الجمعة - الموافق 29 مارس 2024م

(13) عصر الدول المستقلة “الدولة الطولونية 1-5”.. بقلم الكاتب والباحث: محمد السني

 

ألقينا الضوء سابقًا على المفهوم التقدمي للاستقلال الوطني في مقالتنا الأولى بعنوان “الثورة والاستقلال الوطني”، ثم تطرقنا إلى نشأة الأمة المصرية قبل التاريخ في مقالة بعنوان “أهل مصر.. أمة قبل التاريخ”، وعصر الأسر الفرعونية في ثلاث مقالات بعنوان “الدولة الفرعونية القديمة”، و”الدولة الفرعونية الوسطى”، و”الدولة الفرعونية الحديثة”، ومقالتين عن “مصر البطلمية”، ومقالتين عن “الاحتلال الروماني”، ومقالتين عن “العصر القبطي والقومية المصرية”، ومقالة عن الحكم العربي بعوان بعنوان “الحكم العربي والبقرة الحلوب”، ومقالتي هذه عن “عصر الدول المستقلة 1-5”.

قامت الدولة الطولونية خلال زمن تعاظم قوة التركمان في الدولة العباسية وسيطرة الحرس التركماني على مقاليد الأمور، وهو ذاته العصر الذي كان يشهد نموًا في النزعة الشعوبية وتغلب نزعة الانفصال على شعوب وولاة الدولة العباسية مترامية الأطراف، وكان قيام الدولة الطولونية إحدى النتائج الحتمية لتنامي هذا الفكر، لتكون بذلك أول دولة انفصلت سياسيًا عن الدولة العباسية لتتفرد سلالتها بحكم مصر والشام. وكان الأمويون أول من استقدم التركمان من بلادهم واستخدموهم في الجيوش وأجهزة الدولة، وبعد سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية على أنقاضها واستقرار دعائمها في عهد أبي جعفر المنصور، برز عدد من الشخصيات التركمانية الذين كان عددهم يزداد شيئًا فشيئًا بتوافدهم على دار الخلافة، وتوسع الخليفة أبو جعفر عبد الله المأمون في استخدامهم في قصوره وجيوشه، ووصل بعض هؤلاء إلى مناصب قيادية، منهم طولون والد أحمد مؤسس الدولة الطولونية، وعندما انتقلت عاصمة الخلافة إلى سامراء التي ظلت ما يقرب من خمسين سنة حاضرة دولة الخلافة العباسية، أضحت مقرًا للجالية التركمانية الجديدة. وتُعد خلافة أبو جعفر هارون الواثق بالله مرحلة انتقال بين عهدين، الأول هو عهد سيطرة التركمان على مقدرات الدولة مع بقاء هيبة الخلافة، والثاني هو عهد سيطرة التركمان مع زوال هيبة الخلافة وهبوط مكانة الخلفاء. حيث ثبت التركمان في عهد الواثق أقدامهم في الحكم، وحصل رؤساؤهم على نفوذ كبير. ثم خطوا خطوة أخرى حين اعتقدوا أنه لا بد من السيطرة على شخص الخليفة حتى يستمر سلطانهم بوصفه مصدر هذا السلطان، فأحاطوا به يراقبون تحركاته، ويشاركون في المناقشات السياسية، ومن أجل ذلك، لم يذهبوا إلى ولاياتهم، وأنابوا فيها عمالًا عنهم. وقد شكل هذا التدبير خطوة سياسيةً على طريق انفصال الولايات عن الإدارة المركزية، إذ استقل الوكلاء بولاياتهم منتهزين فرصة ضعف السلطة المركزية. وعندما مات الواثق لم يعهد لابنه محمد بفعل صغر سنه، فنشب الصراع بين فئتين رئيسيتين بشأن اختيار الخليفة. تألفت الفئة الأولى من كبار رجال الدولة من أبناء البيت العباسي والوزير محمد بن عبد الملك الزيات وقاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد، وهم أهل الحل والعقد في بيعة الخليفة آنذاك، وقد رشحوا محمد بن الواثق. وتمثلت الفئة الثانية بقوة التركمان النامية، وقد رشحت هذه الفئة جعفر بن المعتصم، ونجحت في فرضه، وتلقب “بالمتوكل على الله”. شكلت هذه الحادثة سابقة خطيرة في تولية الخلفاء بعد ذلك، إذ أضحى القادة التركمان أهل الحل والعقد، وكان أن أدرك المتوكل ومن بعده ابنه المنتصر حقيقة موقف التركمان الضاغط على الخلافة، وشعرا باستبدادهم بشؤونها، وقلة احترامهم لشخص الخليفة، فحاول كلًا منهما التخلص منهم وتحجيمهم، فتنبه هؤلاء إلى الخطر المحدق بهم، فتخلصوا من الخليفتين وقتلوهما. وهكذا أصبح التركمان سادة الموقف بحق في عاصمة الخلافة، ولا يقوى على منازعتهم أحد.

ولد أحمد بن طولون (التركماني) في الثاني والعشرين شهر أغسطس عام 835 لأسرة كانت تقيم في بخارى. وكان والده طولون مملوكًا لدى الخليفة المأمون، وأسند إليه وظائف عدة نجح في إدارتها بشكلٍ لافت، فعينه رئيسًا للحرس، ولقبه بأمير الستر، واستمر مدة عشرين سنة يشغل هذا المنصب الهام. أنجب طولون عددًا من الأبناء من بينهم أحمد الذي يكنى بأبي العباس، وعرف أحمد بن طولون بالشدة والقوة والبأس نظرًا لتربيته العسكرية. ويبدو أن الحاجة كانت ماسة في ذلك الوقت إلى ضابط شاب يخدم في ثغر طرسوس على الحدود مع البيزنطيين، له بأس لقاء العدو، نظرًا للأهمية الاستراتيجية والعسكرية الفريدة لهذه المدينة الواقعة على الحدود بين آسيا الصغرى والشام، وبناءً على هذا، خرج أحمد بن طولون إلى ثغر طرسوس وقضى فيه سنوات شبابه بعيدًا عن الوسط التركماني الماجن في العراق، كما تعرف عن قرب على الشام وما كانت تمتاز به من الأهمية العسكرية والاستراتيجية، وربما كانت أيامه الأولى فيها فاتحة طموحه في توليها مع مصر. ثم خطا أحمد بن طولون خطواته الأولى نحو الشهرة عندما توفي والده في سنة 854م وهو في العشرين من عمره. فقد فوض إليه الخليفة العباسي المتوكل ما كان لأبيه من الأعمال العسكرية المختلفة، وسرعان ما أتيح له أن يستولي على إمرة الثغور ودمشق وديار مصر. وعلى هذا الشكل دخل أحمد بن طولون في خضم الحياة السياسية المضطربة آنذاك في العراق، وهو يتمتع باحترام التركمان وثقتهم، كما نال ثقة الخلافة واحترامها، فكانت علاقته بكل من الخليفتين المتوكل والمستعين جيدة.

برز بايكباك التركماني على المسرح السياسي على أثر الصراع الذي انتهى بمقتل الخليفة المستعين وتولية المعتز. وكان هذا القائد التركماني في مقدمة القادة التركمان الذين أداروا هذا الصراع، وقد تقاسموا الأعمال والنواحي فيما بينهم. فأقطع المعتز بايكباك أعمال مصر ونواحيها، ويبدو أن بايكباك خشي مغادرة عاصمة الخلافة حتى لا يتعرض للعزل، وآثر أن يبقى قريبًا من مركز السلطة يشارك في اتخاذ القرارات، وأناب عنه أحمد بن طولون في مصر، وقد فضله على غيره لما عرف عنه من حسن السيرة وبفعل قرابته له، فهو زوج أمه. وكانت السياسة السائدة آنذاك أن يتولى السلطة في الولايات أكثر من شخص حتى يراقب بعضهم بعضًا. وما أن استقر أحمد بن طولون في الفسطاط حتى اصطدمت مصالحه مع هذه القوى، ولكنه سار بخطى ثابتة للسيطرة على الأمور كلها في مصر، وقد حدث أن قُتل بايكباك في سنة 256هـ الموافقة لسنة 870م وخلفه القائد التركماني “يارجوخ” وهو صهر ابن طولون، فكتب إليه “تسلم من نفسك لنفسك”، وهي إشارة واضحة لتسليمه مصر كلها، وعندما توفي يارجوخ أقر الخليفة المعتمد ابن طولون واليًا على مصر، وبذلك أضحى حاكم مصر الشرعي من قبل الخلافة مباشرةً، وتعد هذه السنة سنة تأسيس الدولة الطولونية. وفي سنة 877م قلده خراج مصر وولاه إمرة الثغور الشامية على أثر اضطراب أوضاعها. فأضحى بذلك سيد الديار المصرية كلها والمشرف العام على جميع أعمالها العسكرية والإدارية والقضائية والمالية، وقام بضرب الدينار الأحمدي رمزًا لهذا الاستقلال. ولم تخلوا مسيرة أحمد بن طولون من الحركات المعارضة، فواجه في بداية حياته السياسية حركات ثورية عدة اتسم معظمها بالطابع الديني المذهبي بفعل النزاع الذي كان سائدًا خلال هذه المرحلة، وحقق التصدي لها إقرار الأمن في الداخل، وتثبيت مركزه بوصفه والي مصر القوي.

كان اهتمام أحمد بن طولون شديد بالشام، ويعود ذلك إلى الأيام التي قضاها في ثغر طرسوس كما ذكرنا سابقًا، حيث أدرك أهمية ثغورها في الدفاع عن الأمن القومي المصري، ضد الأطماع الخارجية لمصر. وأتاحت له ثورة عيسى بن الشيخ في فلسطين والأردن الفرصة كي يتدخل في الشؤون الشامية من واقع تكليف الخليفة أبو العباس أحمد المعتمد على الله له إخماد ثورته. وإذا كانت جهوده لم تثمر إلا أن هذه الحركة لفتت نظره إلى أهمية الشام ومدى تأثيرها السياسي والعسكري على مشروعاته في مصر، كما دفعته إلى تكوين جيش خاص به لاستخدامه في التوسع. وعندما طلب إليه الخليفة أبو إسحق محمد المهتدي بالله أن يتولى إخضاع عامل فلسطين المتمرد على الدولة، سنحت له الفرصة التي كان ينتظرها، فقد أنشأ ابن طولون جيشًا كبيرًا من المماليك الترك والروم والزنوج ودعم حكمه به. وقد أخذ من الجند والناس البيعة لنفسه على أن يعادوا من عاداه ويوالوا من والاه. وبفضل هذا الجيش استطاع أن يقضي على الفتن الداخلية التي قامت ضده، واستطاع أن يرفض طلب ولي عهد الخليفة أبا أحمد طلحة بن جعفر الموفق بالله الذي كان يستعجله إرسال المال ليستعين به على القضاء على ثورة الزنج بالبصرة. ومنذ ذلك الوقت أصبحت دولة ابن طولون مستقلة سياسيًا عن الخلافة العباسية. وعندما طلب الخليفة إلى ابن طولون أن يتخلى عن منصبه إلى “أماجور” والي الشام، رفض ابن طولون ذلك. كما رأى ابن طولون أن عليه أن يتوسع باتجاه الشرق في الشام والوصول إلى حدود العراق والأناضول لضرورات عسكرية وسياسية، أهمها ضمان تدخله في شؤون الخلافة والدفاع عن أمنه في مصر، فالشام هي مفتاح مصر، وأي غاز سواء أكان بيزنطيًا أو عباسيًا أو حتى شاميًا، لا بد له وأن ينطلق من هذه البلاد نحو مصر. هذا بالإضافة إلى أهمية الشام الاقتصادية بالنسبة لمصر آنذاك وحاجتها لمواردها الأولية كالأخشاب لصناعة السفن، بالإضافة للموارد الأُخرى التي يحتاجها ابن طولون في مشروعه للاستقلال بمصر. وفي تلك الفترة كانت الثغور الشامية مضطربة إما بفعل النزاعات بين الولاة الذين كانت تعينهم الخلافة أو بسبب مقتل هؤلاء قبل وصولهم إليها لتسلمها، بالإضافة إلى أنهم لم يقيموا فيها وأنابوا عنهم من يتولى إدارتها ويجبي خراجها ويغزو بأهلها. وبعد ازدياد وضع الموفق حرجًا بفعل وقوعه تحت ضغط ثورة الزنج التي أنهكت قواه، أتيح لابن طولون استغلال الأوضاع المؤاتية ليثب على الشام ويضمها إلى مصر. ثم توجه أحمد بن طولون إلى بقية الثغور الشامية، وهكذا دخلت الشام في مرحلة جديدة في تاريخ علاقتها مع مصر، إذ أضحتا تابعتين لِقيادة واحدة تقوم في وقت واحد بتحريك الجيوش والأساطيل وقيادتها وتنسيق الأعمال فيما بينها. وبدأ الأسطول الطولوني نشاطه انطلاقا من قواعده في الشام، فهاجم جزر بحر إيجة ومدن اليونان، كما كلفت الخلافة أحمد بن طولون، على الرغم من العداء المستحكم بينهما، بمهمة الدفاع عن حدودها البرية المحاذية لبلاد الروم وبخاصةً على جبهة الفرات في شمالي العراق التي هددت بغداد نفسها.

توفى ابن طولون في العاشر من مايو عام 884م، فاجتمع قادة الجند واختاروا أبا الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون خلفًا لوالده تنفيذًا لوصية الأخير، وإرضاءً للجند الذين فضلوه والتفوا من حوله للمحافظة على تراث الإمارة ومكاسبها، وكان عمره عشرين سنة. والواقع أن أحمد بن طولون ترك وصيةً لابنه ضمنها خلاصة تجاربه السياسية، وحدد له فيها الخطوط العامة للسياسة التي يجب أن يتبعها، فأشار عليه بالمحافظة على التبعية الشكلية للخلافة العباسية، ونصحه بالحفاظ على الجيش وإبقائه موحدًا وخاضعًا له ومواليًا لدولته، وضمان ولاء مواليه والاستمرار بالتسلح والاستعداد العسكري الدائم والقضاء على المؤامرات المنبعثة من مقر الخلافة في العراق، وكسب ود أهل البلاد والفوز برضاهم وتعاونهم، والاعتدال في النفقات وعدم الإسراف في المال. ولم يخالف خمارويه وصية والده التي عدها ميثاقًا لسياسته في مصر والشام وفي علاقاته مع الخلافة العباسية في بغداد. وانصرف إلى الاعتناء بتنمية القوة العسكرية، فأسس جيشًا قويا اعتنى بتدريبه وتسليحه وزيادة عدد أفراده، ثم سارع إلى تنظيم أمور الشام بسبب أهميتها في دعم الأمن القومي المصري، لا سيما وأن الموفق كان قد انتهى من أمر الزنج بالبصرة واستقام له الأمر، فتفرغ لمصر ليأخذ بثأره القديم، مستغلًا وفاة أحمد بن طولون وحداثة خمارويه في السن. وكان خماروية قد أسند قيادة أهم المدن والمناطق الشامية لأفضل قادته، وكتب بعدها إلى الخلافة العباسية يطلب إقراره على ما بيده من المناطق مقابل الدعاء للخليفة والطاعة التامة له، غير أن الموفق رفض طلبه، ما أغضب خمارويه، فأظهر استياءه، الأمر الذي عد نذيرًا باستمرار النزاع واستئناف العمليات العسكرية.

تصدى خمارويه للمحاولات العباسية القاضية بإقصائه عن الشام وانتزاع مصر منه، فأسرع في تجهيز الحملات العسكرية البرية والبحرية لإبعاد الحلف المناهض للطولونيين عن هذه البلاد، وانتزاع الاعتراف بشرعيته من العباسيين بقوة السلاح. وتقدمت الجيوش الطولونية إلى الشام، وأسرعت القوات العباسية في البداية بدحر الجيش الطولوني، وسيطرت على الرقة وقنسرين والعواصم، كما هزمت جيشًا ضخمًا يقوده خمارويه نفسه عند الطواحين على نهر أبي فطرس في جنوبي فلسطين قرب الرملة. ولكن انهمك بعدها أفراد الجيش العباسي في جمع الغنائم والأسلاب، ففاجأهم الطولونيون وهم على هذه الحال، فقلبوا الهزيمة إلى نصر. ثم أرسل خمارويه الحملات العسكرية لمحاربة أعدائه في ديارهم متبنيًا سياسة الهجوم، فقضى على أعدائه الذين اجتموا ضده، وأقر الأمن على حدوده الشرقية، وامتد نفوذه من برقة إلى الفرات ومن الأناضول إلى النوبة، واعترف الخليفة بسلطانه على تلك البلاد وأقره عليها، فاستقر له ولأولاده من بعده حكم مصر والشام الوراثي مدة ثلاثين سنة، كما اعترف “يازمان” المستبد بالثغور بحكمه ودعا له على منابر الثغور. وفي14 أكتوبر 892م توفي الخليفة العباسي وبويع أبو العباس أحمد بن الموفق بالخلافة وتلقب بلقب “المعتضد بالله”، فجدد اعتراف الخلافة بولاية خمارويه وولده طيلة ثلاثين سنة على المناطق التي سيطر عليها، وتمت مصاهرة بين البيتين العباسي والطولوني، إذ زوج خمارويه ابنته قطر الندى للخليفة المعتضد، وقد تم الزواج في سنة 895م، وبالغ خمارويه في تجهيز ابنته وذلك في محاولة لإظهار تفوق الطولونيين الاقتصادي على حاضرة الخلافة، وإطلاع الناس على ما ينعمون به من ثراء وترف ورخاء، وتحقق له ما أراد، إذا دُهش أهالي بغداد بما رؤوه من النفائس التي حملتها معها العروس، والتي لم يكونوا قد شاهدوا لها مثيل منذ أيام الرشيد والمأمون. وتابع خمارويه سياسة أبيه القاضية بمواصلة التصدي لأصماع البيزنطيين من خلال التعاون مع يازمان، حاكم منطقة الثغور، فحققا انتصارات كبيرة في البر والبحر. وظل التعاون المثمر بين الرجلين في الكفاح ضد البيزنطيين طيلة حياة يازمان، وبعد استشهاد يازمان راح خمارويه يتدخل في تولية العمال في طرسوس وعزلهم، ويمدهم بالمال والسلاح. ورافق النشاط العسكري البري، نشاط بحري مماثل قامت به البحرية الطولونية، وتوفي خمارويه من دون أن يرى نتائج كفاحه واسع النطاق، حيث ركن البيزنطيون إلى المسالمة وطلبوا الصلح سنة 896م.

بعد أن استقل أحمد بن طولون بمصر عن الدولة العباسية، حاول الارتقاء بالفسطاط ليضاهي بها مركز الخلافة في بغداد وسامراء. فأسس ضاحيةً “القطائع” في سنة 870م، التي امتد بها العمران حتى اتصل بالفسطاط، وبنيت فيها المساجد والكنائس، والطواحين، والحمامات، والأفران، والأسواق، فصارت مدينة كبيرة أجمل من مدن الشام. وكانت عمارة المباني سواء السكنية أو الدينية على النمط السامرائي الذي كان شائعًا في ذلك الزمان في دار الخلافة. كما شيد فيها بيمارستان كان المرضى يعالجون فيه ويوزع عليهم الدواء بالمجان. وتولى رجل مسيحي حاذق في الهندسة بناء جامع أحمد بن طولون في سنة 877م، واستمر هذا الاهتمام بالعمران طيلة عهد خمارويه ابن أحمد بن طولون، وقد زالت جميع هذه الآثار المعمارية الطولونية ولم يبقى منها سوى مسجد أحمد بن طولون وهو من أقدم الساجد الباقية بالقاهرة.

كانت أوضاع مصر الاقتصادية قبل قدوم أحمد بن طولون إلى مصر في غاية السوء، وقد بدأت دلائل الاضطراب الاقتصادي منذ عهد الخليفة أبي جعفر المنصور، عندما أمر بأن يرسل الولاة إلى العاصمة قدرًا معلومًا من الخراج، وأهمل في الوقت نفسه مراقبتهم، فاندفع هؤلاء في فرض ضرائب جديدة على السكان واشتطوا في جبايتها، ثم دخل الإقطاع التركماني  في العصر العباسي الثاني من خلال اقتسام الولايات بين القادة التركمان، وقد حملوا معهم سياسة ضريبية وزراعية متعسفة بهدف مضاعفة الخراج والحصول على الأموال بشتى الطرق. وعندما آل الخراج إلى ابن المدبر في مصر زاد الضرائب أربعة أضعاف ما كان عليه. ففرض ضريبة على الكلأ، وعلى المصايد، وعلى أشجار النخيل، والسنط، واللبخ، واحتكر مادة النطرون، فانهارت بذلك الحياة الاقتصادية، وتدهور الإنتاج، وأضحت البلاد على شفا الإفلاس. وكان على أحمد بن طولون أن يُقوم الأوضاع الاقتصادية حتى ينتشل البلاد من عثرتها ويبني اقتصادًا سليمًا وكانت خطوته الأولى هي وقف ارسال أموال مصر إلى مقر الخلافة العباسية في بغداد، فتحسن وضع الجند والموظفين والغلمان، وأضحت مصر مركزًا لنشاط اقتصادي كبير، كما ألغى الجبايات الظالمة القديمة، وألغى ضريبة الكلأ والمصايد والأخشاب، وأباح للناس استخدام النطرون، وعزل من اشتهر من الموظفين بالفساد، وفرض رقابةً صارمة على موظفي هذا الديوان، فارتفع خراج مصر نتيجة هذه الإصلاحات وبلغ قرابة أربعة ملايين وثلاثمائة ألف دينار، كما عمد بن طولون إلى إصلاح العملة، فسك الدينار الطولوني الجديد الذي امتاز بثقل وزنه وخلوه من الغش، الأمر الذي أعاد الثقة المالية والطمأنينة إلى السوق. وفيما يتعلق بتحسين الإنتاج، فقد عمل أحمد بن طولون على حماية الفلاحين والمنتجين على حد سواء، وبث الطمأنينة والاستقرار في نفوسهما من خلال ما أجراه من إصلاحات إدارية قضت على الفتن الداخلية. وحمى الفلاح من جشع العمال وطمعهم، ووفر له الأرض الزراعية وحاجته من الماء، فأصلح أقنية الري، وحفر الجديد منها، كما أصلح السدود الخربة، ومنع ممارسات متعهدي الضرائب على الفلاحين، فتحسنت أوضاع مصر الزراعية وتضاعف الدخل الزراعي، ودخلت الدولة في ميادين الإنتاج الزراعي كمساهم.. واهتم أحمد بن طولون بإصلاح الوضع التجاري ليعيد إلى التجارة الثقة والحيوية، وإذ لم يحتكر التجارة ولا المساهمة فيها إلا أن إصلاحاته هدفت إلى إصلاح العملة ليعيد الثقة إليها ما أدى إلى ارتفاع الميزان التجاري، واستعاد التجار الثقة بالاقتصاد المصري، وأقبلوا على الأسواق، وأضحت مصر مركزًا لنشاط اقتصادي كبير. وضرب أحمد بن طولون نطاقا حول حدود مصر لحماية اقتصادها، فلا تتسرب الكتب ولا نفيس الأمتعة إلا بإذنه. وشمل الإصلاح الصناعي تشجيع صناعة النسيج في تنيس والإسكندرية والبهنسا والأشمونين ودمياط وأخميم، كما راجت صناعة الأسلحة، وعمرت دور الصناعة فساهمت في حركة التصنيع، وكان كل ذلك معينًا لابن طولون في خطوته نحو الاستقلال.. كما نعم أصحاب الديانات في عصر الدولة الطولونية بالهدوء والاستقرار، فتحسنت أحوالهم، وباشروا طقوسهم الدينية بحرية تامة، وأحسن الأمراء الطولونيون معاملتهم وخاصة المسحيين، وكان أحمد بن طولون لا يتواني عن الدفاع عن حقوقهم والاقتصاص لهم من عماله وقادته. هذا في حين قام المسحيون بدور لا يستهان به في إدارة البلاد، فكان منهم عمال الخراج، وكتاب الدواوين، بل شاركوا في أعمال الشرطة والمحافظة على الأمن والنظام في البلاد. وتشير أوراق البردي إلى أسماء كثير من المسيحيين الذين كانوا يقومون بجباية الخراج، وجمع الضرائب الأخرى، ومن بين المسحيين اتخذ أحمد بن طولون ووزراؤه بعض الكتاب، فكان لابن طولون كاتبان مسيحيان، هما يوحنا وإبراهيم ابنا موسى، كما كان لوزير ابن طولون أحمد بن المارداني، كاتب مسيحي يسمى يوحنا، وكان ابن طولون، أيضًا، يتخذ بعض مواليه من المسحيين، ومن هؤلاء “أندونة”، الذي نسبت إليه قرية أندونة في الجيزة، وكان أحمد بن طولون يتردد كثيرًا على رهبان دير القصير ويخلوا في بعض القلالي يفكر، وكان يأنس براهب حكيم يدعى أندونة أيضًا، ويلتمس منه النُصح والإرشاد. كما كان خمارويه يعتمد على بعض المسيحيين في المحافظة على الأمن والنظام في بعض البلاد المصرية، وفي الدفاع عن حدود بلاده. ويبدو أن اليهود كانوا مسالمين، منصرفين إلى شؤونهم الخاصة، ويباشرون أعمالهم في هدوء وسلام ولا شأن لهم بأمور السياسة والحكم، ولا علاقة لهم أيضًا بالحكام. وفي الحقيقة تمتع اليهود في ذلك العصر بالحرية الدينية والاجتماعية والاقتصادية، فباشروا طقوسهم الدينية في أمن وهدوء، واستمروا في مزاولة المهن المختلفة واقتناء الضياع والاشتغال بالتجارة وخاصةً تجارة العملة، كما اشتغلوا بالعلوم والطب. وقد أحسن خمارويه معاملة أصحاب الديانات جميعًا، وخاصةً المسحيين، وكان يراعي أحوالهم، وخاصةً الأساقفة والرهبان، ولم تشر المصادر التاريخية إلى أنه أقدم على إساءة أحد منهم، أو تعرض لكنائسهم وأديرتهم بِسوء.. واشتهرت مصر في العصر الطولوني بالعلوم والطب، فظهر من الأطباء سعيد بن ترفيل، وهو مسيحي كان في خدمة أحمد بن طولون، وسعيد بن البطريق وهو مسيحي أيضًا كانت له عدة مؤلفات منها “التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق”. كذلك ظهر خلال تلك الفترة بعض الكتاب الذين اهتموا بتدوين التاريخ والخطط، ومن أشهرهم عبد الرحمن بن عبد الحكم القرشي، ومن مؤلفاته كتاب “فتوح مصر”، ويُعد ابن عبد الحكم أول مؤرخ لخطط مصر. ومن أشهر مؤرخي مصر في العصر الطولوني أبو جعفر أحمد بن يوسف المعروف بابن الداية، وقد ألف كتابًا في سيرة أحمد بن طولون، وكتابًا آخر في سيرة خمارويه، كما كان له كتبًا أخرى وهي كتاب “أخبار غلمان بني طولونط”، وكتاب “حسن العقبى”، وكتاب “أخبار الأطباء”، وكتاب “المكافأة”. وكذلك من أشهر مؤرخي الدولة الطولونية أبو محمَد عبد الله بن محمد المديني المعروف بالبلوي، وذكر ابن النديم أنه كان عالمًا وفقيهًا وواعظًا، وأنه ألف كتبًا كثيرة منها: كتاب “الأبواب”، وكتاب “المعرفة”. وقد فقدت هذه الكتب جميعًا ولم يبق من مؤلفاته إلا كتابه “سيرة أحمد بن طولون” الذي يعد من أهم المصادر لدراسة تاريخ مصر والشرق الأدنى في القرن التاسع الميلادي.. كما أدرك أحمد بن طولون أهمية دور الجيش في تحقيق استقلال بلاده وحماية مشروعاته كما أسلفنا، لذلك عمل منذ أن وطئت قدماه أرض مصر على تأسيس جيش مدرب يدين له بالولاء ويعتمد عليه، كما قرر زيادة عدد جيشه وتنويع عناصر جيشه من التركمان والزنج والعرب، فاستخدم أربعة وعشرين ألفًا من التركمان، وأربعين ألفًا من الزنوج، وسبعة آلاف من العرب وبقية المائة ألف الذي تألف منها جيشه من الأجناس الأُخرى كالروم والأفغان. واعتنى أحمد بن طولون بالأسطول البحري الذي جاء تأسيسه متأخرًا عن تأسيس الجيش البري. ولم تتضح الحاجة الماسة إلى الأسطول إلا بعد أن توسع ابن طولون في الشام واضطر إلى حماية ثغوره من هجمات البيزنطيين بالإضافة إلى المحافظة على الطريق البحري الذي يربط الشام بمصر. وازدادت عنايته بالأسطول البحري حين اشتدت رغبة الموفق في انتزاع مصر منه، فخشي أن يأتيه من ناحية النيل، لذلك شرع في بناء حصن الجزيرة والإكثار من بناء السفن. وكان شديد الإحساس بقيمة الأسطول لاستكمال استعداده العسكري ولضمان استقلال مصر، وبعد وفاة أحمد بن طولون، عمد خلفه خمارويه إلى تنمية القوة العسكرية لدولته، فزاد عدد أفراد الجيش من واقع إدخال عناصر جديدة في صفوفه. فقد استقدم جنودًا جددًا من آسيا الوسطى من العنصر التركمان، وضم إليهم طائفةٌ من سكان البلاد الشوام والمصريين، فتضاعف العنصر الوطني في الجيش، وارتفعت مكانة الجيش نتيجة ذلك الاهتمام الزائد، وأضحى لجنوده وقادته نفوذ أقوى مما كان في أيام أحمد بن طولون، فاستأثر قادته بامتلاك الضياع، وأدت طوائفه دورًا كبيرًا في سياسة الدولة الخارجية لا سيما في حروب الشام والدفاع عن الدولة المصرية المستقلة. واهتم خمارويه بالأسطول البحري أيضًا، وقد أدى دورًا مهمًا في الحروب التي خاضها الأمير الطولوني في الشام من خلال دعم الحملات البرية.

أُغتيل خمارويه في قصره بسفح جبل قاسيون المشرف على دمشق، وجرى ذلك في الوقت الذي لم يكن يقدر أنه سيقتل في نشوة النصر وذروة الظفر، وشكل مقتل خمارويه المفاجئ بداية نهاية الدولة الطولونية، فاختارت بطانة خمارويه ابنه أبو العساكر “جيش” ليكون حاكمًا على مصر والشام مكانه، ولم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، متجاوزةً أعمامه أبناء أحمد بن طولون البالغين والقادرين على ملء الفراغ، وذلك للحفاظ على امتيازاتها، ولم يكن جيش بالأمير القادر على تحمل المسؤولية التي أوكلت إليه. ودفعت هذه التطورات بعض القادة من المغاربة والبربر والخزر، الذين يميلون إلى أحمد بن طولون وأبنائه، إلى الطلب من جيش التنحي عن العرش وتولية أحد أعمامه، فرفض الطلب، وأقدم على قتل عمه أبي العشائر نصر، وهو من القادة الطولونيين الذين برزوا في المعارك، ورمى برأسه إلى الثائرين. كما استغل والي الشام طغج بن جف زعزعة الوضع الداخلي في مصر، وخرج على الحكم الطولوني، رافضًا أن يخضع لأمير طفل، فاستقل بحكم ما بيده من الأعمال. وكان خروج طغج بن جف على هذا النحو من النذر الخطرة التي برزت في هذه المرحلة من حياة الطولونيين لأنه يعرض حدود الدولة الشرقية للخطر، ومما زاد الأمر صعوبة وخطورة أنه كانت تحت إمرته قوات طولونية كبيرة، ويتحكم بموارد الشام مع وفرتها وكثرتها، الأمر الذي كان له أثر كبير في زعزعة الحكم الطولوني. ولم تكن منطقة الثغور لترضى أيضًا أن تذعن لحكم أمير طفل، فأعلن أحمد بن طغان، نائب الطولونيين في الثغور، عدم رضاه عما آلت إليه الأوضاع، فخرج عن طاعة الدولة المتداعية والانصياع للأمير الصغير جيش. واشتدت الفتنة في مصر ضد حكم جيش، وامتدت إلى حاشيته والمحيطين به، فقام عدد من قادة الجند والموالي بخلعه وسجنه يوم 25 يوليو 896م، ونهبوا داره، ثم ما لبثوا أن قتلوه بعد عدة أيام. فاجتمعت القوى النافذة وقادة الجند، يوم خلع جيش، وأسرعوا في تولية أبي موسى هارون بن خمارويه، وكان صغيرًا لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، متظاهرين بالولاء للبيت الطولوني، لكن الواقع أنهم خشوا أن يتولى الحكم أحد الرجال الطولونيين الكبار فيقف ضد تطلعاتهم ويحاسبهم على أعمالهم، لذلك اتفقت أهواؤهم على تنصيب من لا يقدر على التصدي لعبثهم، ضاربين بذلك الدولة الطولونية من داخلها وساروا بها نحو الهاوية. وقد شهد عهد هارون أحداثًا داخلية خطيرة دفعت الدولة الطولونية إلى نهايتها المحتومة. فقد رأى القيمون على تسيير الأمور أنهم أضعف من أن يواجهوا الأمور المستجدة، وتراجعوا أمام التحديات والتصدي للأخطار الكبيرة التي ظهرت على مسرح الأحداث السياسية في الشام والثغور، وأدركوا أنهم أضعف من أن يخضعوا طغج بن جف، لذلك استقطبوه بالسياسة، فأرسلوا إليه وفدًا يساومه في الاعتراف بحكم هارون مقابل الاحتفاظ بنفوذه في الشام، فنجح هذا الوفد في مهمته وسويت الأمور في الشام وتقررت جميع أعمالها، لكن على الرغم من ذلك فإن الأمور في مصر ازدادت سوءًا، إذ تقاسمت الحاشية السلطة والوظائف العامة مشكلةً مراكز قوى داخل الدولة، وراحت تعمل لمصلحتها، فاحتكرت السلطة وتحكمت بشؤون الدولة، وأصبح لها الكلمة الأولى في تسيير الأمور، وقد سيطر بضعة أفراد منها على بضع طوائف من الجند، فأصبحوا لا يأتمرون إلا بأمر من سيطر عليهم بحيث صاروا له كالغلمان. واختص كل واحد من هؤلاء القادة بسلطات إدارية واسعة، وعمدوا إلى التضييق على أنصار أحمد بن طولون، فنكلوا بهم وشتتوا شملهم. وعلى هذا الشكل تفتتت وحدة الدولة والجيش.

رأى الخليفة العباسي أن الفرصة مؤاتية للتدخل في شؤون الدولة الطولونية والقضاء على استقلالها وإعادة المناطق التي سيطرت عليها إلى حظيرة الدولة العباسية، ويبدو أن الخليفة ارتضى هذه التبعية، فعين ابن الإخشيد أميرًا على الثغور. وتطلع الخليفة بعد ذلك إلى منطقة الجزيرة الفراتية وأعالي الفرات من ديار ربيعة وديار مضر، لاقتطاعها من ملك الطولونيين، واضطر هؤلاء تحت ضغط الأحداث السياسية والعسكرية المتمثلة بخروج بعض مدن الشام وثغورها، بالإضافة إلى ما أصابهم من الوهن، إلى مقايضة وجودهم فيها مقابل اعتراف الخلافة بحقوقهم في مصر والشام، وذلك في سنة 898م. كما أبرم الخليفة معاهدة مذلة مع الطولونيين أجبرهم فيها على التنازل عن أعمال حلب وقنسرين والعواصم، وأن يدفعوا أربعمائة وخمسين ألف دينار سنويًا إلى بيت المال في بغداد، متعمدًا إرهاقهم ماديًا في سبيل خلق مبرر لتدخله المباشر، وأن يوافقوا على تعيين مندوب يمثل الخليفة في مصر ليقوم بالإشراف على أوضاعها. ثم ازداد الوضع الطولوني في الشام خطورةً على أثر ظهور القرامطة الذين اجتاحوا الشام ولم يفلح الجيش الطولوني بالوقوف في وجهها ورد خطرها، فضاعت هيبة الطولونيين في نفوس الناس، وكانت الخلافة تنتظر الفرصة المؤاتبة للتدخل وإثبات وجودها وتأكيد مكاسبها في الشام، وإظهار ضعف الطولونيين، خاصةً بعد وفاة المعتضد واعتلاء أبو أحمد علي المكتفي بالله سدة الخلافة، فقرر التصدي للقرامطة وضربهم في الشام في خطوة أولى، ومن ثم القضاء على الطولونيين فيها وفي مصر في خطوة ثانية. فسار الخليفة في جيش ضخم إلى الموصل ومنها راح يرسل الجيوش الواحد تلو الآخر إلى الشام للقضاء على القرامطة. وطاردوهم حتى حماة وهزمهموهم، ووضعوا حدًا لخطرهم في الشام، وذلك في سنة 904م. كما قبض على الزعيم القرمطي الحسن بن زكرويه مع ثلاثمائة ونيف من مرافقيه، فأُرسلوا إلى الخليفة الذي أمر بإعدامهم فورًا. وما كاد القائد محمد بن سليمان الكاتب يفرغ من الاحتفال بالنصر على القرامطة حتى تلقى أمرًا من الخليفة بأن يستعد لحرب الطولونيين، فمضى لتنفيذ هذه الرغبة، فأعد جيشًا تعداده عشرة آلاف مقاتل أغلبهم من الخراسانية الأشداء. ودعم الخليفة هذا الجيش البري بحملة بحرية، فأرسل قائد الأسطول العباسي في الشام ومصر كي يفرض حصارًا بحريا على الثغور الطولونية ويقطع الإمدادات عنهم. ثم تقدم محمد بن سليمان الكاتب على رأس جيشه إلى دمشق ودخلها من دون مقاومة، وانضمت إليه بقايا القوات الطولونية في الشام، وولاة الطولونيين الناقمون على هارون، ثم تابع تقدمه حتى دخل فلسطين، فقدم له عاملها الطولوني وصيف بن سوار تكين الطاعة، وانضم إلى قواته. حاول هارون التصدي للجيوش العباسية واستقطاب ولاة الشام إلى صفه مجددًا، غير أنهم لم يستجيبوا له، وخلال هذا الوقت كان الأسطول العباسي قد بلغ مدينة تنيس، حيث التقى بالأسطول الطولوني وهزمه شر هزيمة وسقطت المدينة بيده، ثم لحق به حتى دمياط حيث هزمه للمرة الثانية واستولى على مراكبه وأسر بحارته، ثم تقدم نحو الفسطاط فأحرق الجسر الشرقي الذي يصلها بالروضة، وخرب الجسر الغربي الذي يصلها بالجيزة، فقطع بذلك الإمدادات عنها ممهدًا الطريق للقوات البرية لاقتحامها. وفي ظل هذه الظروف قُتل هارون على يد عماه شيبان وعدي ليلة الأحد في 19 ديسمبر 904م، وخلفه شيبان. وما كاد محمد بن سليمان الكاتب يقف على تمزق الطولونيين وتفرق قواتهم على هذا الشكل، واطمأن إلى ضعف المقاومة الطولونية، حتى تقدم من فلسطين إلى مصر. وتقهقرت قوات شيبان بن أحمد فدخلت العاصمة للدفاع عنها، فطاردتها القوات العباسية حتى وصلت إلى الفسطاط والقطائع وضربت الحصار عليهما، كما تقدم الأسطول العباسي وحاصرهما من النهر. وتعرضت المدينتان للضرب المتواصل من البر والنهر في ظل مقاومة طولونية ضارية، ما دفع محمد بن سليمان الكاتب إلى أن يعرض الاستسلام على شيبان مقابل تأمينه وتأمين رجاله، وفي اليوم التالي اشتبك الجيشان وانهزمت القوات الطولونية ودخل الجنود العباسيون القطائع بقيادة محمد بن سليمان، الذي نقض الأمان الذي منحه لشيبان، وعامل الأسرة الطولونية بقسوة، فأخرجها من مصر وأرسل أفرادها إلى بغداد مع قادتهم ومواليهم، ونقل معهم آثارهم وتحفهم، واستصفى أموالهم، وعندما دخل الجيش العباسي القطائع قام بإحراقها ونقل متاعها وأثاثها إلى عاصمة الخلافة، في محاولة لإزالة آثار تلك الدولة التي استعصت على الخلافة طيلة سنوات طويلة. وهكذا سقطت الدولة الطولونية وعادت مصر ولايةً عباسية كما كانت قبل سبع وثلاثين سنة، وتولاها محمد بن سليمان الكاتب بناءً على أمر الخليفة العباسي.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك