الجمعة - الموافق 19 أبريل 2024م

(12) الحكم العربي و”البقرة الحلوب”.. بقلم الكاتب والباحث: محمد السني

Spread the love

 

ألقينا الضوء سابقًا على المفهوم التقدمي للاستقلال الوطني في مقالتنا الأولى بعنوان “الثورة والاستقلال الوطني”، ثم تطرقنا إلى نشأة الأمة المصرية قبل التاريخ في مقالة بعنوان “أهل مصر.. أمة قبل التاريخ”، وعصر الأسر الفرعونية في ثلاث

مقالات بعنوان “الدولة الفرعونية القديمة”، و”الدولة الفرعونية الوسطى”، و”الدولة الفرعونية الحديثة”، ومقالتين عن “مصر البطلمية”، ومقالتين عن “الاحتلال الروماني”، ومقالتين عن “العصر القبطي والقومية المصرية”، ومقالتي هذه عن “الحكم العربي والبقرة الحلوب”.

ظلت مصر ترزح تحت الاحتلال الروماني (اللاتيني والبيزنطي اليوناني)، وتعرض الأقباط “المصريون” لكل ويلات الاحتلال من تسلط وإزلال وتعسف واستغلال لموارده ومقدراته الاقتصادية والبشرية، وسلب لإرادته، وامتهان لكرامته، وبعد أن دخلت المسيحية مصر تعرض المصريون لشتى أنواع التعذيب والاضطهاد بسبب تعارض المسيحية مع الديانة الوثنية للإمبراطورية البيزنطية، وحتى عندما اعتنق الاحتلال الديانة المسيحية، اعتنق المسيحيون المصريون مذهبًا مغايرًا لمذهب الإمبراطورية البيزنطية كما أوضحنا سابقًا، مما ضاعف من المواجهة مع الاحتلال، وتعرض القادة الوطنيين للأمة المصرية ممثلين في الأساقفة والرهبان والآباء الكهنة ويلات الاضطهاد والعذاب نظير ذلك. واثناء زروة هذا التنكيل الرهيب بالمصريين، كان العالم يشهد مولد دولة جديدة فتية في شبه جزيرة العرب، واستطاعت جيوشهم أن تغزو بلاد الفرس وتستولى على الشام، ووصلت إلى مشارف مصر، وباتت تتحين الفرصة للاستيلاء عليها، وذلك لتمكين الدولة الوليدة من الحياة والاستمرار والتمدد. وكانت مصر تتفرد بكثرة عدد سكانها وهو مصدر هام للضرائب والمكوث الكثيرة، وارضها الخصبه ومحصولها الوفير من الغلال، وموقعها المتوسط والمحمي عن طريق الصحارى، وهو موقع مثالي وآمن ومناسب ليكون قاعدة لتطوير هجماتهم على المناطق المحيطة بمصر، وكانت تلك أسباب جذب الطامعين لاحتلالها والتصارع على ملكها عبر التاريخ.

كانت فكرة غزو مصر قد راودت عمرو بن العاص بعدما أتم غزو مدينة دمشق، فقد كان مفتونًا بمصر منذ أن زارها قبل الإسلام، حيث كانت الفجوة الحضارية هائلة بين الأمة المصرية وبلاد العرب، وفي قصة المؤرخين العرب، زار عمر بن العاص الإسكندرية وهو شاب صغير ولفت نظره أن مصر بلدًا غنية جدًا. وانتهز فرصة حضور الخليفة عمر بن الخطاب إلى بلاد الشام ليجتمع مع قادة جيوش العرب وعرض عليه فتح مصر قائلًا “إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونًا لهم” حيث كانت مصر خاضعة للروم، ومنها يستطيع الروم مهاجمة بلاد الشام برًا وبحرًا لطرد الجيش العربي منها، كما كانوا يستطيعون مهاجمة المدينة المنورة مقر الدولة العربية الوليدة عن طريق البحر الأحمر، فتردد عمر بن الخطاب في أول الأمر وكان يخشى على الجيوش العربية من الدخول لإفريقيا ووصفها بأنها “مفرقة”، وعندما تناقش مع عثمان بن عفان، حذره عثمان من طبيعة عمرو بن العاص الجانحة للمخاطرة، ولكنه وافق مضطرًا بعد أن ألح عليه عمرو وهون علية أمر الغزو وعظم أمر مصر رغبة في خيراتها، ومما شجع عمرو بن العاص على ذلك الطلب هو ما عرفه عن خلاف البيزنطيين مع القبط (المصريين) وما أضمره كلًا منهما للآخر من حقد وكراهية واختلافهم في العقائد الدينية وحرمان القبط اصحاب البلاد من حقوقهم وكثرة الضرائب عليهم، مما يعني أنه سيواجه قوات احتلال أجنبي ولن يواجه الشعب المصري بعد أن فقد جيشه منذ الاحتلال الروماني لمصر، وحُرم من حمل السلاح والقتال، وسُلب حق المقاومة ضد الغزاة، وفي النهاية أذن عمر بن الخطاب لقائد جيشه “عمرو بن العاص” بغزو مصر.

دخل الجيش العربي المكون من أربعة آلاف مقاتل العريش في الثاني عشر من ديسمبر سنة 639م، وزحف على “الفرما” وهي أبعد حصون مصر من ناحية الشرق واستولى عليها في الثالث عشر من يناير سنة 640م وهدم أسوارها، واستمر في زحفه بعد أن وصلته الإمدادات التي قُدرت بإثنتي عشر مقاتل، حتى استولى على كل الدلتا وحصن بابليون ومنها إلى جنوب مصر حتى تم طرد كل القوات البيزنطية من مصر في السابع عشر من سبتمبر سنة 642م. وتم اجراء معاهدة صلح بين سيروس (المقوقس) وعمرو بن العاص، انسحب البيزنطيون على أثرها من البلاد وأنتهى الحكم البيزنطي لمصر، وكان عمرو بن العاص أول الولاة العرب، وفرض فيها على المصريين دفع جزية سنوية مقدارها دينارين على كل رجل قبطي بالغ (6 مليون رجل) بمقدار 12 مليون دينار مضاف إليها ضريبة على ملاك الأراضي (3 أردب قمح وقسطين زيت وقسطين عسل وقسطين خل)، ويلتزم المصريون بإعطاء كل عربي جبة صوف أو ثوب قبطي وخفين وبُرنس أو عمة وسراويل سنويًا. وبالاستناد على المصادر المعاصرة فإن موقف المصريين من المعارك التي دارت بين العرب والبيزنطيين كان أقرب للحياد، وذكرت بعض المصادر أن هناك مصريين انضموا للعرب وحشدوا جيش من أهل البرلس والميرة وغيرها وساعدوهم في الاستيلاء على مدينة تنيس في بحيرة المنزلة. وبطبيعة الحال لم يكن المصريون متعاطفين مع البيزنطيين “الملكانيين” الذين نكلوا بم وعذبوهم، وكان سيروس عشية دخول الجيش العربى قد سلب من المصريين اليعاقبة حريتهم الدينية والسياسية ونكل بهم. علاوة على أن العرب كان موقفهم واضح من “أهل الكتاب” وأعطوا المصريين “العهد العمري” الذي كفل حرية العبادة بشكل كبير. وكان عمرو بن العاص قد سمح للبيزنطيين المقيمين في مصر، والذي كان يقدر عددهم حسب بعض المصادر أكثر من ثلاثمائة ألف، بالخروج من مصر أو البقاء فيها ودفع الجزية ففضل معظمهم الخروج، فأخد الأقباط اليعاقبة ممتلكاتهم على أساس أنهم كانوا نهبوها منهم قبل ذلك. وعندما حاول البيزنطيون العودة إلى مصر ونزلوا في الإسكندرية لكي يحتلوها ثانية ساعدهم البيزنطيون المتواجدون في المدينة، ولكن المصريين تصدوا لهم وحاربوهم حتى فشلوا في الاستيلاء عليها.

كان الغزو العربى لمصر قد فض الاشتباك ما بين الكنيسة القبطية والكنيسة البيزنطية، فسقوط عسكر بيزنطة وطردهم من مصر أفقدهم وسائل السيطرة على أفكار ومذاهب المصريين، ورغم كل ذلك صمدت القومية المصرية ولم تذوب في ثقافة المستعمر الروماني والبيزنطي، وخرجت سليمة بعد سبعمائة سنة من القهر والاحتلال، لكن بأعداد هائلة من الشهداء الذين استشهدوا في سبيل القومية المصرية. وخرج المصريون من الكابوس الروماني البيزنطى بلغتهم القبطية وبفنهم وآدابهم وتقاليدهم وبكل شيء يمثل القومية المصرية. وبطبيعة الحال البابا بنيامين الذي اختبأ في الصحارى عشر سنوات ونجى من تنكيل وموت أكيد وكذا الرهبان الذين كانوا مختبئين من مطاردة سيروس وعساكره فرحوا بالأمر، وخرجوا من مخابئهم وذهبوا إلى القائد العربي عمرو بن العاص، ويقال إن عددهم كان سبعين الفًا من الحفاة بملابس رثة وفي يد كل منهم عكاز. واستقبل عمرو ابن العاص البطريرك بنيامين باحترام شديد وأعاده لمنصبه في الإسكندريه. واسترد الأقباط أراضيهم، وضموا كنائسهم ومؤسساتهم للكنيسة المصرية بعد أن تركها البيزنطيون، في هذه الفتره لم يتدخل العرب في شؤون المصريين وعاشوا منعزلين عنهم، ولم يستخدموا أي عنف ضدهم، ولم يجبروا أحدًا على الدخول في الإسلام، بل بالعكس وعدوا المصريين بالمحافظة على الكنائس وعدم المساس بها. وتزامن ذلك مع قانون أصدره الخليفه عمر بن الخطاب بمنع العرب من امتلاك أراضي خارج جزيرة العرب. ولأن العرب لم يكن لديهم نظامًا متطورًا للضرائب، فقد ظل نظام الضرائب البيزنطي المكون من ضريبة خراج الأرض وضريبة الرأس، لكن مجموع الضرائب التي كانت تجمع في ولاية عمرو ابن العاص الذي أصبح واليًا على مصر كانت اثنتي عشر مليون دينار بعد أن كانت عشرين مليون دينار أيام البيزنطيين. وبطبيعة الحال حل المصريون في البداية محل البيزنطيين، حيث بقيت الوظائف تقريبًا حكرًا على المصريين، فكان منهم الكتبة وموظفي الضرائب والقضاه المحليين الذين تم تعيينهم للبت في قضايا الأقباط حسب شريعتهم، فكان هذا نوع من الاستقلال المدني وميزة حُرم منها المصريين في العصر البيزنطي.

عاش العرب في البدايه منعزلين عن الأقباط ولم يقيموا في العاصمة الإسكندرية أو في المدن، ولكن استقروا في حاميات، ولاحقًا أسسوا الفسطاط في منطقة رومانية استراتيجية مابين المقطم وبابليون. شارك المصريون مشاركة كبيرة في بناء مدينة الفسطاط وسمح لهم عمرو بن العاص ببناء كنائس فيها وظلت مدينة عامرة ورحل سكان ممفيس المصريين إلى الفسطاط وسكنوا فيها بجانب أماكن أشغالهم في الدواوين. وأصبحت الفسطاط مركز العرب في مصر وعن طريق دواوينها العربية تم تعريب مصر خطوة خطوة. ولكن ظلت اللغة اليونانىة هي اللغة الرسمية في مصر حتى سنة 706م، وهناك دلائل أن اللغة القبطىة ظلت مستخدمة في الكلام حتى في مدينة الفسطاط نفسها. عملية الأسلمة كعملية التعريب كانت هي الأخرى بطيئة وتدريجية وبدأت ببناء جامع عمرو بن العاص في الفسطاط، وبُنيت جوامع صغيرة في كل حي من أحياء الفسطاط. ولم يكن جامع عمرو بن العاص للصلاة فقط ولكن كان أيضًا مركزًا لأنشطة إدارية وقضائية. واستمرت الإسكندرية تأدي دورها كميناء، ولكن لأن الفسطاط كانت على النيل فكانت هي الأخرى ميناء مهم. كما جدد عمرو بن العاص فتح قناة تروجان التي كانت توصل ما بين النيل والبحر الأحمر وأصبحت المراكب تنقل الغلال التي يزرعها المصريون في وادي النيل لجزيرة العرب عن طريق البحر بدلًا من نقلها بالجمال. وبذلك لم يتغير شيء في عملية نهب مصر، فبدل من نزح الأموال والغلال إلى القسطنطينية لتملأ خزائن وبطون البيزنطيين، أصبحت تنزح إلى شبه الجزيرة العربية. كما سمح العرب بدخول قبائل بدوية عربية للاستقرار في مصر لعمل توازن نسبي مع المصريين، وعرفت تلك القبائل فيما بعد باسم “العربان” وقد تسببوا في اضطرابات ومشاكل كثيرة في مصر في العصور اللاحقة. ورغم ذلك استمر دور المصريين الحضاري، يزرعون ويبنون ويعمرون ويشقون القنوات ويبدعون في الفنون، واستمر المستعمر الجديد يأخد منهم الضرائب والغلال التي يزرعونها.

استمر عمرو بن العاص واليًا على مصر حتى سنة 645م، ثم تم عزله وعين مكانه عبد الله بن سعد بن أبى سرح، واستطاع جمع أموال من مصر أكبر مما استطاع أن يجمعه عمرو بن العاص، بسبب فرضه ضريبة رأس فوق الخراج فجمع أربعة عشر مليون دينار، وسر ذلك عثمان بن عفان فقال لعمرو بن العاص “درت اللقحة بعدك يا أبا عبد الله، بأكثر من درها الأول” فرد عليه عمرو بن العاص “نعم، ولكن أجاعت أولادها” يعنى جوعت المصريين. مصر أقدم بلد في التاريخ وأم الحضارة تحولت للقحة (ناقة حلوب غزيرة اللبن، أو بقرة الحلوب بلغة المصريين) على أيدي المحتلين!!، واستمر ابن أبى سرح واليًا على مصر حوالي اثنتي عشر عامًا حتى قُتل في الشام وعُين قيس بن سعد بن عبادة الخزرجى الأنصاري مكانه ولكنه مات بعد عام، وتولى مكانه عبد الله بن مالك بن الحارث بن الأشتر النخعي الذي كان في عهد الخليفة علي بن أبى طالب لكنه مات مسمومًا على يد أحد عبيده، وعين مكانه محمد بن أبى بكر الصديق الذي قامت في وقته ثوره تطالب بالثأر ممن قتلو عثمان بن عفان واتهم بأن له علاقة ما بقتل عثمان بن عفان.

رغم أن الاستعمار هو الاستعمار والاحتلال هو الاحتلال قهر للغير واستغلاله والعيش من عرق جبينه ونهب ارضه بقوة السلاح، لكن بالنسبه للمصريين في هذه الظروف كان بلاءً أخف من بلاء، حيث انحدرت حالة المصريين إلى الدرجة التي أصبحوا فيها يحلمون باحتلال أجنبى أقل ظلم من احتلال أجنبى آخر، ورغم تحسن أحوال المصريين بشكل عام إبان الحكم العربى في عهد ولاية عمرو بن العاص عما كانت عليه وقت الاحتلال البيزنطى، ولكن لم تدم تلك الاحوال طويلًا بعد عمرو بن العاص وبدأ التعسف وزادت الضرائب المرهقة للمصريين. وانتشر الظلم والاضطهاد في فترة ولاية ابن أبى سرح، وعم مصر الفقر والقحط والبلاء وكرهه المصريون. وبعد أن تدهورت أحوال مصر تحت الحكم العربى، لم يعد لدى المصريين ما يدفعوه وبالتالى قل الخراج أو كما يقول المقريزي “إن نقص الخراج كان بسبب تزايد الخراب سنة بعد سنة”. ومع مرور الوقت أصبح الكثير من المصريين يفضلون دخول السجن عن الدفع لشدة بؤسهم، ومنهم من هرب إلى الأديرة وترهبنوا لأن الرهبان لم يكن يدفعون ضرائب ومنهم من رحلوا عن قراهم وسكنوا في مناطق غير مسجلين فيها على قوائم دافعي الضرائب.

لم يتخذ العرب قرارات اقتصادية حسب خطط لكن حسب الظروف، فلم يكن التطوير الاقتصادي في حساباتهم حيث انصب كل اهتمامهم على نهب غلال مصر وجمع أكبر قدر من الضرائب. حتى قناة تراجان الرومانية القديمة التي أعادوا تشغيلها لم تكن للتجارة ولكن لنقل الغلال من مصر لشبه جزيرة العرب. وبهذا لم يهتم العرب بعمل أى اصلاحات عامة، غير أنهم بعد الفيضانات كانوا يسخرون المصريين لتطهير القنوات وتصليح الطرق والجسور. ومع خراب مصر وقلة الخراج زادت في نفس الوقت المصاريف على العرب لحاجتهم الدائمة لخوض حروب والتوسع في مناطق جديدة، وكان الخلفاء مشغولين بكيفية جلب أموال أكثر لتكوين جيوش جديدة فكان الحل الأسهل هو زيادة الضرائب على الناس، وتسبب كل ذلك في اندلاع العديد من الثورات ضد الحكم العربي.

كتب النيقوسي “لما استولى عمرو بن العاص على الإسكندرية جعل نهر المدينة يابسًا وزاد الضرائب قدر اثنين وعشرين عصا من الذهب، حتى اختبأ الناس لكثرة البؤس وعدموا ما يؤدون”. وفي فصل 112 يفصل ذلك ويتحدث النيقوسي عن استيلاء العرب على إقليم الفيوم وبويط فيقول “إن العرب استولوا على إقليم الفيوم وبويط وأحدثوا فيهما مذبحة هائلة. مات فيها خلق كثيرون من الأطفال والنساء والشيب”. وفي الفصل 118 يصف وقائع الاستيلاء على نيقوس بعد هروب الجيش الروماني من المدينة فيقول “أتى العرب بعد ذلك إلى نيقوس واستولوا على المدينة ولم يجدوا جنديًا واحدًا يقاومهم، فقتلوا كل من صادفهم في الشوارع وفي الكنائس. ثم توجهوا بعد ذلك إلى بلدان أخرى وأغاروا عليها وقتلوا كل من وجدوه فيها. وتقابلوا في مدينة صا باستكوتارس ورجاله الذين كانوا من عائلة القائد تيوردور داخل سياج كرم فقتلوهم!! وهنا فلــنصمت لأنه يصــعب علينــا ذكــر الفــظائــع التي ارتكبها الغزاة عندما احتلوا جزيرة نيقوس في يوم الأحد الخامس والعشرون من شهر مايو سنة 642 في السنة الخامسة من الدورة”. وتسرد لنا الباحثة في التاريخ الإسلامي سناء المصري وقائع تلك الفترة في كتابها (هوامش الفتح العربي لمصر، ص78) فتقول “وقد مارس الحكام العرب صفات السيادة وتسخير المصريين في شتى الأعمال الصعبة من أجل زيادة حصة الضرائب (الجزية)، ومن هذا المنطلق سخر عمرو بن العاص آلاف الفلاحين في إعادة حفر قناة تراجان أو قناة أمير المؤمنين، كما سخر عبد الله بن أبي سعد بن أبي السرح صناع مصر لبناء الأسطول العربي وفي العموم: كان المصريون يقومون بحفر القنوات وبناء الخطط والبيوت للسادة العرب… بينما يكتفي هؤلاء الساده بصفتهم الفرسان أصحاب السيوف والخيول والجيوش باستهلاك الخيرات وإنفاق الثروات… وكثيرًا ما كانت عنجهية الفاتحين تذهب بهم إلى حد الرغبة في الاستخدام المباشر لثنائية السيادة والعبودية، وعدم الاكتفاء بالوضع العام لقوانين الاختلاط، كما حدث مع هذا العربي الذي سخر ملاحًا قبطيًا لنقله عبر النهر بمركبه، وحينما طلب القبطي أجره، رفض العربي متذرعًا بحق السيادة الذي يخول له استخدام المصريين دونما مقابل” وتضيف في موضع آخر في نفس المرجع ص 135 نقلًا عن الطبري كتاب (تاريخ الطبري) الجزء الرابع ص100 “كان عمر يريد عمل القبط في مصر في الزراعة والحرف و يؤدون الجزية على يد وهم صاغرون مما يعود بالخير العميم على بيت مال المسلمين، دون أن يتقلدوا أي وظائف إدارية” ويؤكد نفس الواقعة السيوطي في كتاب (حسن المحاضرة) الجزء الاول ص 63. ويشير الطبري إلى معاناة المصريين أثناء حفر قناة أمير المؤمنين في عمل من أكبر أعمال التسخير الجماعية، وخوف عمرو بن العاص نفسه من هذا الوضع لأن تسخير آلاف في أعمال الحفر يسبب انكسار خراج مصر وخرابها، ولكن رسائل عمر بن الخطاب حسمت الامر اذ جاء فيها “اعمل فيه وعجل، أخرب الله مصر في عمران المدينة وصلاحها”.

هذا مانقله الطبري عن عمرو بن العاص عن رؤيته لمصر “ارضها ذهب ونيلها عجب وخيرها جلب ونساؤها لعب ومالها رغب وفي اهلها صخب وطاعتهم رهب وسلامهم شغب وحروبهم حرب وهم مع من غلب”. ويذكر المسعودي في كتابه “مروج الذهب ومعادن الجوهر” عن قول عمر بن العاص عن أهل مصر “أهل ملة محقورة وذمة مخفورة يحرثون بطون الارض ويبذرون بها الحب يرجون بذلك النماء من الرب لغيرهم ما سعوا من كدهم”. وتعكس هذه التعابير مفاهيم الأعراب البدوية التي كانت تحتقر الفلاح والعمل اليدوي، ولازالت هذه الاخلاق سمة رئيسية للبدو والبلدان البدوية حتى اليوم. وعن نهب عمر بن العاص لمصر يذكر بن الحكم في كتابه فتوح مصر وأخبارها “أرسل عمرو بن الخطاب الي عامله في مصر عمرو بن العاص يسأله: بلغني أنك فشت لك فاشية من خيل وابل، فاكتب لي من اين لك هذا المال فرد ابن العاص: أتاني كتاب أمير المؤمينين يذكر فيه فاشية مال فشا لي، وإنه يعرفني قبل ذلك، لا مال لي، وإني أعلم أمير المؤمينين إني ببلد السعر فيه رخيص، وإني أعالج من الزراعة ما يعالجه الناس، وفي رزق أمير المؤمنين سعة”، ويذكر القلقشندي نفس الحادثة في كتاب صبح الأعشي الجزء السادس ص386، وهو ما يؤكده المسعودي في كتاب (مروج الذهب والمعادن والجواهر) الجزء الثالث ص23 فيقول “إن عمرو جمع مالًا وفيرًا من فترتي ولايته على مصر، وأنه خلف من الذهب70 رقبة جمل مملؤة بالذهب وسبعين بهارًا دنانير وعشرين جلد ثور ملء الواحد منها أردبان بالمصري من الفضة. وخلف عمرو من العين ثلاثمائة ألف دينار، ومن الورق ألف درهم، وغلة مائتي الف دينار، وضيعته المعروفة بالوهط قيمتها عشرة آلاف ألف درهم (مليون درهم)”، ويذكر ابن كثير في كتابه “البداية والنهاية” ص166 “كثرت شكايات العرب بعد وفاة عمر بن الخطاب وولاية عثمان بن عفان من ظلم وجور عمرو بن العاص وأن كثيرًا منهم كانوا محصورين من ابن العاص حتى عزل عثمان عمرًا، وولى عبد الله بن أبي سرح على خراج مصر فقال ابن العاص ساخطًا “أأكون كماسك بقرة وغيري يحلبها؟” ووقع خلاف كبير بين ابن العاص وابن أبي السرح حتى كان بينهما كلام قبيح، فأرسل عثمان ليجمع لأبي السرح (شقيقه في الرضاعة) أمر الخراج والحرب والصلاة، وبعث لابن العاص يقول له “لا خير لك في مقام عند من يكرهك فأقدم لي” فانتقل عمرو بن العاص في نفسه امر كبير من عثمان”، ويذكرها ابن الحكم في كتاب فتوح مصر وأخبارها ص 178 نفس الواقعة. ويذكر الطبري (وهو ماذكر بالنص في كتاب فتوح البلدان للبلاذري القسم الاول ص253) بأن الجيش العربي الفاتح قد أسر أعدادا كبيرة من المصريين، وأن صفوف العبيد من القبط (المصريين) امتدت من مصر إلى المدينة، فينقل عن رجل من أهل مصر أو بمعنى أصح عربي سكن أرض مصر، وكان في جند عمرو بن العاص أثناء الفتح، أنه قال “لما فتحنا بابليون تدنينا قرى الريف فيما بيننا وبين الإسكندريه قرية فقرية حتى انتهينا إلي بلهيب (وهي منية الزناطة بالبحيرة ومحلها اليوم فزارة بمركز المحمودية يقال لها قرية الريش) وقد بلغت سبايانا المدينة ومكة واليمن”.  وكتب المقريزي في كتابه (الخطب والاثار – الجزء الأول) باب عما فعله العرب عند عزو مصر فيقول “وعن هشام بن أبي رقية اللخمي‏‏ أن عمرو بن العاص لما فتح مصر قال لقبط مصر‏:‏ إن من كتمني كنزًا عنده فقدرت عليه قتلته وإن قبطيًا من أرض الصعيد يقال له‏‏ بطرس ذُكر لعمرو‏ إن عنده كنزًا، فأرسل إليه فسأله فأنكر وجحد فحبسه في السجن وعمرو يسأل عنه‏:‏ هل تسمعونه يسأل عن أحد فقالوا‏:‏ لا إنما سمعناه يسأل عن راهب في الطور فأرسل عمرو إلى بطرس فنزع خاتمه ثم كتب إلى ذلك الراهب‏:‏ أن ابعث إلي بما عندك وختمه بخاتمه فجاء الرسول بقلَة شامية مختومة بالرصاص ففتحها عمرو فوجد فيها صحيفة مكتوب فيها‏:‏ ما لكمَ تحت الفسقية الكبيرة فأرسل عمرو إلى الفسقية فحبس عنها الماء ثم قلع البلاط الذي تحتها فوجد فيها اثنين وخمسين أردبًا ذهبًا مصريًا مضروبة فضرب عمرو رأسه عند باب المسجد فأخرج القبط كنوزهم شفقًا أن يبغي على أحد منهم فيقتل كما قتل بطرس‏” ويقول ايضا في نفس المصدر “وقال هشام بن أبي رقية اللخمي‏:‏ قدم صاحب أخنا على عمرو بن العاص رضي اللّه عنه فقال له‏:‏ أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فنصير لها‏.‏ فقال عمرو وهو يشير إلى ركن كنيسة‏:‏ لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك ما عليك إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم، ومن ذهب إلى هذا الحديث ذهب إلى أن مصر فتحت عنوة.

لم يهتم العرب بالعلوم والتعليم حتى انحدرت إلى القاع، وفي هذا الصدد قال القاضي جمال الدين أبو الحسن في كتابه (تراجم الحكماء) “باختصار شديد، نقول: بعد أن فتح عمرو بن العاص مصر والإسكندرية دخل يحي النحوي على عمرو بن العاص وقد عرف ابن العاص موضع الرجل من العلم فأكرمه، وقال يحي يومًا لعمرو بن العاص: إنك قد أحطت بحواصل الإسكندرية وختمت على كل الأجناس الموصوفة الموجودة بها، فأما ما لك به انتفاع فلا أعارضك فيه، وأما ما لا نفع لكم به فنحن أولى به، فامر بالإفراج عنه، فقال له عمرو وما الذي تحتاج إليه؟ قال يحي النحوي: كتب الحكمة في الخزائن الملوكية وقد أوقعت الحوطة عليها ونحن محتاجون إليها ولا نفع لكم بها فقال له عمرو: ومن جمع هذه الكتب؟ فقال له يحي: بطولوماس قيلادلفوس من ملوك الإسكندرية لما ملك حبب إليه العلم والعلماء والتفتيش عن كتب العلم وأمر بجمعها وافرد لها خزائن فجمعت وولى أمرها رجل يُعرف بابن (زميرة) وتقدم إليه بالاجتهاد في جمعها وتحصيلها والمبالغة في أثمانها وترغيب تجارها ففعل واجتمع من ذلك في مدة خمسون ألف كتابًا ومائة وعشرون كتابًا، ولما علم الملك باجتماعها وتحقق عدتها قال لزميرة: أترى بقى في الأرض من كتب العلم ما لم يكن عندنا؟ فقال له زميرة: قد بقى في الدنيا شيئًا في الهند والسند وفارس وجرجان والأرمان وبابل والموصل وعند الروم . فعجب الملك من ذلك وقال له: دم على التحصيل. فلم يزل على ذلك إلى أن مات. وهذه الكتب ما تزال محروسة محفوظة يراعها كل من يلي الأمر من الملوك وأتباعهم إلى وقتنا هذا. فاستكثر عمرو ما ذكره يحي وعجب منه وقال له لا يمكنني ان آمر بأمر الا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. وكتب عمرو لعمر وذكر له ما ذكره يحي وأستأذنه ما الذي يصنعه بها (أي بالمكتبة)، فكتب عمر الى عمرو يقول له: وأما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وان كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة أليها فتقدم بإعدامها (وهذا القول عن عمر تكرر عدة مرات). فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات الإسكندرية وإحرقها في مواقدها فذكروا أنها استنفذت في ستة أشهر. وهي واقعة مذكورة أيضًا في (الفهرس) لابن النديم ص 334، وذكرت أيضًا في (تاريخ التمدن الإسلامي) لجرجي زيدان 3/42. وكان رأي الخليفة عمر عامًا على جميع الكتب والمكتبات في الأقطار التي فُتحت في عهده بما فيها بلاد فارس. فقال صاحب كتاب (كشف الظنون) 1/446 “إن المسلمين لما فتحوا بلاد فارس وأصابوا من كتبهم، كتب سعد بن أبى وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في شانها وتنقيلها للمسلمين فكتب إليه عمر بن الخطاب: أن اطرحوها في الماء، فإن يكن ما فيها هدى؟ فقد هدانا الله تعالى بأهدى منه، وإن يكن ضلال؟ فقد كفانا الله تعالى. فطرحوها في الماء وفي النار فذهبت علوم الفرس فيها، وقال في 1/25 في أثناء كلامه عن أهل الإسلام وعلومهم: إنهم أحرقوا ما وجدوا من كتب في فتوحات البلاد. وقال ابن خلدون في تاريخه 1/32 “فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون، وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل، فأين علوم الفرس التي أمر عمر بن الخطاب بمحوها عند الفتح؟”.

انتهى عهد الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان بقتله، وقام صراع مابين الخليفه الجديد علي بن أبى طالب ومناوئين له، وقف أمير الشام معاوية بن أبى سفيان لفترة طويلة على الحياد في الصراع الذي دار مابين علي بن أبى طالب وخصومه ولم يطالب بالخلافة لكنه طالب بضرورة محاكمة قتلة خليفة المسلمين عثمان بن عفان، ورفض معاوية التنازل عن ولايته على الشام للوالي الجديد الذي عينه الخليفة علي بن أبى طالب. واستطاع معاويه أن يستميل عمرو بن العاص لصفه، وحدث اشتباك مسلح مابين معاوية وعلي في معركة “صفين” على نهر الفرات في أواخر سنة 657 انتصر فيها عسكر معاوية. وبايع أهل الشام معاوية بالخلافة فوجد الفرصة مواتية لضم مصر لملكه فبعت جيش على مصر سنة 659 بقيادة عمرو بن العاص. وكان والي مصر العربى وقتها محمد بن أبى بكر الصديق ودخل جيش معاوية بقيادة عمر بن العاص مصر واصطدم بجيش محمد بن أبى بكر في يوليو 658 وانتصر عمرو بن العاص وقبض على محمد بن أبى بكر بعدما هرب واختبأ، و لما قبض عليه قال لهم “أكرمونى لأجل أبى بكر”، فرد عليه معاويه بن خديج “لا أكرمنى الله إن أكرمتك” وضرب رقبته بالسيف، ووضعوا جثته في بطن حمار وأحرقوه، وأرسلوا ملابسه ملطخة بدمائة على المدينة ووضعوها في بيت عثمان بن عفان ليتشفى أهله فيه، وذهبوا لأمه أسماء بنت عبس وقالوا لها “قد قُتل ابنك محمد بمصر، وأُحرق في جوف حمار” فعضت على شفاها حتى نزفت من الحزن على ابنها. وأرسلت أخت معاوية بن خديج لعائشة بنت أبى بكر خروف مشوي وقالت لها “هكذا شُوي أخوك محمد بمصر”. وبذلك استولى عمرو بن العاص على مصر للمره الثانية، ففي المرة الأولى حارب البيزنطيين وفي المرة الثانية حارب عرب. وبقتل محمد بن أبى بكر الصديق انتهى عصر حكم الخلفاء الراشدين وبقيت مصر ولاية أمويه وبقى عمرو بن العاص واليًا على مصر للمرة الثانية وظلت الضرائب والخراج  والأموال تُجمع من كد وشقا المصريين وتذهب إلى دمشق عاصمة الأمويين.

في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك، أصدر الوالي الأموي عبد الله بن عبد الملك قرارًا في سنة 706م باستبدال اللغة القبطية بالعربية في كل شؤون الدولة، وبالطبع لم يُفعل هذا القرار في نفس الوقت، لكنه كان وسيلة لإجبار الكتبة المصريين لتعلم اللغة العربية لكي يحتفظوا بوظايفهم، وفي هذه الفتره كانت الوثائق تكتب بالقبطي وبالعربي. وكان انتشار اللغه العربيه بمحتواها الثقافي العربى سبب تقليل عدد المدارس المصرية التي كانت تدرس العلوم مثل الطب والرياضيات والفلك وغيرها وهي مواريث مصرية قديمة، واستمر هذا الوضع حتى انتشر الجهل وسادت الأمية، وتدريجيًا اختفي العلم في المجتمع المصري. ومثل انتشار اللغة العربية في مصر الانفصال الثاني الكبير بين المصريين وحضارة عصري الفراعنة والقبط، فبعد أن قطعت اللغة القبطية الصلة بين المصريين والكتابة بالخط الديموطيقي كما أسلفنا سابقا في مقالتنا بعنوان “العصر القبطي والقومية المصرية”، أضاعت اللغة العربية التحدث بها أيضًا، وبذلك لم يعد للمصريين صلة باللغة المصرية القديمة لا تحدث ولا كتابة، ورغم أن اللغة ليست محددًا حاسمًا للهوية، فالنمسا مثلا تتحدث الألمانية ولكنها كيان حضاري مستقل عن ألمانيا، وهذا الأمر نفسه بالنسبة لبلدان مثل سويسرا التي تتحدث أربع لغات، وكندا التي تتحدث لغتين، وأمريكا اللاتينية التي تتحدث الإسبانية والبرتغالية من دون أن يجرؤ أحد على وصف هوية تلك البلدان بالفرنسية أو البريطانية أو الإسبانية، ولكن ماحدث في مصر أمرًا مختلف حيث أصيبت مصر بحالة انفصام شبه تام عن تاريخها الإنساني والثقافي والعلمي والحضاري العظيم، وبدلا من أن تصبح الحقبة العربية أحد مكونات القومية المصرية العريقة، وعنصرا حديثًا من عناصر الهوية المصرية، إلا أنه حدثت عملية بتر للتاريخ المصري ليبدأ منذ سنة 642م.

“إن مصر انما دخلت عنوة، وإنما هم عبيدنا (المصريين) نزيد عليهم كما شئنا ونضع كما شئنا”، شاعت هذه الجملة في الرسائل الأموية، فقام الخليفة العاشر هشام بن عبد الملك (724-743) بزيادة الضرائب بعد أن نصحه والي خراج مصر عبد الله بن الحبحاب بأن مصر تحتمل زيادة في ضريبة الخراج فزود الضريبة قيراط على كل دينار، ولم يكتف بضرائب الأرض ورؤوس البشر (الجزية) ولكنه فرض أيضًا ضرائب على رؤوس الحيوانات، وتجبر على المصريين وقطع أيدي من امتنع عن الدفع حتى ثار المصريون في الصعيد وطردوا عمال الخراج، فأرسل حنظلة لهم العسكر الذين قتلوا منهم أعدادًا كبيرة واستمر حنظلة في أعماله الإجرامية حتى عزله الخليفة هشام بن عبد الملك قبل أن تعم الثورة مصر كلها. واستمر النهب والتعسف والاضطهاد ضد المصريين طيلة العصر الأموي ووصل لذروته سنة 750م، واستمرت الثورات والانتفاضات في نواحى مصر ضد الحكام الطغاة، ومن أشهر الولاة الذين عوفوا بالظلم هو الوالي أسامة بن يزيد الذي فرض على كل مصري مسافر في مركب في النيل دفع ضريبة مقدارها عشرة دنانير رسم عبور، وتدهورت أحوال المصريين في العصر الأموي وعجز الفلاحون عن تسديد الضرائب المفروضة عليهم. وبموت الخليفة هشام بن عبد الملك تقهقرت الدولة الأموية وتضاعفت المظالم في مصر. ففي الفتره مابين 739 و 773م ثار المصريون خمس مرات وشارك فيها كل فئات الشعب المصري، وبشكل خاص المطحونين والاقباط. في تلك الأثناء لم تكن مصر تعرف التعصب الديني وكانت علاقة المصريين الاقباط والمصريين المسلمين عادية وتعاملهم كمصريين. واستمر الأمويين على سياسة ملء مصر بقبائل العرب وفي عصرهم تدفقت أعداد كبيرة من العربان على مصر، منهم من عمل بالزراعة وتعرضوا هم أنفسهم للنهب فشاركو في ثورات المصريين ضد الحكم الأموي. وفي سنة 750 أثناء حكم عبد الملك بن مروان اشتد الظلم بالمصريين، وأثناء انشغال أبيه مروان بمحاربة أبو العباس السفاح في الشام، ثار المصريون وقتلوا عمال الخراج في البشمور في الدقهليه وقاوموه في براري الدلتا وبحيراتها في المنزلة ودمياط وانتصر المصريون على عساكره مرتين بقيادة مينا بن بقيره، وفي تلك الأثناء وصل مصر مروان الهارب من أبو العباس فهجم عليهم وغلبهم فهربوا على قراهم وتحصنوا فيها فحاصرهم وشنوا هم عليه حرب عصابات ليلًا حتى اضطروه على الانسحاب. ووصل أبو العباس مصر ووقف المصريون في صفه فهرب مروان على الصعيد ونهب قرى ورفض المصريون في طخا في المنيا دفع الخراج فأرسل لهم عسكر استباحوا دمهم. وعندما عاد مروان على الفسطاط وجد جيش أبو العباس عندها فقام بأحراق الفسطاط، وعانى المصريون معاناة كبيرة حتى انتصر أبو العباس وقتل مروان، وبذلك انتهت الخلافه الأموية في الشام وحلت محلها الخلافه العباسيه في بغداد.

ظلت مصر “البقرة الحلوب” للحكام العرب، وفي بدايات العصر العباسي تحسنت أحوال المصريين عما كانت عليه أيام الأمويين. وعاهدهم أبو العباس على أن يكون عادلًا معهم فاطمئن المصريين قليلًا، ولكن سرعان ما بدأ الإضطهاد العباسي وعادت معه ثورات المصريين، ففي سنة 150 هجرية تمرد المصريون في سخا وطردوا عمالها ثم ساروا إلى شبرا سنباط وانضم إليهم أهل البشرود والأوسية والبجوم وتحرك والي مصر يزيد بن حاتم المهلبي بجيش كثيف تعرض للهزيمة، فلما وصلت الأنباء إلى مسامع الخلفية هاله الأمر وعزل الوالي، فجاء الوالي الجديد وتمكن من قمع المتمردين. وفي سنة 156 هجرية قامت انتفاضة جديدة في مدينة بلهيب تمكن نفس الوالي من قمعها، وهدأت الأحوال حتى سنة 261 هجرية حيث قامت الانتفاضة الكبرى في مصر عندما عاث عمال أمير مصر عيسى بن منصور فسادًا في أرجـاء مصــر فاحتــج أهل الوجـه البحري جميـعًا من مسـلميـن وأقباط واعلنوا العصيان وطردوا العمال واحتشد الأهالي فسار الوالي بجيشه لقتالهم فاستعدوا له فهابهم وجبن عن لقاءهم فتقهقر جيشه فازداد الأهالي حماسة وبلغوا الفسطاط وتمكنوا من طرد الوالي وصاحب الخراج. وكانت آخر ثورات المصريين في العصر العباسى سنة 813م في عهد الخليفة المأمون وعرفت باسم “ثورة البشموريين”، التي امتدت لنواحى كثيرة في مصر، فأتى المأمون إلى مصر لكي يقضي عليها بنفسه، ورأى الحالة المزرية للمصريين، ويقال إنه عاتب الوالي وقال له “حملتم الناس ما لا يطيقون”، واستطاع أن يخمد الثورة باستخدام القهر والملاينة، وخلال اقامته بمصر التي امتدت لشهرين اعتقل وقتل أعدادًا كبيرة من المتمردين، وكانت تلك آخر ثورات المصريين الكبيرة الذين أنهكهم الاضطهاد والتعسف. وبحلول القرن التاسع كان الأقباط أقلية في مصر، وأزاحت اللغة العربية اللغة اليونانيه عن دواوين الدوله وبدأت تأخذ مكان اللغة القبطية في المعاملات بين الناس، وعلى القرن الحادي عشر ظهرت قواميس (قبطي – عربى) وظهرت كتب قواعد النحو القبطي بالعربي من تأليف كتاب أقباط، وبذلك تعربت وتأسلمت مصر وأصبح المصريين طائفتين، أقباط حيث أصبح المسيحيون المصريين يتسمون بذلك، ومسلمين.

في فترة ولاة العباسيين لم يتجاوز مبلغ الضرائب من المصريين ثلاثة مليون دينار، ويقول المقريزى “وانحط خراج مصر بعدهما (عمرو وابن سعد) لنمو الفساد مع الزمان وسريان الخراب في أكثر الأرض”. وبسبب الخراب الذي عم مصر وتدهور أحوال المصريين بشكل مريع نقصت الزراعة وكسدت التجاره، كما قل عدد السكان بسبب الأوبئة. وعندما عجز الوالي محفوظ بن سليمان أن يجمع لخزانة الخليفة أكتر من ثلاثمائة ألف دينار أرسل الخليفة من بغداد قوة قبضت عليه وارسلته لبغداد وهو مقيد بالحديد. وكان الخليفة يحدد مبلغ للولاة لابد أن يحققوه ولذلك كانوا يستعملون كل وسائل البطش والتنكيل لكي يحققوا للخليفة طلبه. واشتدت المظالم الكثيرة في عهد آخر ولاة العباسيين احمد محمد بن المدبر، وتفنن في إنشاء انواع جديدة من الضرائب كان منها ضريبة على العشب الذي تاكله بهائم الفلاحين وسماها “خراج المراعي”، وضريبة على الأسماك الذي يصطاده الصيادون وسماها “خراج المصايد”، كما أضاف ضريبة سماها “الخراج الهلالي” فرضها على كل المحاصيل الزراعية والمنتجات الصناعية والأملاك وكان يحصلها ظلمًا وعدوانًا مع ضريبة الارض (الخراج). ورغم ذلك كل ما استطاع أن يجمعه من جيوب المصريين مبلغ ثمانمائة ألف دينار، بسبب هلاك الناس وهروبهم وتركهم لمصادر رزقهم، فقل بذلك الوعاء الضريبي، وبقيت “اللقحه” غير قادرة على العطاء أكثر من ذلك، وعلى حد قول ابن إياس “قد آل أمرها (مصر) إلى الخراب من يومئذ”.

جاء الغزاة العرب ورزقهم تحت ظلال رماحهم!! بمعنى أنهم اعتمدوا على غيرهم في معيشتهم، فلم يحترفوا سوى الحرب والحكم، بينما ظل الصناع والزراع من أهل البلاد الأصليين يواصلون صنع الحياة كدًا وعرقًا، ويستولي هؤلاء الغزاة على خيراتهم سواء بالاستيلاء الصريح، أو بواسطة المكوس والجبايات أو الجزية، ليجد أبناء تلك البلاد أنفسهم في وضع لا يعني سوى استبدال الغزاة الرومان بالغزاة العرب، ولم يخطر على بال الحكام العرب تعيين والي أو حتى من ينوب عنه من المصريين. ورغم ذلك كان العرب يرون أنفسهم أتم الناس عقولًا وأحلامًا وأطلقهم ألسنة وأوقرهم أفهامًا (الألوسي في بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب-ج1ص 144). وتحكمت النظرة العنصرية في العربي المحتل، ليس من خلال نهب ثروات مصر فحسب، وليس بكل أشكال التعذيب البدني لمن كان يرفض دفع الجزية أو الخراج، وإنما ظهر في كلامهم كما قال ابن عباس “المكر عشرة أجزاء، تسعة منها في القبط (المصريين)، وواحد في سائر الناس” أما معاوية بن أبى سفيان فذهب إلى ما هو أخطر إذ قال “أهل مصر ثلاثة أصناف: فثلث ناس، وثلث يُشبه الناس، وثلث لا ناس. فأما الثلث الذين هم الناس فالعرب، والثلث الذين يُشبهون الناس فالموالي، والثلث الذين لا ناس المسلمة يعنى “القبط” (المقريزي في كتاب المواعظ والاعتبار، ص56) اعتمادا على الحديث النبوي “لا تكون العرب كفؤا لقريش والموالي لا يكونون كفؤا للعرب” (شمس الدين السرخسي، نقلا عن خليل عبد الكريم، الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، ص16).

كان ابن المدبر آخر ولاة الدولة العباسية في مصر قبل إرسال الخليفة لوالي يستطيع أن يدبر مبلغ أكبر، ولكن لسوء حظه أن أرسل “احمد بن طولون” الذي استقل بمصر، لتبدأ حقبة ما عرف باسم “عصر الدويلات المستقلة”. حيث أُعتبر نهاية الحكم العباسى في مصر نهاية للحكم العربى، ومن هذا الوقت لم يحكم العرب مصر، صحيح حكام مصر في الفتره مابين قيام الدوله الطولونيه (868) و سقوط الدوله المملوكيه (1517) لم يكونوا من اصول مصريه لكن مصر كانت بلدهم وولدوا وعاشوا ودفنوا فيها، وشهدت مصر في تلك الحقبة حكام من أعظم حكامها من العصر الفرعونى مثال الناصر محمد بن قلاوون والكثير غيره، وفي عهودهم كانت مصر دولة مستقلة تمامًا، ولم تعد تُنهب وتُشحن غلتها في مراكب متجهة إلى عاصمة الإمبراطور أو الخليفة، ولم يعد المصريون يدفعون ضرائب خراج ورأس لملء خزائن ملك أو خليفه أجنبى يعيش خارج مصر. وهذا التحول كان له نتائجه وانعكاساته على المصريين الذين تحسنت أحوالهم تحسنًا كبيرًا، وتوضحه كتابات الرحاله والمؤرخين الذين زاروا مصر في تلك الأزمان، ونهضت مصر نهضة كبيرة في الثقافة والعلوم والاقتصاد وتحولت القاهرة لمدينة عظيمة ليس لها مثيل.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك