الجمعة - الموافق 29 مارس 2024م

الحلم الترامبي بديلا .. بقلم :- عبد الرازق أحمد الشاعر

حين تضع خدك فوق الوسادة، وتستدعي النوم دون جدوى، فتقلب وجهك يمنة ويسرة، وتميط وسادتك القاسية من تحت رأسك لتستبدلها بأخرى ليست أقل خشونة .. حين تهاجمك الذكريات عن يمين والوساوس عن شمال وتتراقص المخاوف بين عينيك، فتضع باطن ذراعك فوق جفنين أرهقهما البحث في وسائل التواصل عن مهرب من واقع تعس، فاعلم أنك لست الوحيد في هذا العالم القلق، وأن فرائس هذا العالم المسخ يقدرون بالملايين وأنهم مثلك يحلمون بغد أكثر دفئا أو أكثر احتمالا.
لكن اعلم أن الحالمين مثلك لا يصنعون التاريخ، ولا يغيرون أكثر من أكياس الوسائد تحت أقفيتهم لينعموا بموت أقل شناعة. هون عليك يا صديقي، فليس الصارمون في هذا العالم أقل بؤسا. صحيح أنهم يستطيعون تغيير بوصلات أقدامهم في أي لحظة، لكنهم مثلك تماما عاجزون عن تغيير بصمات أصابعهم وأحزان طفولتهم التي لا تفارقهم حتى الموت، وبعد الموت ربما.
مثلي ومثلك بطل قصة “ليك سكسس” الذي يقرر في نوبة سكر أحدثتها زجاجة ويسكي ثمنها ثلاثة وثلاثون ألف دولار أن يهجر زوجة تجيد الشجار كما تجيد وضع المساحيق فوق بشرتها الداكنة، وطفلا لم يتجاوز الثالثة، وفضيحة مالية وشيكة، وأمسا لا يريد أن يغادر أدراج ذاكرته المتعبة. ذات نشوة، يقرر “باري كوهين” أن يلقي ببطاقاته الائتمانية دفعة واحدة في أقرب سلة مهملات، ويشتري تذكرة حافلة ليطارد حلمه القديم.
عند محطة لا يجيد فيها المرء سوى الانتظار، يقف صاحبنا وقد بدت عليه آثار السكر ليجفف آثار دماء تخثرت فوق حاجبه الأيمن وعينه اليسرى. فقط لو أنه لم يسمح لمربية طفله أن تربي أظافرها على هذا النحو، لربما كان الجرح أقل عمقا. “فلتذهب المرأتان إلى الجحيم،” هكذا قرر كوهين. أليس من حقه أن يضرب ولده المصاب بالتوحد ليجبره على الكلام كباقي البشر؟ ألم يضربه أباه بعد وفاة أمه وهو في سن الخامسة بشكل أشد ضراوة وقسوة؟ وحدها “ليلى” تستطيع أن تعيد إليه شبابا سرقته تلك الهندية الرعناء.
لم يكن زواجا متكافئا من البداية، فكوهين ملياردير أبيض كهل في الأربعين من عمره، بينما “سيما” فتاة في ريعان شبابها تخرجت للتو من كلية الحقوق. ربما يشفع لها بعض الشيء أنها قامت بواجبات الزوجية خير قيام، وحافظت على المظاهر قدر ما تستطيع. لكنها رغم ذلك لم تستطع أن تترجم نجاح زوجها المادي إلى طفل يشبهه. كانت “سيما” أمريكية من أصول هندية، وجاء طفلها متوحدا لا يجيد الكلام كباقي الأطفال. ومن هنا بدأت المشاكل.
في المحطة، وقف كوهين لأول مرة كتفا لكتف مع الملونين والبسطاء وعابري المدن بحثا عن لقمة حلم. وفي الحافلة، استمع الملياردير الكهل إلى حوارات لم تثر تعاطفه مع فئة لطالما أدمن احتقارها. ما الذي جعله يعامل ذلك الهندي في تلك المحطة بتلك الفظاظة؟ أتراها العنصرية البغيضة التي لطالما تنصل منها؟ أم أنها بعض من سخط لم يستطع أن يصبه حال سكره فوق رأس زوجته الهندية الشرسة. يستطيع كوهين رغم ذلك أن يتعاطف مع الشباب البسطاء الذين دفعهم الإرهاق إلى النوم كيفما اتفق.
ترى هل تستطيع “ليلى” أن تعيد البسمة إلى شفتيه المشققتين بعدما قررت الانفصال هي الأخرى عن زوجها البغيض؟ وهل يستطيع إثر قرار مفاجئ أن يغير بوصلة السعادة التي ضلت به منذ أن كان طالبا جامعيا، ليعيد حبه القديم إلى صفحة الغلاف في حياة خلت إلا من المظاهر الفارغة؟ سؤال لم يرد “جاري شتاينجارت” أن يجيب عنه في قصته المدهشة، ولا يعنينا هنا في شيء.
في رواية “ليك سكسس” يحاول الكاتب بطريقة سلسة ماكرة انتقاد الحلم الأمريكي الذي تحول في عهد “ترامب” إلى كابوس أبيض. فهو مجتمع معجون بالعنصرية والكراهية والتشظى. مجتمع قابل للانشطار في أي لحظة، لولا أن تداركه رحمة الخليج وأموال النفط العابرة للبؤساء والمشردين والجوعى. لكنني لا أريد الخروج عن نص الغواية التي بدأت بها هذا المقال.
هل تستطيع – أيها الوسائدي البائس – أن تتخذ قرارا فوريا ودون أدني مقدمات بالتخلي عن حياة ألفتها عقدين أو ثلاثة أو تسعة، وأن تلقي بكل بطاقاتك الوجودية في سلة التاريخ، وأن تطارد حلمك القديم حتى النفس الأخير؟ هل يصبح “باري كوهين” نموذجا لحلم أمريكي كوني متفسخ يترك فيه المرء عن زوجته لترتب مواعيد زيارات الأطباء لطفل لم يتقبل وجوده في حياته؟ هل يصبح القفز في أي حافلة مارة حلما وجوديا لشباب فقدوا القدوة والمثل والقيم بعد أن ظلوا يحلمون بالعيش والحرية والكرامة في بلاد لم يعودوا يحملون لها أي قدر من انتماء؟
يقينا لن يستطيع “جاري شتاينجارت” وحده الإجابة على تساؤل بات يهدد أبناء هذا الكوكب المتصدع في الصميم، خاصة بعد أن ساهمت قوى الشر الكونية في تدمير القيم التي أفلحت في كبح نزوات “سيما” حتى حين بعد أن غاصت في وحل الخطيئة مع جارها الجواتيمالي الشاب. لكن الحق يقال أن “شتاينجارت” استطاع بجرأته المعهودة انتقاد الحلم الأمريكي الذي حسبه الظمأى في بلادنا المتعطشة للحرية ماء بعدما استحال كابوسا مقيما على يد “ترامب” ومعاونيه. في النهاية، هي مجرد محاولة لإلقاء إصبع التحذير في وجه القائمين على تدبير سياسة هذا العالم الآخذة في الانحلال والتفسخ. وأخيرا، فلتنم أيها المقهور كمدا، فلست أشد بؤسا من رجل غامر بكل ماضيه من أجل مستقبل يحكمه “ترامب”.

 

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك