السبت - الموافق 20 أبريل 2024م

الحكمة ضالة بقلم :- عبد الرازق احمد الشاعر

Spread the love

ذات شغف، جلس أحد حواريي سقراط بين يديه يلتمس علما. وحين طوى المعلم صحفه، وانتهى من لف ردائه الخشن حول جسده النحيل، تبعه

الحواري عن كثب. وانتبه فيلسوف اليونان العظيم إلى حفيف ثياب تلميذه، فالتفت إليه، وسأله عن حاجته، فقال الفتى وعيناه منكستان فوق صارية الرهبة:”أردت أن أتعلم منك الحكمة يا سيدي.” وعند بحر لجي يغشاه موج من فوقه سحاب، تدفقت الأقدام الأربعة نحو الأعماق. ولما بلغ الماء التراقي، أمسك سقراط بلحية تلميذه الخفيفة ورأسه يجره إليه، وبساعدين فتلهما الزمن، ضغط سقراط على رأس مريده، وكلما حاول الفتى أن يرفع رأسه، لوى المعلم رقبته وضغط بعضديه فوق كتفيه، حتى كادت روح الفتى أن تخرج من بين جنبيه. وأخيرا، أرخى المعلم قبضته، ورفع الفتى رأسه. وبعد أن التقط الفتى أنفاسه، وهدأ روعه، قال سقراط: “لو طلبت الحكمة كما كنت تطلب الهواء قبل ثوان، لما حال بينك وبينها شيء.” الحكمة ضالة، وعلى المؤمن أن ينشد ضالته وإن دفع في سبيل ذلك كل نفيس. ويقينا، لن يبلغ الحكمة من وضع رأسه فوق وسادة الإعلام الطرية يتلقى نتفة خبر من هنا، وشذرة نبإ من هناك، ليحيك بلسانه الذرب ثوبا غير متناسق من وعي غير مكتمل لأحداث مبتورة خرجت عن قضبان الفهم. لن يستطيع أريب ولا عالم نحرير أن يلم بتفاصيل ما يجري فوق كرة فقدت رشدها إن لم يضع رأسه تحت أمواج الفتن ليرى في ظلام النهايات نفقا يبسا أو يهلك دون مسعاه. لتكون حكيما أيها التلميذ المتمرد على سياسة القطيع، عليك أن ترفع عينيك فوق سلاسل الأحداث المتشابهة لترى أعمق مما يرى التافهون، وأن تقف فوق تلال المآسي الكونية، والأشلاء غير المتجانسة من جثث شتى، دون أن تسأل ربك “أتجعل فيها من يفسد فيها؟” فالحكمة تقتضي أن تخرج من سيل أحداث يحمل الجميع غثاء فوق رأسه، وإن سقٓطْتٓ فوق رأسك اليابسة. ارفع رأسك أيها المريد فوق الكتل والأحزاب، وتعالى على مهاترات المتقاتلين باسم الحمق وسافكي الدماء. فالذين يطلبون الحكمة لا يمسكون بذيل أحد، ولا ينتظرون إشارة من قريب. لا تقف فوق خرائب المدن لتبكي ملكا زال أو حكما دال، ولا تتناول أقراص الوهم من يد سياسي أو برلماني أو مقدم برامج. قف حيث أنت، وانشد الحكمة بقلب مخلص وعقل متجرد، فالحكمة وحي اختص الله به النابهين بعد الرسل. والتافهون لا يوحى إليهم، ومعدو البرامج حاملو مباخر في بلاط مستأجري القنوات. اخرج من أرض البراكين الذهنية لتنجو بما آتاك الله من بصيرة قبل أن تقع في شراك نصبها أعداء الله والإنسانية في كل الحارات والأزقة. اخرج من عنصريتك، واطرح لون جلدك، ولا تجلس أمام التلفاز والهاتف والحاسب إلا حسبما تقتضي الضرورة، وابحث في نفسك، فستجد الله هناك. أيها المنظر الفيلسوف السياسي التافه .. لابد وأن تكفر بالتفاهات كلها، وأن تعلو فوق ياقتك البيضاء وشراشفك الوثيرة، وطاولة أعمالك، وأن ترفع رأسك فوق وحل الحياة وبذاءة مجرياتها، وأن تجد لنفسك غارا كحراء، تكفر فيه بشرك القوم وتخلو بإلهك الذي اصطفاك لتكون ذبيحا فوق صلبان الهمجية والرجعية والردة. كن مسيحا ولا تنتظر المسيح. كن مٌخٓلصا وإن تأخر المخلص. ضج الكون بالمحللين، وغصت الميادين بالسياسيين، وقل الفهم وندرت الحكمة، فكن أنت الحكيم، وانج برأسك من دوائر الكراهية والعنف. أخرج رأسك من وحل التحزب والتفيؤ والعنف. فلن تستطيع أن ترى الله وأن داخل الصندوق، ولن تبلغ الحكمة وأن ترفع رأسك عاليا فقط لأنك “مصري”. يمكنك أن ترفع رأسك حين تفرغها من تفاهات التنظير، ويمكنك أن تتنفس عميقا حين توفر أنفاسك المتلاحقة في إقناع من لا يمكنك إقناعه. ويمكنك أم ترفع رأسك عاليا وأنت تقف فوق مدن الخراب وأشلاء الجثث وصفارات الإنذار. يمكنك أن ترتفع فوق الأحداث المتسارعة والفتن المتعاقبة والشهوات والصغائر. ويمكنك أن ترفع رأسك عاليا، لتناجي ربا لا تأخذه سنة ولا نوم قائلا: “افعل ما تشاء، فأنت من رفع الستار، ولن تسدله يد سواك.” عبد الرازق أحمد الشاعر

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك