لمؤسسات الدولة أن تكون عاملةً بطريقةٍ صحيحةٍ، بل لا بدّ من أن تحظى بنسبة مُعتبرة من الشرعية لدى المجتمع من جهة، وقضايا العدالة الاجتماعية والمساواة لا تزال تحتل مكانةً ضمن جدول أعمال الليبرالية الجديدة من جهة أخرى، بالإضافة إلى أنه في الوقت الحاضر لا يوجد بديل حقيقي لنموذج الليبرالية الجديدة. وفي هذا الاتجاه يمكن أن نبحث عن تصور مقارب وشامل لعملية بناء الدولة، يستند إلى معيار وظيفي هو الاستجابة وُفقاً لاحتياجات الفرد في المجتمع.

 من الواجب علينا أن نتدبَّر في سُنن بناء الأمم التي جاءت في كتاب ربِّنا – سبحانه وتعالى ، وفي سنة رسولنا – صلى الله عليه وسلم -، كما يجبُ أن نتدبَّر في سُنن بناء أمتنا في مراحلها السابقة، وكيف استطاع المُغيِّرون والمُجدِّدون من أبناء الأمة المُخلِصين أن يُحوِّلوا الهزيمة إلى نصر، والضعف إلى قوة، والهوان إلى سيادةٍ وتمكينٍ..

قال المُصنِّف – حفظه الله -: «كمحاولة لوضع لبِنة في صرح الأمة الإسلامية فكَّرت في جمع ما يُؤيِّد أهمية العلم في إعادة الأمة إلى مكانها الصحيح، فتجوَّلتُ في صفحات القرآن الكريم وسنة الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وعُدتُ إلى حياة الصحابة – رضي الله عنه -، والتابعين رحمهم الله، وقرأتُ سِيَرَ العلماء والمُجدِّدين، ودرستُ تجاربَ الأمم التي كان لها نصيب من الصدارة والتمكين لابد من الانتقال من مشروعية العنف إلى مشروعية العقد الاجتماعي، وذلك بإعادة النظر في مصدر مشروعية الدولة القائم على الغلبة وتصويرها على أساس أنها تفويض إلهي. إن الدولة، وكل مؤسسات الدولة يجب أن تخضع لإعادة تنظيم جديدة وفقاً لإرادة الشعب ولخدمته لا لقهره واستنزاف موارده وقدراته أو تبديدها.

أفرزت نهاية الحرب الباردة أوائل تسعينيات القرن الماضي منعرجا حاسما و ذلك من حيث جملة الحركيات و التحديات العالمية الجديدة التي أفرزتها على صعيد تحقيق الأمن و الاستقرار ، و الرفاه للشعوب وفق نمط نيو ليبرالي مؤثرتا بذلك على دور الدولة و علاقتها ببيئتها الداخلية و الخارجية و في مقابل هذا نمت نزاعات مختلفة من حيث الكم و النوع على غرار دول مثل : ناميبيا ، موزنبيق ، وكمبوديا ، السلفادور، و غواتي مالا . بالإضافة إلى ذلك ظهرت نزاعات في دول أخرى مثل : أنغولا ،

 و النزاع بين الشمال و الجنوب في السودان و كذا النزاعات التي ظهرت في فترة ما بعد الحرب الباردة مثل ليبريا ، يوغسلافيا ، و الصومال ، كل هذه التطورات الدولية حتمت على المجموعة الدولية إدراج هذه الظواهر على سلم أولوياتها كما حتم على الباحثين ايجاد إطار اكاديمي يتناول ظاهرة هشاشة و ضعف الدولة في مرحلة ما بعد الاستعمار، و تبني استراتيجيات و سياسات لإعادة بناء هذه الدول بما يتوافق و تحقق متطلبات و رفاه الشعوب . ما هو مفهوم عملية بناء الدولة ؟ و ماهي الغاية التي تسعى عملية بناء الدولة إلى تحقيقها؟ و ما هي المنطلقات و المرتكزات التي يقوم عليها مفهوم عملية بناء الدولة ؟.

 

 

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك