الجمعة - الموافق 29 مارس 2024م

التواصل الحضاري وثقافة التسامح .. بقلم :- الدكتور عادل عامر

مقدمة:

ان التسامح الثقافي يتبلور من عدم التعصب للأفكار والثقافة الشخصية للفرد، فانه يتطلب حوار وتخاطب مع الاخر والحق في الاجتهاد والابداع، فان الإنسان لابد ان يكون صدره رحباً في قبول ثقافة وأفكار الاخر من اجل التوصل الى الحقائق الفكرية والثقافية.

لان الإرهابَ البَغِيضَ الذي يُهدِّدُ أمنَ الناسِ، سَواءٌ في الشَّرْقِ أو الغَرْبِ، وفي الشَّمالِ والجَنوبِ، ويُلاحِقُهم بالفَزَعِ والرُّعْبِ وتَرَقُّبِ الأَسْوَأِ، ليس نِتاجًا للدِّين -حتى وإنْ رَفَعَ الإرهابيُّون لافتاتِه ولَبِسُوا شاراتِه -بل هو نتيجةٌ لتَراكُمات المفهوم الخاطئةِ لنُصُوصِ الأديانِ وسِياساتِ الجُوعِ والفَقْرِ والظُّلْمِ والبَطْشِ

ان ثقافة التسامح تعمل على إزالة الحقد والكراهية الموجودة في ضمائر البشر والابتعاد عن مفهوم العنف والجريمة، وتعمل أيضا على تنمية روح المواطنة والديمقراطية بين الافراد من اجل خلق وعي سالم بعيد عن مظاهر التخلف الاجتماعي الذي يرتكز على ترسخ مبادئ الحقد والكراهية.

مشكلة البحث: تأتي في ان الثقافات التي ساهمت في تكوين هذا المجتمع، وأدّت إلى بلورة ثقافة أبنائه وعاداتهم الاجتماعية ونظرتهم للآخر مما ادي الي وجود خلل فكري ورواسب تاريخية أدت الي عدم وجود ثقافة التسامح بين مختلفي الملل والثقافات والأديان مما ادي الي ظاهرة التطرف الفكري والإرهاب المتنوع ضد امن وسلامة الشعوب والاوطان.

أسئلة البحث:

دور الأسرة في تشكّل الخليّة الاجتماعية الأولى في بناء المجتمع
دور المدرسة والمؤسسات التعليمية الأخرى في ترسيخ ثقافة التسامح
دور المؤسّسة الدينية في تنقية مناهجها الفكرية وترسيخ ثقافة التسامح
دور منظمات المجتمع المدني في ترسيخ ثقافة التسامح
أهداف البحث: يسعي البحت الي اثبات ان التّسامح مفهوماً أخلاقياً واجتماعياً ذا قيمة كبيرة، وأحد أهمّ المبادئ الإنسانية السامية، التي لا ترتبط بدين أو جنس أو ثقافة معيّنة، والتّسامح اصطلاحاً؛ يعني العفو، وعدم ردّ الإساءة بمثلها، طواعية وبكامل الإرادة،

ويدلّ على تقبّل اختلاف الآخر سواءً بالعرق أو العقيدة أو الاتجاه الفكري، والاستعداد للإنصات لرأيه والسماح له بالتعبير الحرّ عن أفكاره ومواقفه، واحترام ثقافته وقيمه وأساليبه الخاصة في الحياة، كما يدلّ هذا المفهوم على التفاهم الجماعيّ المتبادل بين مختلف الشعوب والمجتمعات والثقافات والأديان، تجمِع الأديان السماوية على أهميّة فضيلة التسامح، كوسيلة للتعايش السلميّ بين أفراد الأسرة البشرية،

وتعتبرها من أقدس القيم التي بعثَت لتحقيقها، وأكدت أهميتها وأثرها في صلاح الأفراد والمجتمعات والأمم، فقد دعا إليها جميع الرّسل والأنبياء والمصلِحين، واعتبروها زينة الفضائل كلّها، فالتسامح مرتبط جداً بالتقرّب من الله وتجسّد فعليّ لمعاني الدعوة إلى الخير والعدل والسلام، والتّعايش الحقّ بين الأديان هو من أجل الذات الإلهية، ثم لخدمة الحياة الإنسانيّة الكريمة، وتحقيق المبادئ الإنسانية العليا.

ويعبّر عن رفض مفاهيم التعصّب والإقصاء والاستعلاء العرقي والاجتماعي، كما أنّ التسامح مظهرٌ راق من مظاهر المجتمعـات المتحضرة، وسبيل أمثل لحماية العلاقات الاجتماعية وتماسكها، وجعلها أكثر قبولاً للتعايش السلميّ، في ظلّ اختلاف البشر في ألوانهم وأعراقهم ومعتقداتهم، وهو -أيضاً-ركيزة أساسيّة من ركائز حقوق الإنسان، والحريات الإنسانيّة العامّة، وأسلوب للوصول إلى عالم خالٍ من الخلافات والصّراعات والانتهاكات

أهمية البحث: يشير مفهوم التعايش إلى نوعٍ من أنواع التعاون المبنيّ على الثقة والاحترام، بهدف إيجاد أرضيّة تتلاقى عليها مختلف الأطراف، ويتمّ عن طريق الاقتناع والاختيار الكامل، والتحاور بين الأديان أو التعايش فيما بينها يعني إبراز منظومة القيم الإنسانيّة المشتركة كالتسامح، وضمان حقوق الإنسان وكرامته، وقد اتّفق المفكّرون والمصلحون على مبادئ عامة لا يمكن التفريط بها للتّعايش بين الأديان

من هنا تأتي أهمية البحث لان التّعايش بين الأديان هو تعايشٌ ثقافيّ وحضاريّ أيضاً، يهدف إلى خدمة الأهداف السّامية الّتي يعيش لأجل تحقيقها الإنسان. إن دعوة النصّ القرآنيّ إلى التسامح في مواقع كثيرة، ثم مجموعة أحداث السيرة النبوية بهذا الخصوص،

وما يزخر به الفكر والتاريخ والتراث الإسلامي من نماذج في تعايش المسلمين مع أصحاب الأديان الأخرى، دليلٌ على أنّ الإسلام دينُ رحمة ومحبّة وتعايش،

وتأكيدات لمعاني التسامح، وضرورته كشرط أساسيّ لبناء المجتمع الإنساني الذي ينظر الإسلام إلى أفراده على أنّهم أسرة واحدة.

منهج البحث: من الأهمية بمكان: ان تستند البحوث والدراسات الي القواعد النظرية العملية التي تساعد الباحث علي توجيه بحثه الي الأسباب التوضيحية والعوامل المفسرة ل (موضوع البحث) كما هي في دراستنا الراهنة تم استخدام المنهج الاستدلالي تُعَدُّ الأبحاث الإنسانية أو التربوية وبالتَّزامُن مع بعض المناهج العلمية الأخرى،

الفصل الأول: أهمية ثقافة التسامح في بناء الأمم

يحملُ الإيمانُ المؤمنَ على أن يَرَى في الآخَر أخًا له، عليه أن يُؤازرَه ويُحبَّه. وانطلاقًا من الإيمان بالله الذي خَلَقَ الناسَ جميعًا وخَلَقَ الكونَ والخلائقَ وساوَى بينَهم برحمتِه، فإنَّ المؤمنَ مَدعُوٌّ للتعبيرِ عن هذه الأُخوَّةِ الإنسانيَّةِ بالاعتناءِ بالخَلِيقةِ وبالكَوْنِ كُلِّه، وبتقديمِ العَوْنِ لكُلِّ إنسانٍ، لا سيَّما الضُّعفاءِ منهم والأشخاصِ الأكثرِ حاجَةً وعَوَزًا.

سِباقِ التَّسلُّح، والظُّلمِ الاجتماعيِّ، والفسادِ، وعدَمِ المُساواةِ، والتدهورِ الأخلاقيِّ، والإرهابِ، والعُنصُريَّةِ والتَّطرُّفِ، وغيرِها من الأسبابِ الأُخرى.

إنَّ التاريخَ يُؤكِّدُ أنَّ التطرُّفَ الدِّينيَّ والقوميَّ والتعصُّبَ قد أثمَرَ في العالَمِ، سواءٌ في الغَرْبِ أو الشَّرْقِ، ما يُمكِنُ أن نُطلِقَ عليه بَوادِر «حربٍ عالميَّةٍ ثالثةٍ على أجزاءٍ»، بدَأَتْ تَكشِفُ عن وَجهِها القبيحِ في كثيرٍ من الأماكنِ، وعن أوضاعٍ مَأساويَّةٍ لا يُعرَفُ -على وَجْهِ الدِّقَّةِ -عَدَدُ مَن خلَّفَتْهم من قَتْلَى وأرامِلَ وثَكالى وأيتامٍ، وهناك أماكنُ أُخرَى يَجرِي إعدادُها لمَزيدٍ من الانفجارِ

وتكديسِ السِّلاح وجَلْبِ الذَّخائرِ، في وَضْعٍ عالَمِيٍّ تُسيطِرُ عليه الضَّبابيَّةُ وخَيْبَةُ الأملِ والخوفُ من المُستَقبَلِ، وتَتحكَّمُ فيه المَصالحُ الماديَّةُ الضيِّقة.

وهنا تَظهَرُ ضرورةُ الأُسرَةِ كنواةٍ لا غِنى عنها للمُجتمعِ وللبشريَّةِ، لإنجابِ الأبناءِ وتَربيتِهم وتَعليمِهم وتَحصِينِهم بالأخلاقِ وبالرعايةِ الأُسريَّةِ، فمُهاجَمةُ المُؤسَّسةِ الأسريَّةِ والتَّقلِيلُ منها والتَّشكيكُ في أهميَّةِ دَوْرِها هو من أخطَرِ أمراض عَصرِنا.

القناعةُ الراسخةُ بأنَّ التعاليمَ الصحيحةَ للأديانِ تَدعُو إلى التمسُّك بقِيَمِ السلام وإعلاءِ قِيَمِ التعارُّفِ المُتبادَلِ والأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ والعَيْشِ المشترَكِ، وتكريس الحِكْمَةِ والعَدْلِ والإحسانِ، وإيقاظِ نَزْعَةِ التديُّن لدى النَّشْءِ والشبابِ؛ لحمايةِ الأجيالِ الجديدةِ من سَيْطَرَةِ الفكرِ المادِّيِّ، ومن خَطَرِ سِياساتِ التربُّح الأعمى واللامُبالاةِ القائمةِ على قانونِ القُوَّةِ لا على قُوَّةِ القانونِ.

أنَّ الحريَّةَ حَقٌّ لكُلِّ إنسانٍ: اعتقادًا وفكرًا وتعبيرًا ومُمارَسةً، وأنَّ التَّعدُّدِيَّةَ والاختلافَ في الدِّينِ واللَّوْنِ والجِنسِ والعِرْقِ واللُّغةِ حِكمةٌ لمَشِيئةٍ إلهيَّةٍ، قد خَلَقَ اللهُ البشَرَ عليها، وجعَلَها أصلًا ثابتًا تَتَفرَّعُ عنه حُقُوقُ حُريَّةِ الاعتقادِ، وحريَّةِ الاختلافِ، وتجريمِ إكراهِ الناسِ على دِينٍ بعَيْنِه أو ثقافةٍ مُحدَّدةٍ، أو فَرْضِ أسلوبٍ حضاريٍّ لا يَقبَلُه الآخَر.

أنَّ العدلَ القائمَ على الرحمةِ هو السبيلُ الواجبُ اتِّباعُه للوُصولِ إلى حياةٍ كريمةٍ، يحقُّ لكُلِّ إنسانٍ أن يَحْيَا في كَنَفِها.

أنَّ الحوارَ والتفاهُمَ ونشرَ ثقافةِ التسامُحِ وقَبُولِ الآخَرِ والتعايُشِ بين الناسِ، من شأنِه أن يُسهِمَ في احتواءِ كثيرٍ من المشكلاتِ الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والبيئيَّة التي تُحاصِرُ جُزءًا كبيرًا من البَشَرِ.

أنَّ الحوارَ بين المُؤمِنين يَعنِي التلاقيَ في المساحةِ الهائلةِ للقِيَمِ الرُّوحيَّةِ والإنسانيَّةِ والاجتماعيَّةِ المُشترَكةِ، واستثمارَ ذلك في نَشْرِ الأخلاقِ والفَضائلِ العُلْيَا التي تدعو إليها الأديانُ، وتَجنُّبَ الجَدَلِ العَقِيمِ.

– أنَّ حمايةَ دُورِ العبادةِ، من مَعابِدَ وكَنائِسَ ومَساجِدَ، واجبٌ تَكفُلُه كُلُّ الأديانِ والقِيَمِ الإنسانيَّةِ والمَوَاثيقِ والأعرافِ الدوليَّةِ، وكلُّ محاولةٍ للتعرُّضِ لِدُورِ العبادةِ، واستهدافِها بالاعتداءِ أو التفجيرِ أو التهديمِ، هي خُروجٌ صَرِيحٌ عن تعاليمِ الأديانِ، وانتهاكٌ واضحٌ للقوانينِ الدوليَّةِ.

أنَّ مفهومَ المواطنةِ يقومُ على المُساواةِ في الواجباتِ والحُقوقِ التي يَنعَمُ في ظِلالِها الجميعُ بالعدلِ؛ لذا يَجِبُ العملُ على ترسيخِ مفهومِ المواطنةِ الكاملةِ في مُجتَمَعاتِنا، والتخلِّي عن الاستخدام الإقصائيِّ لمصطلح «الأقليَّاتِ» الذي يَحمِلُ في طيَّاتِه الإحساسَ بالعُزْلَةِ والدُّونيَّة، ويُمهِّدُ لِبُذُورِ الفِتَنِ والشِّقاقِ، ويُصادِرُ على استحقاقاتِ وحُقُوقِ بعض المُواطِنين الدِّينيَّةِ والمَدَنيَّةِ، ويُؤدِّي إلى مُمارسةِ التمييز ضِدَّهُم.

ان التسامح في حرية الممارسة الشعائر الدينية والتخلي عن التعصب الديني والتميز العنصري الديني وذلك لان الإسلام دين التسامح في العدل والمساواة. هو طريق التعامل الاخلاقي مع الافراد الذين نختلف معهم في القضايا الاجتماعية التي تؤثر فيهم.

ان التسامح الاجتماعي يتضمن العيش بسلام مع الاخرين بدون مشاكل وتقبل أفكارهم وممارساتهم التي قد يختلف معها الفرد وكذلك الإقرار بممارسة كافة الحقوق الحريات في المجتمع. ان ثقافة التسامح تضمن القدرة على تنمية الثقافة الدينية والاجتماعية وتقوية العلاقة الاجتماعية بين الافراد، وكذلك القدرة على نبذ التعصب والتشدد في القرار والإجراءات الاجتماعية وتعزز الشعور بالتعاطف والرحمة والحنان في قلوب وضمائر البشر

ان ثقافة التسامح تجعل الافراد يودون ويحبون بعضهم البعض في علاقاتهم الاجتماعية مما يساهم في نشر الاحترام والتعاون والتبادل في حل كافة المشاكل التي تؤدي الى زعزعت علاقاتهم الاجتماعية. اذ انها تجعل من الافراد يعشون حياة متفائلة وبعيده عن التشاؤم والاكتئاب والحقد لأنه يتجسد في داخلهم مفاهيم العفو والحب.

ان ثقافة التسامح هي الطريق الى الشعور بالسلام الداخلي والسعادة والشعور بهذا الإسلام متاح دائما لنا. اذ انه خروج من الظلمة الى النور. وكذلك تؤدي الى ابراز السلام الاجتماعي بين الدول وبين الافراد من اجل العيش حياة اجتماعية خالية من مشاكل الحروب والنزاعات والصراعات التي تحدث بين الأفراد.

تشخيص ثقافة التسامح في المجتمع المصري

بقي مجتمعنا محافظاً على قيمه الثقافية والدينية وعلى راسها قيم التآزر والمحبة والتعاون والتفاعل والتسامح بين فئاته الاخرى. فثقافة التسامح هذه يمكن ترسيخها في نفوس الافراد من خلال التنشئة الاسرية والمدرسية والتي يقع عليهما مسؤولية تربية وتوجيه وإرشاده وترسيخ المحبة والتفاعل بين الافراد فمن جهة التنشئة الاسرية التي تعد اول خلية اجتماعية ثقافية نفسية تعمل على تنمية وتربية الفرد منذ النشأ الى سن المراهقة،

فضلا عن تعرضها لتلك الكوارث الا انها كان لها دور مهما في ترسيخ وتنمية القيم المحبة والتسامح بين افردها، وذلك لان الطفل يتكسب قيم التسامح من المحيط الذي يعيش منه بمعنى على الوالدين ان يكونا في علاقاتهما الاجتماعية والثقافية مبنية على التشاور والاحترام والتعاون فيما بينهم وبين أقاربهم او أصدقائهم بدلا من اثارة الحقد والكراهية في علاقاتهم الاجتماعية. اما التنشئة المدرسية والتي تعد ثاني وسط ثقافي واجتماعي فمهمتها تنمية مفاهيم الديمقراطية وحرية التعبير داخل الصفوف الدراسية

وأيضا بث التعاون والتبادل الأفكار بين التلاميذ من جانب وبين التلاميذ والمربيين التربويين من جانب اخر وان تعزيز هذه المحبة والتسامح لا يأتي الا من خلال المناهج الدراسية وأساليب تعامل المربيين التربويين مع التلاميذ داخل الصفوف الدراسية أضف الى ذلك تخليها عن مظاهر التطرف الثقافي والفوارق الطبقية والثقافية والاقتصادية التي يمتلكها البعض والبعض الاخر لا يمتلكها.

وزيادة على ذلك فالدين الإسلامي جعل من التسامح قيمة دينية لان دين الإسلام، دين المحبة والتسامح بين الناس والبشرية جمعاء، رغم ان ذوات الانسان جزء منها وسائل القسوة والعنف والعدوان الان ان الدين الإسلامي دين محبة وتسامح بين البشرية جمعاء، وعليه تعد القيمة الدينية للتسامح عنصر رئيساً في تكوين ثقافة أي مجتمع من اجل أدارك افراده على التفاعل والتعاون وترسيخ الاحترام

وتكوين علاقات اجتماعية قوية فيما بينهم، لذلك فان ثقافة التسامح توفر للفرد صيغة سلوكية ثقافية اجتماعية تعمل على تكوين العلاقات الاجتماعية الإيجابية وتنظم المجتمع والحفاظ على استقراره وفقاً لمصالح ومتطلبات افراده اذ أن التسامح يعد جوهر عملية الضبط الاجتماعي الممارس على الافراد عند قيامهم بسلوك مخالف لسياقات الفرد فالتسامح يستقر في ضمير الفرد ويشعره بالارتياح عند التخلي من المخالفات التي تصدر من خلاله.

ومن هذا المنطلق فثقافة التسامح تعمل على خلق وعي ثقافي اجتماعي للعلاقات الاجتماعية المبنية على التعاون والتبادل بين الافراد، اذ ان العلاقة الاجتماعية التي تحدث بين الافراد تختلف حسب نمط المكانة والمركز والشهادة والثقافة المعرفية وكذلك حسب نمط الدين، فالثقافة كما تصورها الانتروبولوجيين بانها كل القيم والمعاني والمعتقدات والعادات والقوانين يكتسبها الفرد من الجماعة التي تحيط به والمجتمع الذي يعيش فيه، ومن هنا نجد ان التسامح هو سلوك شخصي اجتماعي يصدر من قبل الفرد دون وقوع أي هجوم على حقوق الفرد الاخر بمعنى استعداد الفرد ان يترك الاخر بالتعبير عن حرية أفكاره وثقافة ولا يمكن مخالفته والتصدي له.

وعليه نجد ان قيم ثقافة التسامح تعمل على تحقيق التآزر والمحبة والتعاون والألفة والانسجام، كما تعمل على مساعد الفرد في التحمل للمسؤولية من اجل الوقوف بوجه مشاكل الحياة الاجتماعية اذ انها تنمي مشاعر الإحساس الاجتماعي بالمجتمع. وإن حصول خلل في طبيعة قيم المسامحة لدى الافراد سيؤدي إلى تكوين الشخصية المضطربة،

وبالتالي فإن الشخصية المضطربة تصبح بنيتها أكثر تفككا واستعدادا لتشرب القيم الأجنبية الوافدة والسلبية، وذلك بدوره يؤدي إلى حالة من التذبذب على مستوى الانتماء الثقافي وهذا الوضع ربما يقود صاحبه إلى الانعزال عن مجتمعه وبالتالي يصبح مغترباً عن واقعه الاجتماعي والديني والثقافي.

ومن اجل تحقيق ثقافة التسامح هناك جملة من التوصيات منها:

1-ضرورة معالجة المشاكل الاجتماعية التي تعاني منها الشخصية العراقية، والعمل على إزالة الفوارق بين الجنسين سواء في المستوى الثقافي او الطبقي من اجل بث أسس روح المحبة والتسامح في نفوس الافراد وتقوية أواصر العلاقات الاجتماعية بين الافراد.

2-الحث على العفو وتقديم الاحترام للأخرين وعدم الانتقام وقلع جذور الحقد والعدوان والكراهية من نفوس الافراد.

3-أن يتوجه الإعلام نحو تعزيز ثقافة التسامح في المجتمع لخلق وعي محب والحث على التمسك بكيان المجتمع ووحدته وقيمه. والقيام بمراجعه شاملة لمحتوى المناهج الدراسية وتطويرها بما يمكننا من مواجهة اثار العنف الاجتماعية على حقوق الافراد.

4ضرورة أن تتولى المؤسسة الدينية ترسيخ ثقافة التسامح من خلال الخطب الدينية والمحاضرات والمناسبات من اجل تعريف دول العالم بالإسلام الانساني.

هذه حقيقة من الحقائق التي ينبغي على كل عاقل أن يعرفها حتى لا يتصور الكمال في الإنسان فالكمال يبقى لله تعالى وحده. فالأخطاء التي يرتكبها الإنسان في حق غيره يمكنها أن تخلق مشاكل وأزمات نفسية واجتماعية خطيرة وهذا ما يقوض حياة الإنسان ويجعلها صعبة للغاية.

ومن أجل التعايش السلمي مع الناس والتغلب على هذه المشاكل والأزمات الناتجة عن الذنوب والأخطاء، دعا الشرع الحنيف إلى التحلي بخلق “التسامح”، وهو من الأخلاق الإسلامية الحميدة الذي يمكن اعتباره باللحمة التي تشد الناس بعضهم بعضا.

التسامح فطري ومكتسب:

فالتسامح فطري في الإنسان والدليل على ذلك أن الطفل الصغير يغضب ويتسامح في نفس الوقت

وهو مكتسب يكتسبه الإنسان من خلال مجاهدة النفس ومعاشرة الأخيار والامتثال للتعاليم السماوية.

العفو من أسماء الله الحسنى:

فمن أسماء الله الحسنى “العفو” و”الغفار “و”الغفور”.

قال تعالى:﴿ إن الله لعفو غفور) الحج60

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يارسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال

صلى الله عليه وسلم: “قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”رواه الترمذي.

قال تعالى:﴿ ألا هو العزيز الغفار ﴾الزمر5.

فالإنسان مهما بلغت ذنوبه وعظمت إن تاب إلى الله يغفرها الله له.

وقال تعالى:﴿ وإني لغفار لمن تاب وءامن وعمل صالحا ثم اهتدى ﴾طه82.

وقال تعالى:﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا ﴾الزمر53.

فالإنسان ضعيف بطبعه خطاء بفطرته، ففي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون” رواه الترمذي فلو يؤاخذ الله الناس بذنوبهم لهلكوا جميعا. لكنه يعطي لهم الفرصة لعلهم يتوبوا إليه تعالى ويصلحوا، قال تعالى:﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون ﴾النحل 61.

وقال تعالى:﴿ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويغفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون ﴾الشورى25.

وقال تعالى:﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ﴾الشورى30.

العفو والصفح من أخلاق الرسل عليهم السلام.

حكى لنا القرآن الكريم مثالا رائعًا في قصة نبي الله يوسف -عليه السلام-مع إخوته، بعد أن حسدوه لمحبة أبيه له، فألقوه في البئر ليتخلصوا منه، وتمرُّ الأيام ويهب الله ليوسف -عليه السلام-الملك والحكم، ويصبح له القوة والسلطان بعد أن صار وزيرًا لملك مصر.

وجاء إليه أخوته ودخلوا عليه يطلبون منه الحبوب والطعام لقومهم، ولم يعرفوه في بداية الأمر، ولكن يوسف عرفهم ولم يكشف لهم عن نفسه، وترددوا عليه أكثر من مرة، وفي النهاية عرَّفهم يوسف بنفسه، فتذكروا ما كان منهم نحوه، فخافوا أن يبطش بهم، وينتقم منهم؛

لما صنعوا به وهو صغير، لكنه قابلهم بالعفو الحسن والصفح الجميل، وقال لهم: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.

وقال تعالى مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم وهو خطاب لكل مسلم:﴿ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ﴾الأعراف199.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم:”يا جبريل ما هذا العفو؟ فقال: “إن الله تعالى يأمرك أن تعفوا عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك”أخرجه ابن مردودية بإسناد حسن.

ويأمر الله عزوجل الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يتجاوز عن اليهود الضالين في قوله تعالى:﴿ فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به، ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم، فاعف عنهم واصفح، إن الله يحب المحسنين ﴾المائدة13

ولما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام صبيحة الفتح ووجد رجالات قريش جالسين مطأطئين الرؤوس ينتظرون حكم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لهم:”يامعشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ “قالوا أخ كريم وابن أخ كريم، قال: “اذهبوا فأنتم الطلقاء “، فعفا عنهم بعدما ارتكبوا من الجرائم ضده وضد أصحابه ما لا يحصى عده، ومع هذا فقد عفا عنهم ولم يعنفهم، ولم يضربهم ولم يقتلهم.

العفو والتسامح من أخلاق المسلم:

المسلم الحق يتخلق بأخلاق الله تعالى فلقد ورد في الأثر: “تخلقوا بأخلاق الله تعالى”، ويتخلق بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم. ويمتثل لتعاليم الشرع الحنيف.

والتسامح غالبا ما يشق على النفس الإنسانية، لذا نجد الحقد والبغض والكراهية والرغبة في الانتقام من السلوكيات الشائعة والمنتشرة بكثرة في نفوس الماديين وضعاف الإيمان. وهذه السلوكيات يمكنها أن تمتد لفترة طويلة تستغرق سنوات.

بينما المسلم التقي دائما نجد لديه الرغبة والاستعداد للعفو والتسامح مستحضرا ثواب الله عزوجل وتعاليم الشرع الحنيف ففي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث”.

التسامح ينعكس أساسا على الذات:

اسمح يسمح لك واغفر يغفر لك، هذا من إحدى قوانين الحياة، فالجزاء من جنس العمل.

قال تعالى:( وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، والله غفور رحيم ﴾النور22.

والصفح ينبغي أن يكون تاما وجميلا لا مجرد التظاهر بالتسامح حتى يتحرر الفرد من الشحنات السالبة التي تؤرق مضجعه وتنهشه من داخله. قال تعالى مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم وهو خطاب لكل مسلم:(فاصفح الصفح الجميل ﴾الحجر85.

وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم “رحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم” رواه مسلم.

فالتسامح يعمل على تحرير الفرد من المشاعر السلبية من حقد وبغض وأضغان لتحل محلها المشاعر الإيجابية وهذا لمن شانه أن يحقق له الراحة النفسية، فالمتسامح إنســـان سعيد، هادئ البال، مطمئن القلب، وطيب النفس.

وفي المقابل فإن الفرد الذي لا يتسامح يعمل على إيذاء نفسه من خلال احتضان المشاعر السلبية في داخله والتي تعمل على نهشه وخلق الصراعات بداخله مما يجعله يعيش في حيرة وقلق واكتئاب. والمتسامح إنسان محبوب يحظى بقبول اجتماعي، فلقد قالوا: “المسامح كريم “، وفي أمثالنا العربية: “العفو عند المقدرة من شيم الكرام”. والعفو لا يزيد الفرد إلا عزا، ففي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:” ما نَقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزَّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله” [مسلم].

فالعفو والتسامح يجعل الإنسان يكسب قلوب الناس، وهذا لمن شأنه أن يغني شخصيته ويثري حياته، في حين أن الانتقام يجعل الإنسان محط نفور وكراهية، فيعيش معزولا ووحيدا فمن فقد شخصا فكأنما فقد جزءا من شخصيته.

التسامح يؤدي إلى الوحدة والتماسك:

إن جو الخصام والرغبة في الانتقام لا يمكنه إلا أن يعمل على تمزيق العلاقات بين الناس، بينما التسامح من الأخلاق الفاضلة التي تعتبر كاللحمة التي تشد الناس بعضهم بعضا، فتجعلهم يعيشون في وحدة وتماسك. فالتسامح إذن ينعكس إيجابيا على المجتمع.

والإنسان المسلم إنسان مسامح، ويعمل على إشاعة خلق التسامح بين الناس من خلال التربية والتوعية والإصلاح بين الناس.

قال تعالى:﴿ إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) الحجرات10.

ومن أصلح بين الناس يجازيه الله بالأجر العظيم.

قال تعالى:﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ﴾النساء114.

والإصلاح بين الناس أفضل من صيام النافلة ومن صلاة النافلة ومن صدقة النافلة. فالنوافل يعود نفعها على الذات، أما الإصلاح فيعود نفعه على المجتمع ففي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة “رواه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح.

العفو من مرتبة من مراتب الإحسان:

فالعفو والتسامح مرتبة من مراتب الإحسان ولنتدبر قوله تعالى:(وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله) الشورى 40. فمن باب العدل أن يرد الإنسان الإساءة

الإساءة بمثلها خصوصا إذا تكررت الإساءة من غيره، وهذا يبيحه الشرع من أجل صون كرامته. لكن ومن باب الإحسان أن يعفو الإنسان عمن أساء له وظلمه ويؤكد هذا قوله تعالى: أ (فاعف عنهم واصفح، إن الله يحب المحسنين ﴾المائدة13.

ملحوظة: إذا رد الإنسان الإساءة بإساءة أكبر منها، فهذا يدخل في إطار الظلم وهو محرم شرعا.

التسامح دليل على قوة الشخصية:

فالتسامح من صفات الأقوياء لا الضعفاء كما يتوهم الكثير من الناس. فالمتسامح إنسان قوي استطاع أن يغلب نفسه وهواه، هذه هي قمة القوة ففي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “جئتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال: جهاد النفس”. وفي حديث آخر: “ليس الشديد (أي القوي) من غلب الناس ولكن الشديد من غلب نفسه” رواه مسلم. وفي بعض الأدعية:”يارب علمني أن أحب الناس كلهم كما أحب نفسي وعلمني أن أحاسب نفسي كما أحاسب الناس، وعلمني أن التسامح هو أكبر مراتب القوة وأن الانتقام هو أول مظاهر الضعف”.

التسامح سبيل إلى العزة:

بعض الناس قد يزهد في العفو لظنه أنه يورثه الذلة والمهانة فقد أتى النص القاطع يبين أن العفو يرفع صاحبه ويكون سبب عزته. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله “رواه مسلم

التسامح سبيل إلى الجنة:

عن أنس رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟

فقال: رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. قال الله تعالى: أعط أخاك مظلمته قال: يا رب لم يبق من حسناتي شيء قال: رب فليحمل عني أوزاري قال: ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال: إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم فقال الله تعالى للطالب: ارفع بصرك وانظر في الجنان فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ. لأي نبي هذا؟

لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال: هذا لمن أعطى ثمنه قال: يا رب ومن يملك ثمنه؟ قال أنت تملكه قال: ماذا يا رب؟ قال: تعفو عن أخيك قال: يا رب فإني قد عفوت عنه قال الله تعالى: خذ بيد أخيك فادخلا الجنة “. الحديث بطوله أخرجه ابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله، والحاكم في المستدرك – وأورده ابن كثير في تفسيره.

فالمسامح كريم وهو من أهل الفضل الذي يحظى بالجنة دار النعيم الأبدي ففي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى مناد: ليقم أهل الفضل، فيقومون وهم قليل فيسيرون سراعا إلى الجنة، فتستوقفهم الملائكة فتقول لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الفضل، فيقولون لهم، وما فضلكم؟ قالوا: كنا إذا ظُلمنا صبرنا، وإذا أسيئ إلينا عفونا، وإذا جهل علينا حلمنا فتقول لهم الملائكة: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين”.

التسامح في الإسلام

الإسلام دين عالمي يتّجه برسالته إلى البشرية كلها، تلك الرسالة التي تأمر بالعدل وتنهى عن الظلم، وتدعو إلى التعايش الإيجابي بين البشر جميعًا في جو من الإخاء والتسامح بين كل الناس بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم. فالجميع ينحدرون من «نفس واحدة»، كما جاء في القرآن الكريم:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾(النساء:1).

قال الله تعالى في كتابه العزيز “خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾(الأعراف 199). والتسامح يحث المسلم الاستعداد للسماح بالتعبير عن الأفكار والمصالح التي تتعارض مع أفكارنا ومصالحنا، وهو القبول والتقدير للتنوّع الثقافي والصفات الإنسانية المختلفة.

إن هذا التعريف للتسامح، يعني قبل كل شيء اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوقهم وحرياتهم الأساسية، كما وأن ممارسة التسامح لا تتعارض مع احترام حقوق الإنسان، ولا تعني تخلي المرء عن حقوقه ومعتقداته أو التهاون بشأنها وأهميتها.

إن المجتمع الإنساني ينطوي على درجة كبيرة من التباين، التباين في العدد الكبير من الأعراق والأجناس والأديان والقوميات التي تحمل قيمًا ومعتقدات تؤدي إلى ثقافات مختلفة،

فلا يجوز أن يُنظر إلى اختلاف الجماعات البشرية في أعراقها وألوانها ومعتقداتها ولغاتها على أنها تمثل حائلاً يعوق التقارب والتسامح والتعايش الإيجابي بين الشعوب. فقد خلق الله الناس مختلفِين:﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾(هود: 118).

إن هذا الاختلاف بين الناس في أجناسهم ولغاتهم وعقائدهم لا ينبغي أن يكون منطلقًا أو مبررًا للنـزاع والشقاق بين الأمم والشعوب، بل الأحرى أن يكون هذا الاختلاف والتنوع دافعًا إلى التعارف والتعاون والتآلف بين الناس من أجل تحقيق ما يصْبون إليه من تبادل للمنافع وتعاون على تحصيل المعايش وإثراء للحياة والنهوض بها.

ومن هنا يقول القرآن الكريم:﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾(الحجرات:13)، والتعارف هو الخطوة الأولى نحو التآلف والتعاون في جميع المجالات.

التسامح الديني

إن الإسلام الذي جاء به رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم حمل بين طياته قوانين عدة مهمة عملت على نشره في شتى أرجاء العالم الأكبر. فمن أشهر هذه القوانين المهمة هو قانون: اللين والتسامح الذي أكدت عليه الآيات المباركة فضلاً عن الأحاديث الشريفة. ففي القرآن الكريم هناك أكثر من آية تدعو إلى اللين والسلم ونبذ العنف والبطش منها:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(البقرة:62)

﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(النحل:125)

﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾(الفرقان:63).

﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(العنكبوت:46).

﴿ خذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾(الأعراف:199).

﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾(الأنعام:108).

فالإسلام دين يسعى من خلال مبادئه وتعاليمه إلى تربية أتباعه على التسامح إزاء كل الأديان والثقافات. ونظراً لما للدّين من عمق عميق في النفوس،

فإن الحوار بين الأديان لا يمكن أن يكتب له النجاح إلا إذا ساد التسامح بين المتحاورين، وحلّ محل التعصب المعتاد بين أتباع الديانات المختلفة. وقد حرص الإسلام كل الحرص على تأكيد هذا التسامح بين الأديان بجعله عنصرًا جوهريًا من عناصر عقيدة المسلمين.

فالأديان السماوية جميعها تُعد في نظر الإسلام حلقات متصلة لرسالة واحدة جاء بها الأنبياء والرسل من عند الله على مدى التاريخ الإنساني. ومن هنا فإن من أصول الإيمان في الإسلام الإيمان بجميع أنبياء الله ورسله وما أنزل عليهم من وحي إلهي. وفي هذا يقول القرآن الكريم:﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾(البقرة: 285).

التسامح في السنة النبوية

أما التسامح من وجهة نظر السنة النبوية، فهو التساهل والمساهلة في كل جوانب الحياة، لذلك جاء قول الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرئ سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى).

إن سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كانت أبرز تجلٍّ ومصداق لسلوك منهجية السلام والتسامح في الأمة، فالرسول الأكرم صلى الله عليه حامل راية السلم والسلام لأنه يحمل للبشرية النور والهداية والخير والرشاد والرحمة والرأفة فيقول صلى الله عليه وسلم:(إنما أنا رحمة مهداة)، ويتحدث القرآن الكريم عن رسالته فيقول:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء:107)، فأن الرحمة والسلم والسلام جاء بها الإسلام للناس كافة.

ولقد حضَّ الإسلام على الإصلاح بين المتخاصمين، وأجاز الكذب في ذلك؛ لما يترتب على ذلك من مصالح عامَّة، تُذهب الحقد والبغضاء، والعداوة والشحناء، وسفك الدماء، ويحلُّ مكانها الحبُّ والوئام، والسلامة والأمان، ويكون ذلك بالعفو، والتسامح، وكظم الغيظ.

التسامح في الاديان الاخرى

لم يشتمل الإسلام وحده على مبادئ التسامح، فالمسيحية ايضاُ دعت في أنجيلها (الكتاب المقدس) الى تبني مبادئ التسامح في أَجْلى صوره، وهذا دليل على تشارك الأديان السماوية في هذا الجانب الفضيل من جوانب الحياة ولا غرابة في ذلك لان الربّ واحد ومشرّع القيم السمحة واحد، على الرغم من اختلاف الأنبياء والأديان. وقد ظهرت الدعوة الى التسامح في المواقع التالية:

“سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا. ومنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْن” (الاصحاح متى 5: من اية 38-41).

وَلاَ تَدِينُوا فَلاَ تُدَانُوا. لاَ تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلاَ يُقْضَى عَلَيْكُمْ. اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ (إنجيل لوقا 6: اية 37).

لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا، لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ) إنجيل متى 7, اية 1-2).

وهكذا فأن التسامح الديني مطلب إنساني نبيل دَعَت إليه الأديان كافة، وكيف لا تدعو إليه وقد أرادته الحكمة الإلهية واقتضته الفِطرة الإنسانية واستوجبته النشأة الاجتماعية وفرضته المجتمعات المدنية وحتّمته وما تحتاج إليه من قِيَم حضارية ومَدنية نبيلة.

الفصل الثاني: -التسامح والتواصل الحضاري

التسامح والتواصل الحضاري ومفهوم التسامح والعفو والتفاهم من اجل السلام حيث اهتمت العديد من المجالات بتوضيح مفهوم التسامح، كالدين، والمجتمع، والثقافة، ويمكننا تعريف التسامح كما يلي:

يعرفه الدين الإسلامي على أنه مبدأ إنساني يدفع الشخص إلى نسيان الأحداث الماضية، والتي سببت له الألم والأذى بكامل إرادته، وكذلك التخلي عن فكرة الانتقام، والتفكير بالأمور الإيجابية لدى الناس وعدم الحكم عليهم وإدانتهم،

يعرف التسامح اصطلاحاً

على أنه القدرة على العفو عن الناس، وعدم رد الإساءة بالإساءة، والتحلي بالأخلاق الرفيعة التي دعت لها كافة الديانات والأنبياء والرسل، وهذا كله سيعود على المجتمع بالخير من خلال تحقيق الوحدة والتضامن والتماسك، والابتعاد عمّا يفسد المجتمع من خلافات وصراعات

التسامح عند حقوق الإنسان

هو قيمة تتعلق بشكل وثيق بالحقوق التي يتميز بها النظام الديموقراطي كحرية التعبير عن الرأي، وتنظيم المجتمع ومساواته أمام القانون، وحقوق أسرى الحرب، واحترام رأي الأقلية وعدم تهميشهم أو إلحاق الأذى بهم، وهو قبول اختلاف الصفات الإنسانية الفكرية والخلقية، وبأن لكل فرد في هذا المجتمع حقاً يجب على الجميع الإقرار به وعدم التعدي عليه، وهو لا يعني تخلي الفرد عن حقوقه ومعتقداته، بل الالتزام بها واحترام من يخالفه الرأي دون التعدي عليه

التسامح والتواصل الحضاري

مفهوم التسامح في الحضارات

يتعلَّقُ مفهوم التَّسامح برُكنَين مترابطين، هما الحقوق والواجبات؛ إذ يتعيَّن على الإنسان أن يعرف حقوقه ومبرِّرات الحصول عليها من جهة، ويفهم واجباته ودوافعه تجاه تحقيقها من جهة أخرى.

تعريف التَّسامح

ويشيرُ تعريف التَّسامح بناءً على هذه المرتكزات إلى تدشين المعاملات بما يتناسب مع الاختلافات؛ فالتَّسامح هو نوعٌ من القدرات التي تُحتِّم على الإنسان العيش مع المتغيِّرات، والتصرُّف السويّ مع كافَّة الاختلافات والتداخلات مع تعميم ثقافة احترام تلك الاختلافات،

ممّا يُنتج بيئةً تكامُليَّة من التعاملات البشرية القائمة على مبادئ المساواة واحترام الآخر، وعلى الرّغم من كونِ تلك القيمة وذلك الخُلُقِ مَنزوعاً من نفوسِ الأفرادِ بالترغُّب لما يتطلَّب من بَذلٍ غير أنَّهم يحافظون عليهِ؛ امتثالاً لحاجتهم إلى التَّعامل بالمثل والشُّعورِ بالعدل

التسامح والتواصل الحضاري

أنواع التسامح

التسامح الديني

يشمل التسامح الديني التأقلم مع جميع أصحاب الديانات السماوية، وعدم التعصب لهم أو حرمانهم من ممارسة شعائرهم الدينية.

التسامح العرقي

يعني تقبل الآخرين حتى مع اختلاف اللون، العرق والأصول.

التسامح الفكري والثقافي

يعني البعد عن التعصب لفكرة ما، وتقبل فكر ومنطق الأشخاص الآخرين، والتزام الأدب الحواري والتخاطب.

التسامح السياسي

ويشير إلى ضمان الحرية السياسية بمختلف أنواعها الفردية والجماعية، ليسود منهج أو مبدأ الديموقراطية.

التسامح والتواصل الحضاري

أهمية التسامح للفرد والمجتمع

– يساعد الفرد على التخلص من أخطاءه والشعور بالإحراج والذنب، حيث يمكنه مسامحة نفسه وتصيح الأخطاء التي ارتكبها.

– يزيد من رقي الأشخاص الذين يقابلون الإساءة بخلق التسامح، ويصبحوا مليئين بالخير، ويمتلكون نفسية سوية طبيعية بعيدا عن ما تحمله بعض النفوس من الكره والحقد والأمراض النفسية.

– يساعد التسامح على الحد من المشاكل بين المحبين والأصدقاء، والتي تنتج عن سوء الظن وعدم التماس الأعذار.

– يجني الشخص المتسامح ثواب عظيم من الله عز وجل، ويعفو عنه أخيرا.

– يعمل على تحقيق القدرة على التعايش بين الشعوب والأفراد عن طريق تقبل الاختلاف والحفاظ على حقوق الآخرين، بعيدا عن الصراعات وانتشار الحقد والكراهية العنصرية.

– يمكن تحقيق المصالح العامة في المجتمع، التي تعم بالتالي على الأفراد، حيث يتم ذلك خلال طرق قانونية سليمة.

– يزيد من أهمية الثقافة والعلم، ويساعد على تفعيل الحوارات البناءة، فيهتم الأفراد بتحقيق أعلى مراتب التعليم والثقافة، عن طريق الطرق السليمة بدون تعدي على حقوق الآخرين.

التسامح والتواصل الحضاري

مؤشرات التسامح

القبول للفرد وللآخر.

الاحترام للرأي الآخر ووجهات النظر الأخرى

التقدير للصفات الايجابية الأخرى لدى الغير والسيطرة على المشاعر الشخصية والاحترام لحقوق الآخرين

البحث عن الاهتمامات المشتركة مع الآخرين

الاحترام للأعراف الاجتماعية للآخرين

التصرف بمسؤولية إزاء الآخرين

المحافظة على التوازن بين التنافس والتعاون

التجنب للأفكار المسبقة والصور النمطية عن الآخرين

الانفتاح على طرائق جديدة في التفكير • الاعتراف بالأخطاء الشخصية

تقدير صفات الشريك

الموازنة بين الرغبات وحاجات المجتمع. تجنب تصنيف الناس

التكييف الأفعال المواءمة المواقف المحددة

البحث عن النتائج الإيجابية العمل مع جميع الأطراف المنغمسة في الموقف ومحاولة إيجاد التسويات واحترام قيمة التن وع والاختلاف واحترام حقوق الآخرين ومحاربة جميع أشكال عدم التسامح ونبذ العنف والإكراه البحث عن التعايش المتناغم

التسامح والتواصل الحضاري

مجالات التسامح

التعددية: مجتمع متعدد ومتنوع وفق النوع الاجتماعي والعرق والثقافة الاجتماعية والدين واللون والطبقة الاجتماعية والعمر والمهنة والتخصص والجنسية ومكان الاقامة واللون واللغة (وذلك لا يقف حائلاً يعوق التسامح)

التنوع: التنوع العمري

الاختلاف: من معاني التسامح القبول بالأخرين والتعايش معهم واحترام ارائهم وقبول التنوع

التعارف: الاختلاف والتنوع دافع الى التسامح والتعارف والتعاون من اجل تحقيق الاتزان الاجتماعي والمصالح الاجتماعية

التعايش: يعد التعايش أحد جوانب التسامح فلا يمكن التعايش في غياب التسامح

الحرية: الحرية من اهم قيم التسامح

العدالة: تعد قيم العدالة من قيم التسامح المهمة في الحياة وحق الوصول الى المعلومات والخدمات

المساواة: تتعلق المساواة باندماج الافراد في مجتمعتهم على جميع المستويات

المساءلة: تعد المساءلة صمام الأمان لسير العملية وفق نظام قيم التسامح

حقوق الفرد: يشكل التسامح عمود حقوق الفرد والتعددية والديمقراطية والإنصاف وحكم القانون ونبذ الاستبعاد ويعنى التسامح الغقرار بالاختلاف بين الناس

التواصل الحضاري

هو سلوك حضاري بالمفهوم العميق للحضارة، التي من شأنها أن تخفف من أجواء التوتر وتفتح المجال أمام تعزيز التعاون الدولي عن طريق حوار الثقافات وتحالف الحضارات تدعيما للسلام العالمي؛ بهدف تلاقح الثقافات الإنسانية وتحقيقا للاندماج والتناغم الاجتماعي عن طريق تبادل معرفي وتقني. ملخص

التّسامح يعني العفو، وعدم ردّ الإساءة بمثلها، طواعية وبكامل الإرادة، ويدلّ على تقبّل اختلاف الآخر سواءً بالعرق أو العقيدة أو الاتجاه الفكريّ، والاستعداد للإنصات لرأيه، كما يدلّ هذا المفهوم على التفاهم الجماعي المتبادل بين مختلف الشعوب والمجتمعات والثقافات والأديان، ويعبّر عن رفض مفاهيم التعصّب والإقصاء والاستعلاء العرقي والاجتماعي، والتسامح مظهرٌ راق من مظاهر المجتمعـات المتحضرة،

وركيزة أساسيّة من ركائز حقوق الإنسان، والحريات الإنسانيّة العامّة. خلِق البشر مختلفين في أمورٍ كثيرة، بل إنّ ثيمة الاختلاف آية، وهذا الاختلاف والتنوّع، كالاختلاف في العرق والدين واللغة، والتقاليد والأفكار والعقائد قد يؤدي -أحياناً- إلى صراعات وتصادمات وانتهاكات بدرجات متفاوتة، وفي سياقات عدّة، وبهدف مواجهة هذه الصراعات سعت البشرية لإصدار سلسلة من الاتفاقات والمواثيق الدولية التي تهتمّ بضمان حقوق الأفراد والجماعات حرباً وسلماً، وتأسيس مجتمع يسوده الأمن والعدل والسلام، وليس أفضل من تحقيق ذلك من ثقافة التسامح، وقبول اختلاف الآخر، واحترام آرائه وتطلعاته في الحياة.

مفهوم التسـامـح ومبادئه

أنواع التسامـح:

تتعدّد أنواع التسامح، وتختلف أوجه القيم المرتبطة به، لعلّ أهمّها: [2]

1) التسامح الديني: ويعني – باختصار-التعايش بين الأديان بكلّ رحابة الصّدر، وحريّة ممارسة الشعائر الدينية الخاصّة بكلّ ديانة، والتخلّي عن التعصّب الدينيّ والمذهبيّ.

2) التسامح الفكريّ: يعني عدم التعصّب للأفكار الشخصية، والاتسام بسعة الأفق عند الاختلاف في الرأي، واحترام آداب الحوار والنقاش، والحقّ في الإبداع والاجتهاد. وقد قالت العرب: “الاختلاف في الرأي لا يخلف أو يفسد للودِّ قضية”.

3) التسامح السياسيّ: مع ازدياد تعقيدات الأوضاع السياسية بين الدول والجماعات، واختلاف المصالح بينها، تصبح الحاجة ملحّة للاهتمام بالقواسم المشتركة بين الأطراف المختلفة، التي قد تُنهي تلك الاختلافات وتعزّز التسامح السياسي. كما يعني هذا النوع من التسامح ضمان الحرّيات السياسيّة، وانتهاج مبدأ الديمقراطية في المعاملات السياسية.

ومن أشكال ثقافة التسامح: التسامح الأسريّ، والتسامح الاجتماعيّ، والتسامح الإداريّ وغيرها من الأشكال.

التعايـش والتسامح بيـن الأديـان

أهمها: [4]

أولاً) الاتّفاق على استبعاد كلّ ما يمسّ الذات الإلهية أو ينال منها.

ثانياً) التفاهم حول الأهداف والغايات، والتّعاون على العمل المشترك من أجل تحقيقها.

ثالثاً) صيانة هذا التّعايش بسياج من الاحترام المتبادل والثقة المتبادلة.

أهداف التّعايش بيـن الأديـان

وعن التسامح تجد مواقف واضحة في مبناها ومعناها في النصّ القرآنيّ، فنجد مثلا: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة: 219]، (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199]، (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22]، وكذلك ما نصّه: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة التغابن: 14].

وقد تبنّى الرسول محمّد مواقف تدلّل على التسامح خلال مسيرته الدعويّة إلى الإسلام، ومن أكثر هذه المواقف بروزا وأهميّة موقفه مع أعدائه (المشركين) من ذويه من قريش إبّان ما عُرف بـ فتح مكّة، حيث تبرز كتب السيرة جملة يتمّ تناولها دوما كأبرز مواقفه عن العفو والتسامح مع العدو عند المقدرة، حيث قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، في حين ظنّوا أنه سوف يعاقبهم على ما اقترفوه بحقّه وحقّ أتباعه من الظلم والاضطهاد. [5]

كما يحفظ التاريخ مواقف جليلة لتسامح المسلمين مع أتباع الأديان التي عاشت في ظلّ حضارة الإسلام، وعاش أتباعها وهم محافظون على عقائدهم وثقافاتهم وحرياتهم، وهذه الأحداث تدحض مقولة (الدعوة إلى التعصّب والإرهاب والعنف ضدّ الآخر المختلف). [6]

والجدير بالذكر

أما الديانة المسيحية فيقال عنها بأنّها ديانة الموّدة والتسامح والسلام، وتعتبر هذه القيم من أهمّ القيم الأخلاقية، حيث تجد في التسامح ما يرد في العهد الجديد: (سمعتم أنّه قِيل عينٌ بعين وسنّ بسن، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرّ، بل من لطمك على خدّك الأسمن فحوّل له الآخر خدّك الأيسر أيضاً) [متى: 5: 38-39].

الثمرة السلوكية ونشر ثقافة التسامح

إنّ تعزيز التسامح كثقافة ملحّة لتضافر الجهود بين الجميع إلى غرس المفاهيم الحقوقية، وتعزيز قيمها ونشرها بين أبناء المجتمع. ويحتاج الأمر إلى مجموعة من الأفعال، لأنّ مبدأ التسامح الحقيقي يكمن في الثمرة السلوكية العملية:

1)، والحجر الأساسيّ من استقراره وتقدّمه، وهي -بطبيعة الحال-أهمّ الجهات المسؤولة عن تشكيل شخصية الطفل وتوجهاتها، حيث يبدأ فيها التأسيس للمفاهيم الثقافية الأولية، واكتساب مجموعة المعايير والقيم والعادات في المجتمع، وفيها يبدأ التعريف بقيم التسامح وقبول الآخر، عبر تسامح الأبوين مع بعضهما، ومع الأولاد والجيران والأصدقاء (القدوة الحسنة)، والتسامح قيمةٌ من واجب الأسرة غرسها في نفوس أطفالها، وجعلها من الدعامات الأساسية التي تقوم عليها أخلاقياتهم وتعاملاتهم.

2) المدرسة والمؤسسات التعليمية الأخرى: المدرسة هي مؤسسةٌ اجتماعية لها أثرها الفعّال في مختلف جوانب شخصية الطفل، وهي تأتي بعد الأسرة من حيث الأهمية، إذ تسهِم في تنمية خبراته وتوسيع مداركه وتوجيه قدراته، وفيها يتعلّم بعض المعايير والقيم الاجتماعية الجديدة، ولعلّ التسامح أفضل القيم التي يجب أن يعرفها ويتمثّلها.

3) المؤسّسة الدينية: يمكن لهذه المؤسسة أن تلعب دوراً كبيراً في إشاعة قيم التسامح واحترام التعدّدية وتقبّلها، والإسهام في إحداث التغيير المجتمعي، عبر الخطب والدروس والمواعظ، وبعض الأساليب الأخرى.

4) منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية الأهلية: بمقدورها أن تغرس فكر التسامح في الذهنية المجتمعية وتتعهده بالنماء، عبر التوعية بقضايا حقوق الإنسان، وتعزيز المبادئ الإنسانية المشتركة، التي تسمو فوق انتماءات الجنس أو اللون أو المعتقد، وهذا خير وسيلة لتنمية ثقافة التسامح ونشرها على أوسع نطاق.

5) المؤسّسات الإعلامية: تؤدي وسائل الإعلام بوصفها كبرى المؤسسات الثقافية التربوية دوراً بارزاً في تحديد ثقافة الإنسان، وإكسابه القيم والاتجاهات، لذلك يمكن استغلالها في إبراز القضايا الحقوقية، وغرس قيم التسامح والتصالح والحوار، وطرح المفاهيم التي تؤكد على هذه القيم، كما يمكن استغلال هذه الوسائل باختلاف أنواعها لتعزيز دور الجمعيات والمؤسسات المدنية والحقوقية.

خاتمة

إنّ الشعوب والأمم العظيمة هي التي تدرك أنّ سرّ قوّتها في محبّة أبنائها وتسامحهم فيما بينهم، فتحمي بذلك مجتمعاتها ومكتسباتها، وتصنع لأجيالها حاضراً ومستقبلاً أفضل، بل تشكّل -من خلالها-جسوراً متينة بين مختلف الثقافات والحضارات،

فالتسامح والمحبة والسلام وروح التعايش المشترك بين أبناء الوطن، على اختلاف عقائدهم وثقافاتهم وطبقاتهم الاجتماعية، وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان بمختلف أشكالها، هي تعبير عن الإنسانية وطريق ليسود العدل والحرية والمساواة.

والتسامح لا يأتي من أجل الآخرين فقط، بل هي تطهير من الأخطاء، فقد أكد بعض علماء النفس أهمية الرضا عن النفس -كنتيجة من نتائج التسامح-في علاج الكثير من الاضطرابات النفسية، وأكد آخرون أنّ الأشخاص الأكثر سعادة هم الأكثر تسامحاً مع غيرهم.

المراجع

[1] يُشار إلى تعريف التسامح اصطلاحا في العديد من المصادر، وقد حاولنا جمعها من عدة منها، لكن تجد بعضها في الرابط: https://goo.gl/GcxmXy

[2] مفهوم التسامح وأهميته في المجتمع، بسمة حسن، آخر زيارة 28/2/2018، بتصرّف: https://goo.gl/GcxmXy

[3] التسامح. ضمير الإنسانية، فاضل العماني، جريدة الرياض، مؤسسة اليمامة، العدد 17314 الصادر في 19 نوفمبر 2015.

[4] التعايش بين الأديان، بوابة الإنسانية، آخر زيارة 27/2/2018، بتصرّف: https://goo.gl/aFncSH

[5] حول (فتح مكة)، وما ورد فيها من حيث (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، ينظر في: الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي، تحقيق: عمر عبد السلام السلامي، ط1 (دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2000) مجلد 7، ص 34.

[6] يمكن في هذا المقام النظر في: التعامل مع غير المسلمين في الإسلام، محمد إقبال النائطي الندوي، شبكة الألوكة، آخر زيارة 3/7/2018

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك