الخميس - الموافق 28 مارس 2024م

(11) العصر القبطي والقومية المصرية 2-2.. بقلم الكاتب والباحث: محمد السني.

 

بداية أود التنويه للقارئ الكريم بأنني قمت بدمج مقالتي العاشرة السابقة، بعنوان “العصر القبطي والقومية المصرية 1-2″، مع مقالتي هذه الثانية عن نفس الموضوع، وذلك للحفاظ على وحدة الموضوع، وترابط الأفكار، ووضوح الرؤية بالقدر

المستطاع!!!… وكنا قد ألقينا الضوء سابقًا على المفهوم التقدمي للاستقلال الوطني في مقالتنا الأولى بعنوان “الثورة والاستقلال الوطني”، ثم تطرقنا إلى نشأة الأمة المصرية قبل التاريخ في مقالة بعنوان “أهل مصر.. أمة قبل التاريخ”، وعصر الأسر الفرعونية في ثلاث مقالات بعنوان “الدولة الفرعونية القديمة”، و”الدولة الفرعونية الوسطى”، و”الدولة الفرعونية الحديثة”، ومقالتين عن “مصر البطلمية”، ومقالتين هذه عن “الاحتلال الروماني”، ومقالتي هذه عن “العصر القبطي والقومية المصرية 2-2”.

إن البطالمة الذين حكموا مصر من الإسكندرية من حكم  بطليموس الأول حتى حكم  كليوباترا السابعة، تمصروا وتفرعنوا واحترموا العادات والتقاليد والثقافة المصرية ولم يتم  فرض ديانة أو لغة على المصريين، وحاولوا الدمج ما بين العقائد  المصرية واليونانية لاسترضاء المصريين واليونانيين، وانسجم المصريون والبطالمة على هذا الدمج الذي ظل حتى عام 30 ق.م عندما غزا الرومان مصر وقضوا على الدولة البطلمية واحتلوا مصر وحولوها من مملكة مستقلة لولاية رومانية يحكمها نائب عن الامبراطور الروماني، ويطبق القوانين الرومانية على المصريين، وبذلك فقدت مصر استقلالها الذي دام لآلاف السنين بلا انقطاع ولم تعد تملك من أمرها شيئًا، كما أدت الإصلاحات والتغييرات التي أحدثها الاحتلال الروماني إلى استنزاف مصر لصالح الإمبراطورية الرومانية، ولم يحدث أي تطور أو تنمية للمدن والبلدات المصرية خارج المدن الكبرى، التي مثلت الأغلبية السكانية من المصريين والإغريق الذين نزلوا إلى مرتبة المصريين. وفي هذه الفترة كان سكان مصر يتشكلون من ثلاث طوائف رئيسية هم المصريون، واليونانيون، واليهود، وبطبيعة الحال كان عدد اليونانيين واليهود صغيرًا جدًا مقارنة بعدد المصريين، ورغم ذلك منحهم الرومان مزايا كثيرة لم يمنحوها  للمصريين وأنشأوا لهم محاكم خاصة أضاعت حقوق المصريين في المنازعات القانونية مع اليونانيين واليهود.

وكما أوضحنا سابقًا، نجح الجيش الروماني في السيطرة على أراض واسعة تمتد على اتساع البحر الأبيض المتوسط وجزء كبير من أوروبا الغربية، ضمت هذه الأراضي العديد من المجموعات الثقافية المختلفة، متراوحة بين البدائية إلى المتطورة. وكانت مقاطعات شرق المتوسط بصفة عامة أكثر تحضرًا وتطورًا اجتماعيًا، حيث سبق لها أن خضعت للإمبراطورية المقدونية وللثقافة الهيلنستية الراقية. بينما كانت المناطق الغربية لا تزال ريفية وأقل نموًا، وغير موحدة تحت سلطة واحدة ثقافية أو سياسية، وفي عام 330م أسس الإمبراطور قسطنطين “القسطنطينية” باعتبارها روما الثانية على موقع بيزنطة والتي كانت في مركز جيد على مفترق طرق التجارة بين الشرق والغرب. وفي عام 364م قسم الامبراطور فالنتينيان الأول الإمبراطورية إلى قسمين غربي وشرقي، ووضع نفسه على السلطة في الغرب وشقيقه فالنس في الشرق، وتباينت مصير المنطقتين بشكل كبير على مدى عدة قرون لاحقة. وكانت الإمبراطورية الشرقية “البيزنطية” تضم عند تقسيم الامبراطورية الرومانية قبيل وفاة الإمبراطور ثيودوسيوس الأناضول بآسيا، واليونان، وجزر بحر إيجة، وأرمينيا، وآسيا الصغرى، والشام، والجزيرة الفراتية السورية، ومصر، وبرقة. كما كان النصف الشرقي من الإمبراطورية الرومانية أقل عرضة للهجوم الخارجي، ويرجع الفضل في ذلك إلى موقعها الجغرافي، حيث تقع العاصمة القسطنطينية على مضيق البوسفور ومن الصعب للغاية اختراق دفاعاتها، بالإضافة إلى ذلك، كانت الإمبراطورية الشرقية على حدود مشتركة مع الكثير من دول أوروبا، كما استفادت كثيرًا من مركزها الإداري القوي والاستقرار السياسي الداخلي، فضلًا عن ثروتها الكبيرة مقارنة مع الدول الأخرى في الفترة المبكرة من القرون الوسطى، وكانت قادرة على بذل المزيد من الجهد للسيطرة على موارد الإمبراطورية الاقتصادية لتكون أكثر فعالية على حشد القوى البشرية الكافية لمكافحة غزو الأباطرة الشرقيين. ونتيجة لهذه المزايا، مرت الإمبراطورية الرومانية الشرقية بأشكال مختلفة والمعروفة باسم الإمبراطورية البيزنطية أو بيزنطة، وكانت قادرة على البقاء على قيد الحياة لعدة قرون بعد سقوط روما. وعدت بيزنطة نفسها الوريثة الوحيدة للإمبراطورية الرومانية القديمة، وحاولت فرض سيطرتها على كل الأراضي التي كانت تابعة لروما، والتي أصبحت جزءً من العالم المسيحي. ومع كل ما أظهرته بيزنطة من تعلق بصلاتها التاريخية بروما القديمة، ومع كل ما أبدته من تقليد للمؤسسات السياسية الرومانية القديمة، فإنه مع مرور الأيام كان يبدو واضحًا أن هذه الدولة تكون لنفسها شخصية مستقلة، لها معالمها المميزة عن الإمبراطورية الرومانية، ويتضح ذلك في مجالات الثقافة واللغة والدين، كما كان للتطور الاقتصادي والاجتماعي أثره في خلق أطر تنظيمية جديدة، حتى أنه في أواخر حياة هذه الدولة أصبحت هناك هوة عميقة بينها وبين سالفتها الرومانية. ولا بد في إطار هذا الحديث العام عن الإمبراطورية البيزنطية من تحديد المحطات المهمة في تاريخها، فإلى جانب كونها استمرارًا للإمبراطورية الرومانية، فقد حدث تغيران هامان في المرحلة البيزنطية من تاريخها هما، أولاً انكماش حدودها، إذ لم تعد تشمل جميع البلدان المحيطة بالبحر المتوسط، والأراضي الواقعة بين بلاد ما بين النهرين والمحيط الأطلسي، كما كان الحال في السابق، وثانيًا دخول المسيحية دينًا وحيدًا عوضًا من خليط الديانات التي كانت موجودة في السابق. فقد أصدر الإمبراطور قسطنطين في عام 313م مرسومه الشهير الذي سمح بممارسة العبادات والشعائر المسيحية علنًا بعد أن كانت تمارس في السر من قبل أتباعها، وفي نهاية القرن الرابع قام الإمبراطور تيودوسيوس الكبير بإكمال خطوة قسطنطين، وأصدر قراره بجعل المسيحية الدين الوحيد المسموح به في الإمبراطورية وعد كل ما عداه كفرًا وهرطقة تستوجب الموت.

قبل دخول المسحية مصر، كانت القومية المصرية ملتفة حول المعابد والكهنة في الصعيد والدلتا، وهي الأماكن التي تجمع وعاش فيها المصريون من الفلاحين والعمال والحرفيين، وقد عاشوا مثل أجدادهم في عصور الفراعنة بعيدًا عن التطورات الثقافية في الإسكندرية وباقي المدن اليونانية والرومانية. وكانوا يتحدثون اللغة المصرية، ويكتبون بالخط الديموطيقى، ومعبوداتهم كانت الآلهة المصرية. ولكن الديانة المصرية التي عاشت قرون في مصر وكانت مركزًا رئيسيًا للقومية المصرية تحولت في آخر أيامها لمجرد ديانة طقوسية ومجموعة رموز ليس لها معنى وانحدرت لمستوى السحر والتعاويذ والتمايم وأصبحت ديانة ممسوخة، وعلاوة على ذلك تحول فيها ملوك وأقارب ملوك وأصحاب ملوك أجانب يونانيين ورومان لآلهة، وحُرفت أسماء الآلهة المصرية العتيقة وأُدرج فيها اسماء يونانية وأضيف آلهة أجنبية للبانتيون المصري، وانتشرت بين الكهنة المصريين طائفة من المنافقين الذين ينافقون الحكام الأجانب ويسمحون لهم بالتأله ونقش اسمائهم على جدران المعابد بالملابس الفرعونية. وبذلك لم تعد الديانة المصرية تعبير قوي عن القومية المصرية كما كانت في العصور الفرعونية قبل غزو الفرس لمصر، كما كانت المسيحية تحوي عناصر كثيرة تلائم العقلية المصرية، وتشبه عناصر موجودة أصلاً في الديانة المصرية مثل الثالوث المصرى المقدس (أوزوريس وإيزيس وحورس) والثالوث البطلمي (سيرابيس)، والأم إيزيس والابن حورس، والروح با و كا، والصليب رمز الحياة الأبدية (عنخ)، والبعث والكثير غيره. كما كان منظر العذراء مريم وابنها الطفل يسوع في المراحل الأولى للفن القبطي تشبه صورة إيزيس وهي ترضع طفلها حورس، وظل هذا الثماثل صورة ثابتة في الأيقونات القبطية. وظلت المسيحية وسيلة للمصريين لمناوئة الحكم الأجنبى، حكم الامبراطور الروماني المتأله.

كان المسيح يهوديًا من إسرائيل وقد ولد أثناء عهد الإمبراطور أغسطس وأُعدم في عهد الإمبراطور تيبريوس، وكانت المسيحية أساسًا حركة إصلاحية داخل اليهودية ولكن رسالة المسيح حققت نجاحًا محدودًا بين الشعب اليهودي، ولذا سرعان ماتم توجيهها إلى العالم اليوناني الرماني آنذاك، الذي رحب بها ووجد فيها تصحيحًا وإتمامًا للفلسفة الإغريقية الرومانية، وبذلك إلتقت أفكار الشرق الدينية بعلم العالم الإغريقي الروماني وفلسفته. لكن الواقع أن رسالة المسيح قد حققت تقدمها الكبير الأول بين جموع المحرومين والفقراء في العالم الروماني، لقد كانت المسيحية كما عبر عنها المسيح في الرسالة البسيطة لعظة الجبل هي “وعد للمحرومين” في هذا العالم المرهق الذي هزته الحروب والغزوات وتصارع المذاهب والأفكار وواجبات الدولة المرهقة، فوجد في قصة حياة المسيح وفي قصة استشهاده الملاذ والوعد بالخلاص. ولم يدعو المسيح إلى “يهوه” إله إسرائيل بل دعى إلى إله كل العالم (أبونا الذي في السماوات) وبشر بمملكة للضعفاء والمحرومين في السماء وما كان أكثرهم في العالم الروماني. وأعلن أنه المسيح الذي بشر به أنبياء إسرائيل فانقسم اليهود إزائه فريقين، فريق آمن به وبدعوته وبكونه المسيح آخر أنبياء إسرائيل ومخلصها وفريق آخر أنكر ذلك، وهنا بدأت السلطات الرومانية تنتبه إلى حركته وتخشى من تداعياتها في فلسطين وأخيرًا اجتمع رأي الفريقين (اليهودي والروماني) على القضاء عليه فتم تدبير القبض عليه وصدر حكمًا بإعدامه على أساس تهمة ادعاء ملك إسرائيل وكانت تهمة خطيرة، إذ كان الإمبراطور الروماني هو الملك الوحيد على العالم الروماني، وتم تنفيذ الحكم في عهد الإمبراطور تيبريوس كما تشير سجلات الدولة الرومانية. وقد تجمعت في قصة المسيح كل ثقافات العالم  القديم اليهودية والمصرية والفارسية والإغريقية، ووفرت لها البيئة الرومانية ثم البيزنطية التي شملت كل أقاليم البحر المتوسط سبل الانتشار السريع.

وصلت المسيحية إلى مصر في القرن الأول الميلادي، حيث يُروى أن القديس مرقس قد حضر إلى مصر بنفسه وأنه بشر بالدين الجديد في الإسكندرية في اواسط القرن الأول الميلادي، ولكن دلائل ظهور المسيحية في مصر بدأت تتضح منذ القرن الثاني الميلادي فقط، حيث ظهر في هذه الفترة نشاط وكتابات مسيحية هامة، منها نص على أوراق البردي من إنجيل القديس يوحنا يرجع إلى النصف الأول من القرن الثاني وكذلك نص من إنجيل مسيحي غير الأناجيل الأربعة المعروفة (لوقا، ومتى، ومرقص، وحنا) لعله إنجيل برنابا المصري. وقد أضيف إلى الأناجيل الأربعة المعروفة فصول من أعمال الرسل وهم تلاميذ المسيح أثناء تبشيرهم برسالته في العالم الروماني خاصة بولس وبطرس. ومثل ذلك التراث الديني ما عرف بعد ذلك باسم “العهد الجديد” تمييزًا له عن تراث إسرائيل الديني القديم والذي عُرف منذ ذلك الحين باسم “العهد القديم”، وشكل التراثان معًا ما أصبح يُعرف باسم “الكتاب المقدس”. والأناجيل في كل الأحوال هي سيرة حياة المسيح وتتفق في معظمها على الخطوط العامة وتختلف في بعض التفاصيل فقط. ولقد كان للظروف الدينية والفكرية التي سادت الإسكندرية في ذلك الوقت تأثيرًا إيجابيًا كبيرًا على نشر الديانة الجديدة بسبب المناخ الفلسفي الذي ساد الإسكندرية في ذلك الوقت وظهور الدعوة الغنوصية التي كان أصحابها ينكرون الديانات القديمة ويميلون إلى الإعتقاد في فكرة إلهية تتمثل فيها المثل الدينية الرفيعة دون التقيد بدين معين، تمامًا مثل الحركة الحنيفية التي ظهرت في الحجاز قبل ظهور الإسلام مباشرة. وفي وسط ذلك المعترك العنيف من المذاهب والفلسفات والأديان المختلفة من ناحية واضطهاد الدولة والتزاماتها الثقيلة من ناحية أخرى شقت المسيحية طريقها وأصبح لها في الإسكندرية مركزًا ورئيسًا ومدرسة تعليمية لتدريس تعاليمها حوالي نهاية القرن الثالث الميلادي. ومن الإسكندرية انتشرت المسيحية إلى جميع أنحاء مصر وبعد ذلك أصبحت ديانة الأغلبية المصرية. ولقد كان من شأن تلك الروح الفلسفية للإسكندرية أن تكون ذا تأثير قوي على المفكريين اللاهوتيين المسيحيين الأوائل الذين عاشوا وعملوا في الإسكندرية بحيث اشتهرت كنيسة الإسكندرية في أنحاء عالم البحر المتوسط بأكاديميتها التعليمية المسيحية وبالمعرفة الإنجيلية والفلسفية لأساتذتها. وقد اشتهر من بين صفوف مؤسسي تلك المدرسة التعليمية عالمان سكندريان يرجع إليهما الفضل في إرساء القواعد الأساسية للعقيدة المسيحية وهما كليمنت السكندري (160-215م) وتلميذه أوريجن (185-253م)، وقد أنتج أوريجن بشكل خاص مجموعة من المؤلفات التي تركت أثرها على تاريخ الفكر المسيحي كان أشهرها هو عمله الكبير في اللاهوت التأملي المنهجي المعنون باسم (في المبادئ الأساسية). وهكذا ساهمت مصر في التراث المسيحي منذ البداية، كما أصبحت بعد ذلك مركزًا لأكبر الحركات اللاهوتية تاثيرًا في تاريخ الكنيسة المسيحية مثل الدعوة الآريوسية التي تُنسب إلى آريوس أحد رجال الدين في الإسكندرية والذي كان قد صاغ أراءً مستقلة اختلفت عن العقائد السائدة في المسيحية آنذاك ودخل في صراع عنيف مع الأسقف إسكندر أسقف كنيسة الإسكندرية في ذلك الوقت. وقد تعلقت آراء آريوس الجديدة بالعلاقة بين الأب والإبن في الثالوث العقيدي الموحد في العقيدة المسيحية إذ كان يرى أن الابن لا يمكن أن يكون مساويًا للأب لأن الأب قديم ودائم بينما الابن جديد وذو بداية أي أنه مخلوق وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون الابن إلهًا مثل الأب. وقد صدمت هذه الآراء كثيرًا من رجال الكنيسة في الإسكندرية الذين كانوا يؤمنون بأن الابن مثل الأب قديم ودائم وأنهما من طبيعة واحدة.

بطبيعة الحال انقسم المصريون إزاء الديانة المسيحية لطائفتين، طائفة المسيحيين وطائفة اتباع الدين المصري التقليدي الذين استمروا على دينهم، ومع مرور الوقت زادت أعداد المسيحيين وقلت أعداد المصريين من اتباع الدين المصري التقليدي، وكان ذلك في أغلب الحالات بسبب الاقتناع بالدين الجديد، وفي بعض الأحيان بسبب ضغوط من الأقباط الذين اعتنقوا المسيحبة. واستمرت المسيحية تنتشر في مصر وتوغلت حتى أقصى الصعيد الذي كان دائمًا بؤرة القومية المصرية، وهو ما تبينه برديات نجع حمادي التي اُكتشفت عام 1930م، حيث أوضحت أن المسيحية في العصر الذي كتبت فيه البرديات كانت متوغلة في مصر. ومع حلول القرن الثاني الميلادي أصبح هناك خليط من الديانات في مصر، تمثل في الديانة المصرية، والديانة اليونانية، والديانة الرومانية الرسمية، والديانة الموسوية، والديانة المسيحية الجديدة. ومع آواخر القرن الثاني الميلادي أصبحت مراكز عبادات الديانة المصرية القديمة جزر وسط بحر مسيحي. وفي هذه الفتره ظهر إنجيل للمصريين وتأسست كنيسة في الإسكندرية برئاسة الأسقف المصري ديمتريوس (189 – 231م)، وبعدها بقليل تأسست في الإسكندرية مدرسة اللاهوت (الديدسقلية) في مواجهة جامعة البطالمة والمدارس الموسوية التي عاشت بفضل الفيلسوف فيلون السكندري، وأشرف على مدرسة اللاهوت الديسدسقلية مصريون تشربوا من منابع الثقافة الهيلنستية مثل بنطائيوس الذي تحول للمسيحية واكليماندس الذي درس الشعر والفلسفة الهيلينية. وفي سنة 202م في عهد الامبراطور سبتيميوس ساويرس بدأت أول موجات الاضطهاد ضد أقباط مصر، فأُقفلت مدرسة اللاهوت لفترة وعندما أُعيد فتحها أشرف عليها مفكرون مسيحيون كبار مثل اوريجانوس الحكيم تلميذ اكليماندس واستمرت مدرسة اللاهوت مفتوحة حتى أوائل القرن الرابع عندما بدأ عهد الاضطهادات الكبرى المعروف بعصر الشهداء الذي استشهد فيه بطريرك الأقباط بطرس الاول (300-311م) الذي عرف باسم “خاتم الشهداء”. ومنذ بداية القرن الثالث انتشرت المسيحية في مصر بشكل واسع خاصة في الصعيد الأعلى والصعيد الأوسط (الفيوم والبهنسا)، وفُتحت كنائس على رأسها مطارنة يأخدون أوامرهم من رئيسهم في الإسكندرية، و كلما زاد اضطهاد الرومان كلما زاد التفاف المصريين حول دينهم الجديد، واستمرت مقاومة الأقباط بعد اضطهادات ساويرس في بداية القرن الثالث الذي نُكل فيها بالأقباط تنكيلًا رهيبًا، واضطهادات كاركلا في عام 211م الذي اصدر قوانين بصلب الأقباط المعارضين ورميهم للوحش المفترسة وذبح أعداد كبيرة من أقباط الإسكندرية، واضطهادات مكسيمينوس عام 235م التي عُذب فيها أعداد هائلة من الأقباط حتى الموت واضطر في عهده البطريرك ياروكلاس إلى الهروب من الإسكندرية، واضطهادات دكيوس التي بدأت بمرسوم عام 250م وعُذب واُستشهد فيها الآلاف وانتشر الحزن والفزع في نواحي مصر، واضطهادات ديوقليسيانوس عام 303م وفاليريوس ودازا والكثير غيرها، حيث استشهد أعداد كبيرة من الأقباط، و سُجن عُذب  آخرون واُستعبدوا في معتقلات المحاجر في سيناء والبحر الاحمر، واستمر الوضع على هذا الحال، الرومان يضطهدون الأقباط والأقباط متمسكون بالمسيحية. وفي التاريخ القبطي عُرفت فترة اضطهاد الامبراطور ديوقليسيانوس للأقباط باسم “عصر الشهداء” وتاريخ جلوسه على عرش روما في 29 أغسطس 284م أصبح بداية للتقويم القبطي الذي اُستخدمت فيه الشهور التي كان يستخدمها المصريون في عصر الأسرات الفرعونية، وهي الشهور التي يستخدمها الفلاحون المصريون حتى اليوم لحساب المواسم الزراعية. وقد دام عصر الشهداء عشر سنوات متواصلة من الترويع والتنكيل والقتل راحت ضحيته أعداد ضخمة من الأقباط يقدره البعض بحوالي 840.000، ويقال إن عدد الأقباط في نهاية هذا العصر هبط من عشرين مليون لعشرة مليون. وبغض النظر عن دقة هذه الأرقام فهي على أي حال توضح حجم الاضطهاد والمعاناه التي عاش فيها الأقباط. وبذلك نجد أن الأمر لم يكن مجرد تمسك بدين جديد لكنه أيضًا كان تمسك بالقومية المصرية في مواجهة المحتلين، واستمر هذا الوضع حتى عام 313م عندما أصدر الإمبراطور قسطنطين الأول مرسوم ميلانو الذي سمح بحرية العبادات في نواحي الإمبراطورية الرومانية.

في بدايات العصر القبطي طور الأقباط وسيلة أخرى لمقاومة المحتلين الرومان، وهي “المقاومة السلبية” التي ظهرت على شكل النسك والرهبنة، وقد عرفت الديانة المصرية القديمة الاعتكاف والنسك في الصحراء المتاخمة للوادي، وظهورها في مصر في القرن الثالث الميلادي لم تكن بالشيء الجديد. ويُقال إن أول دير قبطي في مصر تأسس على أيدي فرونتينوس عام 151م في وادي النطرون، ولكن المؤكد أن الرهبنة تأسست في القرن الثالث عندما خرج الأنبا بولا من الصعيد إلى الصحراء واعتكف هناك للتعبد والصلاة. بعد الأنبا بولا ظهر في الصعيد أيضًا القديس المعتكف المشهور أنطونيوس، والأنبا باخوم مؤسس الرهبنة الجماعية (رهبنة الشركه الكينوبيتية)، كما كان الأنبا شنودة أشهر من عادوا الديانة المصرية القديمة وارتبط اسمه بهدم الآثار المصرية القديمة. والتف آلاف الاقباط حول حركة الرهبنة ولم يكونوا جميعًا قديسين أو صالحين متدينين، فكان من بينهم مواطنون من عامة الشعب هربوا من أحكام القوانين الظالمة التي كان يمارسها الرومان على المصريين في المحاكم الخاصة (المختلطة) وغيرها مثل جُماع الضرائب والوالي الروماني وأعوانه. وقد لجأ هؤلاء الأقباط للرهبنة في صحارى مصر كوسيلة للاحتجاج والمقاومة السلبية للمحتلين الرومان. وفي هذه الفترة تأسس الدير الأبيض بجوار سوهاج، وتجمع الرهبان الأقباط جنوب وادي النطرون عند دير السريان ودير الأنبا بشوي حاليًا، وفي شماله في صحرة شهات. وقد قامت في مصر ثلاثة أنواع من الرهبنة، رهبنة النساك الذين يعيشون في الاديرة، ورهبنة الزهاد الذين يختلون بأنفسهم في الصوامع الصحراوية والجبلية، ورهبنة المتبتلين الذين يعيشون إثنين أو ثلاثة مع بعض في المدن ويمتنعون عن الزواج. واشتهر موضوع أديرة مصر في العالم المسيحي وأصبح الأجانب يأتون إلى مصر لمشاهدة الأديرة، وكان من ضمنهم روفينوس والقديس أرسانيوس والأنبا باسليوس الذي أنشأ الرهبنة في اليونان ومن النساء من نبلاء الدولة الرومانية الشرقية والغربية باولا وملانيا التي أتت إلى مصر مع القديس جيروم (هيرونيموس). ومن مصر انتشرت فكرة الرهبنة والأديرة، فكانت الرهبنة من إبداع المصريين وتجاوزت آثارها حدود مصر للعالم الخارجي، كما أصبح الرهبان أثناء العصر البيزنطي بمثابة الجيش الروحي وحتى الفعلي لبطريرك الكرازة المرقسية في الإسكندرية، فكلما ذهب البطريرك إلى المجامع التي كانت عادة تنعقد في آسيا الصغرى بأمر امبراطور بيزنطة لمناقشة أركان العقيدة المسيحية ومشاكلها، كان البابا القبطي يأخد معه الرهبان وجماعة اسمها البارابولاني (صبوات) لكي يظهروا تأييدهم له في خارج مصر ويهتفوا له في حالة تشبه المظاهرات كمؤيدين لزعيم الوطنية المصرية، ولم يكن البابا في هذا الزمن مجرد رئيس ديني لطائفة دينية ولكن كان رمزًا لمصر وللقومية المصرية.

بعد أن استقرت المسيحية في مصر، حلت الكنيسة محل الديانة الرسمية القديمة في تمثيلها للقومية المصرية، تمامًا كما كانت مصر في وقت ضعفها في العصور الفرعونية تلتف حول كبير كهنة “آمون – رع ” في طيبة، كل القوى الوطنية في العصر القبطي التفت حول رئيس الكنيسة المصرية “بابا وبطريرك مدينة الإسكندرية، وبلاد لوبيا، والمدن الغربية الخمسة، وإثيوبيا، وكل أرض مصر، أبو الأباء، أسقف الأساقفة، الحواري الثالث عشر، قاضي العالم”. وكان قد أصبح الرهبان الأقباط القوة المصرية الوحيدة في مصر التي يمكن أن توازي قوة بطريرك الإسكندرية، وكانوا يمثلون زعماء الشعب بدرجة أكثر بكثير من الأساقفة. كما استخدم البابا كيرلس السكندري الرهبان والصبوات ضد يهود الإسكندرية المقربين من الموظفين الرومان وقاموا بطردهم في غضون يوم واحد من أحيائهم الكبيرة في الإسكندرية لضواحي المدينة، كما ضاعت أغلب آثار مصر بسبب تدمير الآثار على أيدي الملك ثيودسيوس والمسيحيين المتطرفين، فضاع من مصر جزء كبير من تراثها. فقد كان تدمير معبد باخوس في الإسكندرية على أيدي المسيحيين المتطرفين عام 389م. وفي عام 411م دمر المسيحيون معبد سيرابيس الضخم في الإسكندرية كما تم في تلك الأثناء تدمير جزء من مكتبة الإسكندرية التي بناها البطالمة وأسسوها في الإسكندرية وظلت منارة للعلم والثقافة في منطقة حوض البحر المتوسط، وكذا المتحف الملحق بالمكتبة. ومن جانبهم دافع المصريون أتباع الدين القديم عن أنفسهم بقيادة الفيلسوف أولمبيوس وقامت معارك بينهم انتهت بطبيعة الحال بقهر الأقلية من أتباع الدين القديم. وبعد تخريب مكتبة الإسكندرية بعام هاجم الرهبان المسيحيون الفيلسوفة “هباتيا” آخر الافلاطونيين الجدد في مدرسة الإسكندرية، وسحلوها لحي القيسارية الذي حولوه لكنيسة ورجموها وقتلوها بطريقة وحشية، وكانت نهاية هباتيا بمثابة قتل لآخر وميض يشع بروح الثقافة الهيلينيه في مصر. كما كان الأنبا شنودة من بانوبولس (أخميم حاليًا) من أشهر الرهبان الذين عادوا الديانة المصرية القديمة وارتبط اسمائهم بتدمير آثار مصر القديمة، فبعد عهد الإمبراطور قسطنطين ارتد الأمبراطور جوليان (332-363م) عن المسيحية، وكان هذا سببًا في أن فترة حكمه القصيرة رجعت اعمال العنف لمصر مرة أخرى، حيث واصل رهبان مريوط ووادي النطرون شن هجمات على اتباع الدين القديم في الإسكندرية وترويعهم، وهجمت كتائب الأنبا شنودة على الآثار المصرية في طيبة (الأقصر) ودمرت منها الكثير وحولت المعابد المصرية لكنائس. ويرجع العنف الذي انتشر في تلك الفترة على عكس ما كان عليه الحال أيام اكليمندس وأريجانوس وغيرهم من المتفقهين في الفلسفة الهيلينية، أن القومية المصرية أصبحت أكثر اندفاعًا ضد كل شيء دخيل على مصر وكل ما يمثل هذا الدخيل على أرض مصر فلسفة او غيرها. ويقول كريستوفر داوسون في كتابه “أصول أوروبا”، إن الرهبنة المصرية نتاج أصيل للمسيحية المصرية، وإنها جمعت ما بين حكمة الأنبا مقار والأنبا باخوم وروحانياتهم، وتعصب الرهبان والصبوات الذين قتلوا هيباتيا وأحدثوا اضطرابات دموية في شوارع الإسكندرية. وفي عام 451م التأم المجمع الخلقيدوني الشهير، وعلى إثره انشطرت كنيسة الله الواحدة الوحيدة إلى قسمين أحدهما غربي والآخر شرقي، القسم الأول يضم كنيستي القسطنطينية وروما وهما يقران بقرارات المجمع السابق الذكر. ولكون الملك في هذا القسم عُرفت الكنيسة فيه باسم الكنيسة الملكانية “نسبة للملك”، وأما القسم الشرقي فرفض الاعتراف بقرارات هذا المجمع وبالتالي اضطهده الملك. وكان يضم كنيستي الإسكندرية وأنطاكية ثم تضامن معهما الأرمن والأحباش وكنيسة مار توما في الهند، ومن هذا التاريخ توثقت العلاقات أكثر فأكثر بين هذه الكنائس، ولاسيما الإسكندرية وأنطاكية اللتين تعرضتا لنفس الآلام والمضايقات من أباطرة القسطنطينية المؤيدين لمجمع خلقيدونية. فظهر في هذه الفترة قديس عظيم ومجاهد رسولي كبير هو القديس مار يعقوب البرادعي (500-578م) الذي اشترك في رسامته البابا ثيؤدسيوس السكندري الثالث والثلاثون في القسطنطينية عام 543م مع البطريرك الأنطاكي، الذي من شدة تمسكه بالإيمان المستقيم وكثرة جهاده ونشاطه الواسع أطلق الخلقيدونيون اسمه على شعبي الكنيستين السريانية والقبطية وصاروا يعرفون لفترة طويلة باسم “اليعاقبة” نسبة لهذا القديس العظيم.

كانت القومية المصرية دائمًا عبر تاريخ مصر هي الكلمة السحرية للمصريين، وقد لاحظ هيرودوت تمسك المصريين بتقاليدهم وعاداتهم والمحافظة عليها عبر التاريخ. وكلمة “قبطي” معناها مصري، ولم تكن في البداية لها دلالة دينية، وهي في الأرجح لفظ مشتق من الكلمة اليونانية “ايجيبتوس” وكان اليونانيون يشيرون بها لمصر والنيل معًا. وإثنيًا الأقباط أو المصريون القدماء لم يكونوا ساميين ولا حاميين لكن عنصر ميديترينيانى (بحر متوسطي) دخلوا منطقة وادي النيل في العصور القديمة واستقروا فيها، وبنوا الحضارة المصرية الفريدة من نوعها والتي لاحظ “هيرودوت” أنها تختلف بالكامل عن أي حضارة أخرى وأن عاداتها وتقاليدها مخالفة لعادات وتقاليد أي دولة أخرى، ويقول هيرودوت “ليس فقط أن الجو المصري ليس له مثيل في أي دولة آخر، ولا سلوك النيل يختلف عن سلوك الأنهار في الأماكن الأخرى، ولكن المصريين أنفسهم يتصرفون في عاداتهم وتقاليدهم بطريقة معاكسة لبقية البشر”. واللغة القبطية هي الطور الرابع من مراحل تطور اللغة المصرية القديمة، بعد الهيروغليفية، والهيراطيقية، والديموطيقية (وهي صيغة عامية بحروف أبسط من سابقاتها)، وقد أخذ التحول إلى اللغة القبطية وقتًا طويلًا وتم بطريقة متدرجة. ورغم أنه يصعب تحديد بداية استعمالها بدقة، إلا أن الأكيد أنها سبقت ظهور المسيحية، وذلك عندما تم استخدام الحروف اليونانية في كتابة اللغة المصرية العامية المنطوقة، وأول نص قبطي معروف كُتب قبل ميلاد المسيح بقرن ونصف تقريبًا. وقد حتم انتشار المسيحية خارج المدن الكبرى التي كانت تستخدم غالبًا اللغة اليونانية، أن يتم خلق لغة تناسب غالبية المصريين المتحدثين باللغة الديموطيقية التي استخدمت غالبًا في التحدث فقط، لذا حتم هذا الوضع التوسع في استخدام الحروف اليونانية في كتابة النصوص المصرية القديمة المستخدمة منذ آلاف السنيين. ومن المرجح أنه مع نهاية القرن الثاني وبدايات القرن الثالث كانت جيمع الأناجيل في مصر مكتوبة باللغة القبطية، وتميزت اللغة القبطية أنها كُتبت بلهجات اللغة المصرية القديمة، مثل اللهجة البحيرية، والصعيدية، والفيومية، والأخمينية، والبشمورية… وغيرها، ومازالت اللغة القبطية تستخدم حتى اليوم في طقوس الكنيسة القبطية المصرية، واستمر المصريون في استخدام اللغة القبطية لعدة قرون بعد دخول العرب مصر. ومازالت كلمات قبطية كثيرة تستخدم حتى اليوم ومازال الفلاح المصري يستعمل التقويم القبطي في تنظيم زراعة أرضه. كما يظهر بوضوح تأثير التراث المصري القديم في الفن والأدب القبطي. ورغم أن كلمة قبطي في الأصل معناها مصري، إلا أنه أصبح لها مفهوم ديني بعد أن أصبحت ألفاظ “قبط” و “أقباط” يُشار بهما للمسيحيين المصريين، وبذلك ارتبط تاريخ مصر القبطي بالتاريخ الديني للمسيحية في مصر، مع أن تاريخ الأقباط هو تاريخ حضاري في المقام الاول وليس تاريخ ديني، وإن كان الدين بطبيعة الحال عنصر مهم من عناصر الثقافة وبالذات في ثقافة المصريين الذين وصفهم هيرودوت بأنهم “متدينون لأقصى الحدود”. ولكن من سوء حظ المرحلة التاريخية القبطية أنها وجدت في فترة احتلال أجنبى لمصر، ورغم أن الاحتلال الأجنبى كان له أثر سلبي على التطور الحضاري في مصر إلا أن الثقافة القبطية استطاعت أن تستمر وتتعايش معه بدرجة كبيرة من الاستقلالية رغم الضغوط الهائلة التي مُورست عليها، حيث التف المصريون في عصور الدولة البطلمية والرومانية قبل دخول المسيحية مصر حول معابدهم وكهنتهم وظلت المعابد المصرية في الصعيد والدلتا بعيد عن الإسكندرية فكانت ملجأهم للمحافظة على هويتهم القومية وكانت القومية دائمًا عبر كل تاريخ مصر هي الكلمة السحرية للمصريين، وعلى عكس قوميات كثيرة ذابت واختفت بفعل الزمن أو بسبب الاحتلال الأجنبي، نجد أن القومية المصرية عاشت في مصر آلاف السنين رغم طول الزمن ورغم كل الاحتلالات الأجنبية. وقد لاحظ هيرودوت ذلك فيقول “المصريون دائمًا يتمسكون بتقاليدهم المحلية ولم يتبنوا أى تقاليد من الخارج”.

كان تحول المصريين عن دياناتهم القديمة إلى المسيحية شكلًا من أشكال المقاومة ضد الظلم الاجتماعي، ومظهرًا من مظاهر المقاومة الوطنية ضد الحكم الأجنبي. فقد كان المصري في أسفل السلم الاجتماعي يعلوه اليهودي، والإغريقي يعلو اليهودي، والروماني يعلو الجميع، وكانوا جميعًا ينظرون إلى المصري باحتقار، فجاءت الكنيسة المصرية لتقدم بأساقفتها ورهبانها القيادة الوطنية المفتقدة، ولتقدم إطارًا مذهبيًا للصراع ضد الرومان كمحتلين وكمستغلين. وقد برز نضال الكنيسة المصرية في الانتفاضات الشعبية والفلاحية التي قادها الرهبان، والتي اتسع مدى إحداها حتى تحولت إلى ما يشبه الثورة الشاملة. ورغم كل ما أنجزته هذه الثورات في مجال تأكيد الشخصية الوطنية المصرية، فإنها لم تتجه اتجاهًا جديًا لطرد المحتلين، واكتفت بأن أصبحت الكنيسة المصرية وكل ملحقاتها إطارًا قوميًا للمصريين، يحفظ لهم شخصيتهم القومية المتميزة والمستقلة عن الحكام الأجانب ويحصنهم ضد نفوذ وتأثير حضارتهم الأجنبية. فقد شهد عصر الحكم البيزنطي ثورات وانتفاضات كثيرة قام بها عامة الشعب، كان منها “ثورة الإخوان الثلاث” التي قامت في بدايات حكم الإمبراطور موريس سنة 582م، الإخوان الثلاث هم يعقوب ومينا وأبو سخريون من قرية أيكيلة (زاوية صقر في مركز أبوحمص في البحيرة حاليًا). بدأت الثورة عندما احتج الإخوان الثلاث على اعتقال السلطات البيزنطية لإثنين من كبار الأقباط وسرعان ما تحول الاحتجاج لثورة كبيرة عمت غالبية أقاليم الوجه البحري وحاول الثوار اقتحام مدينة الإسكندرية وتمكنوا من منع دخول القمح إليها، واستطاع اسحق ابن الاخ الأكبر أن يستولي على مراكب الغلال التي كانت تنقل غلة مصر المنهوبة للقسطنطينية. وانتهت الثورة بتهديد من حاكم الإسكندرية بإعدام الأقباط الإثنين المعتقلين وغيرهم، وهرب الإخوان الثلاث على صان لكن تم القبض عليهم وسُجنوا وأُعدموا. ومن الثورات الأخرى كانت ثورات خربتا وبسطة وسنهور وإخميم والكثير غيرها، وانتهت كلها بمذابح وحشية قام بها المستعمر البيزنطي وجنوده المدججين بالسلاح في مواجهة شعب أعزل اُنتزع منه جيشه وسلاحه لكنه استمر قرابة سبعة قرون يدافع عن هويته وقوميته ورفض أن تدوب مصر في ثقافة المحتلين أو تخرج من التاريخ.

وسط خضم مد وجذر الثورات والاضطهادات الكثيرة والمتنوعة، لم ينقطع عطاء المصريين الحضاري والفني رغم الاحتلال والمحن، وظل حاضرًا ومتواصلًا ومستمرًا، كما كانت مصر معطاءة على مر التاريخ، فظل فلاح مصر يزرع أرضه ويرويها من النيل كما فعل أجداده، والصانع المصرى يصنع ويطور كما فعل المصري القديم، القبطي أو المصري هو من كان يبني المباني ويحفر القنوات ويروي الأرض ويحرثها ويجني ثمارها وغلتها، وكان هو الفنان الذي ينحت ويرسم ويكتب. وظهر في العصر القبطي فن بأسلوب جديد عرف باسم “الفن القبطي”، وهو فن مصري أصيل لكن بتأثيرات جديدة من وحي المسيحية والاتصال بالعالم البيزنطي. وأدخلت المسيحية مواضيع فنية جديدة في فن النحت وأظهرت براعة الفنان القبطي ابن حضارة مصر العريقة في الحفر على الخشب وصناعة النسيج وتلوينه، ورسم الفنانون الأقباط رسومات بديعة على القماش والجص والخشب وبرعوا في تذهيب هوامش المخطوطات والكتب. كما كان فن الأيقونات من الفنون التي أبدع فيها الفنانون الأقباط، حيث رسم الفنان القبطي على الأيقونات رسومات جميلة من وحي المواضيع الدينية ومن وحي البيئة المصرية. وكذا كان فن النسيج المرسوم من الأشياء التي برع فيها الأقباط وكان له أثر كبير على الفن الأوروبي الحديث وتأثر به فنانون أوروبيون كبار منهم “بيكاسو” و “ماتيز” و “ديرين”، وتحتفظ كل متاحف العالم الكبيره بنماذج جميلة من فن النسيج القبطي. ويعتقد الكثير من الباحثين أن الموسيقى المصرية القديمة لعبت دورًا في تطوير الموسيقى الأوروبية وأنها إضافة إلى الترانيم المصرية القديمة انتقلت عن طريق المبشرين الأقباط لأوروبا. كما يعتقد الكثيرون أن طراز الباسيليكا في البناء أصلها مصري قديم وانتقلت لأوروبا عن طريق الأقباط. فبعد دخول المسيحية مصر قام المصريون الذين اعتنقوا المسيحية ببناء كنائس في المعابد المصرية، أعقبها بناء كنائس منفردة بُنيت على نفس الطراز الذي تطور وانتقل لأوروبا وبُنيت كاتدرائيات كثيرة على طرازه. وفن النحت في الأساس فن مصرى قديم ازدهر وعاش في مصر عبر تاريخها القديم على امتداد العصور الفرعونية والعصر البطلمي والعصر القبطي. وكان النحت من أكبر رموز الثقافة المصرية تعبيرًا عن القومية المصرية وتجسيدًا لها، كما كان امتدادًا لأمجاد مصر الفنية في العصور القديمة واستمر حتى دخول الثقافة العربية مصر من سنة 640، ثم بدأ في الانحدار ووصل لدرجة العدم حتى العصر الحديث، عندما ظهر النحات العظيم محمود مختار ونحاتون مصريون غيره حاولوا استرجاع مجد مصر في فن النحت من وحي تراثها الفرعوني والقبطي القديم.

كان انتشار المسيحية عن طريق اللغة القبطية التي استخدمت الحروف اليونانية، سببًا في فقدان المصريين القدرة على القراءة  باللغة الديموطقية، فأندثرت اللغة الديموقطية التي أثرت سلبًا على معرفة تاريخ القدماء المصريين الذي تحول إلى طلسم من الطلاسم، وبذلك حدث الانقطاع التاريخي الكبير الأول للحضارة المصرية القديمة بعد تواصل دام آلاف السنين، حتى استطاع العالم الفرنسي شامبليون فك شفرة الحروف المصرية القديمة.. ومن جهة ثانية خلقت المسيحية حالة من العداوة للثقافة المصرية القديمة التي اعتبرتها وثنية. إن دخول المسيحية مصر أحدث نوعاً من الانفصام ما بين مصر المسيحية ومصر القديمة، في هذا الوقت أصبح تاريخ مصر يبدأ عند الأقباط  منذ عهد مار مرقس، وبذلك ضاع تاريخ مصر الفرعوني لفترة طويلة وحل محله تاريخ مصر الخرافي. وتكررت هذه الحالة في تاريخ مصر بعد دخول الإسلام، فأصبح  تاريخ مصر يبدأ عند المصريين المسلمين من سنة 640م والذي مثل الانقطاع الكبير الثاني في التاريخ المصري. ورغم حالة الانفصام هذه التي تسببت فيها تغيرات عقائدية، ظل التاريخ المصري تاريخ واحد وليس حلقات منفصلة عن بعضها، ونتيجة لذلك ظلت مصر منذ خمسة آلاف سنة دولة قائمة بدون انقطاع، والسبب المهم الثاني هو أن القومية المصرية لم تختفي من مصر لا بفعل الزمن ولا بفعل الاحتلال الأجنبى كما حدث في مناطق كثيرة من العالم.

زاد من أسباب كراهية أهالي مصر للسلطة الإمبراطورية البيزنطية زيادة الضرائب وفساد الإدارة وظلمها مما أدى إلى فقر داخلي. وأدت هذه العوامل مجتمعة إلى أزمة اقتصادية واجتماعية أدت إلى فساد مالي وإدارى واقتصادي وضرائبي ومنازعات دينية وإلى إثارة الفوضى والنزعات الانفصالية أحيانًا. وفي السنوات الأخيرة من الحكم البيزنطي زاد الخلاف المذهبي واشتد الخلاف بين “الأرثوذكس” أنصار المذهب “الخلقدونى” وبين المونوفيزيتيين. وحاول “هرقل” بعد أن أصبح امبراطورًا أن يحتوي هذه الخلافات ولكن المصريين ضاقوا بأساقفته “الملكانيين” رغم محاولته الوصول إلى سبيل التفاهم مع الأقباط المصريين. وفي السنة الخامسة من حكم هرقل زحف “الفرس” على الإمبراطورية البيزنطية واستولوا على أرمينيا ثم على دمشق والقدس وتمكنوا من إسقاط الإسكندرية سنة 618م واحتل الفرس مصر لمدة عشر سنوات وسط سخط المصريين وعادت مصر إلى الإمبرراطورية البيزنطية بعد انتصار “هرقل” على الفرس في معركة “نينوى” في عام 627م ووقع معهم معاهدة للصلح بمقتضاها تم جلاء الفرس عن مصر. واتخذ المصريون موقفًا سلبيًا إزاء عودة البيزنطيين لحكم بلادهم وزاد الاضطهاد وزادت كراهية المصريين للحكم البيزنطي. وهنا تظهر على مسرح الأحداث العالمية دولة جديدة في الشرق وهي الدولة العربية التي حملت دينًا جديدًا هو الإسلام، وبعد أن بسطت هذه الدولة سيادتها على الجزيرة العربية بدأت تتطلع إلى خارج الجزيرة فوجدت امبراطوريتين طحنتهما الحروب هما إمبراطورية فارس (الفرس) وامبراطورية الروم (الرومانية أو البيزنطية)، واستطاع الجيش العربي الغازي الذي كان عدده الاصلي قبل دعمه بجيوش أخرى حوالي أربعة آلاف محارب أن يهزم البيزنطيين ويخرجهم من مصر سنة 642م. وبطبيعة الحال فإن الاقباط الذين امتلأت نفوسهم مرارة وكراهية لكل ما هو بيزنطي فرحوا وأحسو بالراحه وهم يشاهدون الجلاد البيزنطي يترنح ويسقط مدحورًا على الأرض. وبالاستناد على المصادر المعاصرة كان موقف الأقباط من المعارك التي دارت بين العرب والبيزنطيين أقرب للحياد، وذكرت بعض المصار أن هناك أقباط انضموا للمسلمين وحشدوا جيش من أهل البرلس والميرة وغيرها وساعدوا المسلمين في الاستيلاء على مدينة تنيس في بحيرة المنزلة. علاوة عن أن موقف العرب كان واضحًا من “أهل الكتاب” ومنحوا الاقباط “العهد العمري” الذي كفل للأقباط حريتهم الدينية بشكل لم ينعموا به من قبل تحت الحكم البيزنطي. وعندما حاول البيزنطيون الرجوع إلى مصر، والنزول في الإسكندرية لكي يحتلوها من مرة أخرى ساعدهم البيزنطيون المقيمين في المدينة لكن الأقباط تصدوا لهم وحاربوهم حتى فشلوا في الاستيلاء عليها. فتمكنت الدولة العربية الوليدة من الإطاحة بالبيزنطيين، وكان دخول مصر في الدولة العربية على يد عمرو بن العاص سنة 640م.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك