الجمعة - الموافق 29 مارس 2024م

(1) الأمة المصرية والوهابية “الجذور الفكرية 1-2”: بقلم الكاتب والباحث: محمد السني

          أوضحنا سابقًا في كتابنا الأول عن الأمة المصرية بعنوان “الأمة المصرية – قومية متفردة” كيف حافظت مصر طيلة العصور القديمة حتى نهاية عصر الدولة البطلمية، على استقلاليتها الكاملة، وريادتها العالمية، وهُويتها المتميزة، وقوميتها

المتفردة، وقدرتها على مواكبة العصور المتلاحقة بإبداعات حضارية وعلمية وأدبية وضعتها في مقدمة الأمم تقدمًا وتحضرًا وازدهارًا متواصلًا ومتجددًا، وذلك رغم بعض العثرات الصغيرة  والهامشية خلال تلك المسيرة، ممثلة في فترات الانتقال الثلاثة (فترات الاضمحلال) بين العصور الفرعونية، أو خلال فترات تغلغل بعض الاحتلالات القصيرة مثل الاحتلال الآشوري، والاحتلال الفارسي الأول والثاني لعدة سنوات صغير لم يكن لها تأثير يذكر في استقلالية وهُوية الأمة المصرية. كما أدت التطورات التاريخية الكبرى آنذاك ممثلة في الهجرات الآسيوية والليبية الكبيرة التي اعتبرناها تنوعًا وثراءً حضاريًا مصريًا وليس غزوًا ولا احتلالًا، لعدم خضوع مصر إبان اشتداد نفوذهما لأي قوى استعمارية خارج مصر، وكذلك لعدم استنزاف موارد مصر المتنوعة ونهبها لقوى من خارجها، ولتمسك تلك العناصر بكل مكونات الهُوية المصرية شكلًا وموضوعًا، وقد ابتلعتهما مصر ومصرتهما بشكل تام. ورغم أن الإسكندر الأكبر جاء مصر غازيًا، إلا أن مصر استقلت عن الإمبراطورية المقدونية بمجرد وفاة الإسكندر وأصبحت مملكة مستقلة تمامًا تحت حكم البطالمة ورثة الإسكندر، كما كان لدمج الحضارة المصرية العريقة بالحضارة اليونانية الناشئة عشية غزو الإسكندر لمصر دورًا هامًا في تجدد الحضارة المصرية في ثوب حضاري فريد وهو ما أُطلق عليها الحضارة الهيلنستية، التي كانت الإسكندرية عاصمة مصر آنذاك منارتها ومصدر إشعاعها على العالم القديم. ثم كان الاحتلال الحقيقي الأول لمصر على يد الرومان، ورغم تعرض الأمة المصرية لأول انتكاسة حضارية على يد الاحتلال الروماني إلا أن مصر ظلت حضاريًا ضمن العالم الروماني، ولم تخرج من التاريخ، بل كانت من أهم ولايات الأمبراطورية الرومانية وذات وضع خاص إداريًا وتنظيميًا بسبب ثرائها وتعدد وتنوع ثرواتها وموقعها المتوسط والفريد داخل العالم القديم، علاوة على تقدير الرومان للحضارة المصرية العريقة وحرصهم على عدم التصادم مع مكونات الثقافة المصرية، والذي يرجع في جانب منه لطبيعة الإمبراطورية الرومانية التي استوعبت العديد من المجتمعات ذوي الحضارات والهُويات والثقافات والأديان المتنوعة، ولكن فقدت مصر إبان الاحتلال الروماني جانب هام من مقومات الهُوية المصرية ممثلًا في اللغة الهيراطيقية المصرية، لصالح اللغة القبطية التي استخدمت الخط اليوناني في كتابة اللهجة المصرية لتلائم ضرورات نشر الديانة المسيحية الجديدة آنذاك، ففقدت مصر بذلك صلتها بتاريخها الفرعوني القديم، وأصبحت الآثار والعلوم والآداب المصرية القديمة طلسمًا من الطلاسم، وإن بقيت اللهجات المصرية كما هي في التحدث، ولكن بغزو العرب مصر كما أوضحنا سابقًا تم القضاء تمامًا على اللهجات المصرية لتحدث القطيعة الكاملة للمصريين بلغتهم الوطنية كتابةً وتحدثًا، لتدخل مصر مرحلة الانفصام التام عن تاريخها وحضارتها العظيمة حتى استطاع (شامبليون) أحد العلماء المرافقين للحملة الفرنسية على مصر، فك رموز اللغة المصرية الهيروغليفية القديمة. ورغم ذلك ظلت عناصر القومية والهُوية المصرية المادية والحضارية والوجدانية متماسكة وتتحين الفرصة لتشع من جديد. وتحقق ذلك في عصر الدول المستقلة المتعاقبة إبان العصور المصرية الوسطى، وهو العصر الذي شهد ولادة الدولة الطولونية والدولة الإخشيدية والدولة الفاطمية والدولة الأيوبية والدولة المملوكية، حيث نهضت مصر خلال تلك العصور واستعادت قوتها ونمائها وتقدمها وريادتها وازدهارها، وأشعت حضارتها وهُويتها وقوميتها المتفردة، في الوقت الذي كان الغرب يرزح تحت ويلات وظلامات مستنقعات العصور الوسطى الغربية، ورغم أن أغلب مؤسسي تلك الدول لم يكونوا من أصول مصرية إلا أنهم تفانوا في خدمة مصر ورفعة شأنها وحماية أمنها واستقالها، وتحقيق استقلاليتها التامة اقتصاديًا وحضاريًا، ولم يكن لهم وطنًا آخر غير مصر، حتى أن مصر أصبحت شبه إمبراطورية في عصورهم. ولكن بنهاية عصر الدولة المملوكية المستقلة، حدثت حالة من الاضمحلال للقوة المصرية، ورغم أنه لم يكن الاضمحلال الأول إلا أن القدر لم يمهل مصر الوقت الكافي للتعافي والنهوض مجددًا كما حدث من قبل كثيرًا. إذ انقضت قوة استعمارية جديدة وظلامية على الأمة المصرية، ممثلة في الاحتلال العثماني البغيض، لتفقد مصر استقلالها، وتخضع لقوة استعمارية، تعزل مصر كباقي مستعمراتها عن أهم وأخطر وأكبر تغيرات في تاريخ البشرية، وهي التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحضارية التي واكبت نشأة وتطور الرأسمالية الغربية، وأدت إلى خروج الغرب من مستنقعات العصور الوسطى ودخول العصر الحديث، وولادة الدولة الوطنية الحديثة، من خلال انجاز الثورة الصناعية وعصري النهضة والتنوير الغربيين، وحدث ذلك بالتحديد ابتداءً من القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر. بينما بقيت الإمبراطورية العثمانية غارقة في مستقعات العصور الوسطى بكل ظلاميتها واستبدادها وطغيانها واستنزافها لموارد وخيرات مستعمراتها ومنها مصر. لتحدث للمرة الأولى في تاريخ مصر الفجوة الحضارية الهائلة بينها وبين القوى الحضارية الصاعدة وهي دول أوروبا الغربية، المتاخمة لحدودنا الشمالية، مما أوجد التبعية الموضوعية لمصر وغيرها من الدول القابعة تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية لهيمنة وسيطرة دول مركز الرأسمالية العالمية، وتضع مصر بذلك في طور جديد من مراحلها التاريخية، وهو طور الصراع من أجل استعادة الاستقلالية، أي مواكبة العصر وردم الفجوة الحضارية الهائلة بيننا وبين الغرب، والخروج من حالة التبعية الموضوعية إلى حالة المشاركة والندية.

فجرت الأزمة العثمانية عدة إشكالات مستجدة على الأمة المصرية كما باقي مستعمراتها، عن كيفية التعاطي مع تلك الفجوة الحضارية، وهنا تظهر قوى اجتماعية سياسية داخل مركز الإمبراطورية العثمانية تسعى للخروج من مستنقعات العصور الوسطى واللحاق بالعصر الحديث، سواء كان هذا اللحاق مادي أو حضاري وثقافي.. كما برزت قوميات متعددة تسعى للانفصال عن الإمبراطورية العثمانية وتمكنت بنسب متفاوته من تحقيق ذلك، ولم تكن مصر ضمن تلك الدول التي سعت للإنفصال عن الإمبراطورية العثمانية إلا في حالات نادرة وفريدة، وأهمها الحركة الانفصالية التي قام بها الأمير المملوكي علي بك الكبير عام 1768م حتى عام 1773م، وقد نجح علي بك الكبير في إخضاع الحجاز واليمن والشام لحكم مصر، وانتهت حركته بخيانة قائد جيشه محمد بك أبوالذهب، الذي أصبح والي مصر الجديد بعد مقتل علي بك الكبير في الصراع المسلح الذي دار بينهما، وذلك مكافأة له على خيانتة لعلي بك الكبير، ورغم قصر مدة التجربة إلا أنها قدمت لنا صورة عن طموح مصر خارج عباءة الدولة العثمانية، وذلك بانفتاح مصر على العالم الخارجي، وتغلغل المصريين في دواليب الحكم سواء في الإدارة المدنية أو الحياة العسكرية، وتوق مصر للتحضر والتقدم والتطور، وكذلك عودة روح التسامح الديني والمذهبي بسرعة فائقة وكأن الزمان لم يترك آثارًا كبيرة على هُوية الأمة المصرية المتسامحة والمتحضرة والراقية والمحبة للحياة والمازجة للحضارات والمحبة للعلوم والآداب. وكأن تجربة علي بك كانت بمثابة بشائر لما هو قادم ولكن في أوانه، وهو ما تحقق في تجربة محمد علي، وذلك بعد الصدمة الحضارية الهائلة للشعب المصري مما رآه وعايشه أثناء الحملة الفرنسية على مصر وإبان فترة تواجد الفرنسيين على الأراضي المصرية.. كما ظهرت قوى ثالثة في نطاق الإمبراطورية العثمانية الأكثر بعدًا وتأثرًا بالمراكز الحضارية الغربية، لتطرح بديل العودة إلى الماضي للهروب من مواجهة تلك التحديات العظام، أو لعدم إدراكهم واستيعابهم لجوهر مجرياتها وأحداثها، وذلك كما حدث في شبه الجزيرة العربية بظهور الحركة الوهابية الأكثر رجعية وظلامية واستبدادًا عما هو قائم في المنظومة الاستعمارية العثمانية، لتطرح بديل خاص بمجمعاتها الغارقة في أقصى درجات التخلف والبؤس والشقاء، والعيش في عصور ما قبل العصور الوسطى، مما جعل خيار الاستغراق في الماضي فكريًا وسياسيًا أمرًا واردًا لهم للتمرد على ما هو قائم، وإن تأخرت في التأثير على ساحة التحديات المصرية إلا أنها ومع النصف الثاني من القرن العشرين استقوت بإمكانات اقتصادية بترولية استثنائية هائلة تمكنت من خلالها من نشر أفكارها التكفيرية والظلامية خارج حدودها الجغرافية، بل واعاقت محاولات التقدم في العديد من الدول المجاورة وفي مقدمتهم مصر، وتشاركت مع القوى الرجعية المصرية المحلية المتعددة لإجهاض محاولات التنوير المصرية المتعاقبة، بل والوصول إلى الهيمنة الفكرية الظلامية في إحدى مراحلها، وبالتالي أصبحت من أهم وأخطر عناصر إعاقة نهضة الأمة المصرية وتقدمها وازدهارها واستلهامها لروح العصر الحديث، وأخذها بأساليب التقدم والتطور من خلال بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، والسير في ركب الحضارة الإنسانية المعاصرة، باعتبارها حضارة عالمية ملك البشرية جميعًا ولا تخض الغرب وحده. وهذا ما دفعنا إلى تخصيص دراستنا تلك لإلقاء الضوء على نشأة وتطور الحركة الوهابية الظلامية، منذ نشأتها في نجد حتى يومنا هذا.

تعتبر حرية الفكر والاعتقاد من القواعد الأساسية في القرآن الكريم، ففي قاعدة أساسية صريحة بالنسبة للحرية الدينية أو حرية الاعتقاد في الإسلام يقول الله تعالى “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” صورة البقرة – 256، وذلك لأن إسلام المكره لا قيمة له في أحكام الآخرة، وقوله تعالى “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” صورة الكهف – 29. ولفت القرآن نظر نبينا الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله “أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” صورة يونس -99، وقوله تعالى “فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظًا إن عليك إلا البلاغ” صورة الشورى – 48. ومن هنا يتضح أن حرية الفكر والاعتقاد مكفولة في النص القرآني، وإتساقًا مع ذلك أقر النبي الحرية الدينية في أول دستور للمدينة، وذلك حينما اعترف لليهود بأنهم يشكلون مع المسلمين أُمةً واحدة، وأيضًا في فتح مكة حين لم يجبر الرسول قريشًا على اعتناق الإسلام، فرغم تمكنه وانتصاره، ولكنه قال لهم “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. كما كفل الإسلام حرية المناقشات الدينية على أساس الموضوعية والمبادئ السمحة، وذلك في قوله تعالى “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الـحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن” صورة النحل – 125، وقوله تعالى “لكم دينكم ولي دين”. كما وصف القرآن أصحاب الديانات بالإيمان وعبادة الله، وعمل الخير، ويقول في ذلك “من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون.  يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأْمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الْخيرات وأولئك من الصالحين” سورة آل عمران 113. ويقول أيضًا “الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون” سورة البقرة 121. وقوله تعالى “ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله” سورة النساء 131. وقوله تعالى “الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون” سورة القصص 52. هم إذن من المؤمنين، يعبدون الله، ويسجدون لله وهم يتلون آيات الكتاب طوال الليل.  يؤمنون بالله وبالكتاب وباليوم الآخر، وهم من الصالحين. ولذلك أمر القرآن بمجادلتهم بالتي هي أحسن، وفي ذلك يقول “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون” سورة العنكبوت 46. ولم يقتصر القرآن على الأمر بحسن مجادلة أهل الكتاب، بل أكثر من هذا، وضع القرآن المسيحيين في مركز الإفتاء في الدين، فقال: “فإِن كنت في شك مما أنزلنا إِليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك” سورة يونس 94. وقال أيضًا: “وما أرسلنا قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” سورة الأنبياء 7. ووصف القرآن المسيحيين بأنهم ذو رأفة ورحمة، وقال في ذلك “وقفينا بعيسى ابن مريم، وآتيناه الإنجيل، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة” سورة الحديد 27. ورغم أن البعض يذهب إلى أن ضريبة “الجزية” كانت تمييزًا في حق أصحاب الديانات الأخرى وإمعان في إذلالهم بعد استيلاء المسلمين على أراضيهم، إلا أن المصادر التاريخية تأكد أن أفراد القبائل اليهودية والنصرانية ممن حاربوا في صفوف المسلمين قد أعفوا من أداء الجزية، مثل أهل الحيرة الذين كانوا يعتنقون النصرانية ويعيشون على حدود الدولة الإسلامية مع الروم، فعندما جمع هرقل الجيوش لحرب المسلمين الذين لم يقووا على حربه في هذه الفترة أمر الخليفة ولاته برد أموال الجزية إليهم، وبذالك تكون تلك الضريبة (الجزية) قد سقطت بمجرد تغيير الظروف التي أوجدتها.. فمن أين إذن جاء إلينا كل هذا الكم من العداء لأصحاب الديانات، وهذا السيل من التكفير للمخالفين في الرأي، أو المجددين والمجتهدين في الفقه والتفسير، بل وتكفير عامة المسلمين، واستباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم، وإغراق المجتمعات العربية والإسلامية في مستقعات التخلف والجهل والظلامية، وإشاعة الفتن والاقتتال بين المسلمين وغيرهم، وبين المسلمين أنفسهم، واعاقة كل محاولات الاستنارة والتقدم والتحضر للمجتمعات العربية والإسلامية.

إن الوقوف على ظاهرة التكفير والجماعات التكفيرية بشكل عام، والحركة الوهابية التكفيرية بشكل خاص، يدفعنا إلى البحث والنظر بجدية في معرفة جذور التكفير في التراث الإسلامي، والأسانيد الفقهية والاجتهادات الفكرية التي تستمد منها تلك الجماعات التكفيرية مشروعيتها، وعلاقة ذلك بما تفرق من نصوص ومواقف في التراث الإسلامي. حيث تمتد تلك المواقف التكفيرية إلى زمن الخلفاء الراشدين، فقد اعتبر الخليفة الأول أبو بكر الصديق (رض) مانعي أموال الزكاة من جملة المرتدين، واشتهر بقوله فيهم “والله لو منعوني عقالًا لقاتلتهم عليه”، وقد خالفه في ذلك عدد من الصحابة كعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وكان من جملة المآسي التي وقعت قتل خالد بن الوليد للصحابي الجليل مالك بن نويرة وكان قد جمع زكاة قومه، لكنه تريث بعد شيوع أنباء عن الخلاف السياسي الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في المدينة بعد حادثة السقيفة وامتناع بعض أقطاب البيت النبوي عن بيعة أبي بكر كالإمام علي ومن شايعه من الصحابة. كما ثبت أيضا أن عائشة (رض) قد حرضت الناس على قتل عثمان بن عفان (رض) عندما قالت لهم “اقتلوا نعثلًا فقد كفر”، ونعثل هو رجل يهودي طويل اللحية كان يعيش في المدينة. وقد كانت عائشة تنكر على عثمان مع من ينكر عليه، وكانت تخرج قميص رسول الله (ص) وتقول “هذا ثوب رسول الله لم يبل وعثمان قد أبلى سنته”، وقد صدق العديد من المسلمين ومنهم صحابة دعوى عائشة فاستجابوا لتحريضها فشاركوا في قتله، وأجمعوا على دفنه في مقبرة اليهود (حش كوكب).

أخرج لنا التراث الإسلامي إنتاجين كلاهما بشري، المدرسة الأولى في هذا النطاق هي مدرسة الحديث والنصوصيين، وهؤلاء كان يرأسهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص في المدينة، وكانوا يكرهون كثرة السؤال ولا يجيزون الفتوى فيما لا نص فيه. حتى جاء رجل يسأل سالم بن عبد الله بن عمر، فقال له لا أعلم، قال قل رأيك، قال لو قلت لك رأيي لربما أرجع عنه ولم يفتيه. ومن تلامذتهم الإمام أحمد بن حنبل ومالك والشافعي. وكانوا يذمون الرأي، حتى أن أحمد بن حنبل كان إذا وجد نصًا ضعيفًا ورأيًا في مسألة أخذ بالحديث الضعيف ولم يأخذ بالرأي، وهذا جلي في كتابه (المسند)، إذ إنه كان يستعمل الحديث الضعيف إذا لم يجد غيره. وهذه المدرسة هي مدرسة الإمام ابن تيمية، ومن بعده محمد بن عبدالوهاب الذي تمثل حركته المرجعية الأولى لكل الحركات السلفية حول العالم الإسلامي، فهم يقدمون النص على أي شيء، حتى قالوا “إذا استطعت ألا تحك ظهرك إلا بأثر فافعل”. المدرسة الثانية أو الفريق الآخر فهو يعلم أن الاختلاف في الفهم هو خلاف لم يُفصل فيه لأن الله أراد ذلك، أراد هذا الخلاف حتى يتسنى للناظر أن هذا الدين استوعب الجميع “ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم” سورة الحجر، وهذه المدرسة كان على رأسها عمر بن الخطاب المُلهم ثم من تلامذته ابن مسعود إلى الحنفية والمعتزلة والمتكلمين، وكانوا ينظرون إلى الشريعة على أنها معقولة المعنى، أي أن كل حكم شرعي له حكمة وعلة. فمثلًا، منع عمر الزكاة لـ “المؤلفة قلوبهم” بعد وفاة النبي، وقال نحن كنا نعطيهم المال في أول الإسلام لأننا كنا قلة، أما الآن فلا حاجة إليهم مع وجود النص الصريح بذلك، وهو الذي عطل حد السرقة في عام المجاعة وآراؤه في هذا الباب كثيرة جدًا يصعب سردها.

كان الخوارج (سمو بذلك لأنهم خرجوا على الإمام علي) أول جماعة متآلفة تستخدم سلاح التكفير ضد المختلفين معهم في الرأي، فالمشهور بأن الخوارج أول من رفع لواء التكفير صراحة في وجه الإمام علي بن أبي طالب وخصميه معاوية وعمرو بن العاص بعد حادثة التحكيم خلال أحداث الفتنة الكبرى، فأهدروا بذلك دماءهم ودماء من شايعهم من المسلمين. وذلك بعد أن رفض الإمام علي (رض) دعوتهم إلى الرجوع عن نتيجة التحكيم رغم أنها لم تكن في صالحه بعد أن احتال عمرو بن العاص مندوب معاوية بن أبي سفيان على أبي موسى الأشعري مندوب الإمام علي (رض) مما وتر الأجواء مرة أخرى بين الفريقين وأعاد الوضع إلى ما كان عليه قبل معركة صفين. وقد التحق الخوارج بموضع يقال له حروراء، فأرسل إليهم الإمام تلميذه ابن عباس لمناظرتهم، حيث رجع منهم جزء كبير، وبقي من بقي منهم على موقفه المتصلب، حتى دعا الإمام علي (رض) إلى قتالهم بعد أن بدؤوا بإرهاب الناس وقتل من لم يتبعهم في الطرقات، فشتت أمرهم في واقعة النهروان، وبقيت نفوسهم موتورة عليه، إلى أن اغتاله منهم عبد الرحمن بن ملجم بعد أن تربص به في المسجد عند صلاة الفجر، وضربه بسيف مسموم على رأسه.

بعد أن تمكن بنو أمية من السلطة في الدولة الإسلامية أعادوا رفع ورقة التكفير في وجه خصومهم من أقطاب المعارضة السياسية والفكرية، فكان من أبرز من اكتوى بنار التكفير هم شيعة أهل البيت، وآباء المعتزلة. فمنذ ذلك الحين اُتهم الشيعة بسب الصحابة ممن كانوا في صف معاوية، أو مهدوا له السبيل بخروجهم على الإمام علي خلال أحداث الفتنة الكبرى لإقامة مَلَكية وراثية على أنقاض دولة الشورى التي سادت طيلة عهد الخلفاء الراشدين، في نفس الوقت الذي حمل هو نفسه الخطباء والفقهاء على سب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رض)، ولم يأل جهدًا في تتبع أصحابه وامتحان ولاءهم له حتى بعد اغتياله وتنازل ابنه الحسن عن الخلافة له. فسار على ذلك من جاء بعده من الحكام الأمويين، حتى قُتل من أجل ذلك خلق كثير من أجلاء الصحابة والتابعين كعمرو بن حمق الخزاعي، وحجر بن عدي الكندي، وكميل بن زياد النخعي، وميثم التمار الذي رموه بالكفر فصلبوه وقطعوا لسانه، وقنبر مولى الإمام علي الذي ذبحه الحجاج. ولم يتوقف هذا الإمتحان حتى جاء الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز (رض) وأبطل هذه السنة المقيتة. أما آباء المعتزلة، فلم يكونوا أفضل حالًا من رموز الشيعة في العهد الأموي، فقد قُتل معبد الجهني مصلوبًا بدمشق بعد أن أُهين كثيرًا من طرف الحجاج في عهد عبد الملك بن مروان، وقد كان ينفي المذهب الجبري الذي انتصر له الأمويون، وينادي بالحرية الإنسانية. وقُتل في سبيل ذلك أيضًا غيلان الدمشقي وقد كانت له صلة بالخليفة عمر بن عبد العزيز الذي عهد إليه بتصفية أموال أقاربه، فأخذ ينادي في المدينة “تعالوا إلى متاع الظلمة، تعالوا إلى متاع الخونة…”، فلما جاء هشام بن عبد الملك، عقد له محاكمة صورية، حكموا على إثرها بكفره فقطعوا لسانه ويديه وصلبوه على باب دمشق. وقُتل الجعد بن درهم، وقد كانت له صلة سياسية بيزيد بن المهلب، بعد أن ذبحه والي الأمويين خالد القسري بجامع واسط بالعراق يوم عيد الأضحى وكان يدعو إلى تأويل الآيات القرآنية التي توحي بالتجسيم مثل “يد الله فوق أيديهم” بما ينزه الله عن صفات مخلوقاته. وقُتل الجهم بن صفوان بعد أن تم تكفيره وكان قد ثار مع الحارث بن سريج في خراسان آخر العهد الأموي، وكانت دعوته الكتاب والسنة والشورى. وهكذا حاول الأمويون استئصال رموز المعارضة السياسية والفكرية لدولتهم باستعمال ورقة التكفير والإرهاب، فمن خرج عن الحاكم وشذ عن رأي الجماعة وجب قتله مهما يكن. وقد برر ابن عربي ليزيد بن معاوية الأموي قتل الإمام الحسين، عندما قال قولته الشهيرة “قُتل الحسين بسيف جده” يقصد بذلك أن الحسين قد خرج على إمام المسلمين يزيد بن معاوية فوجب قتله.

كان من حيل الأمويين تسخير مرتزقة من رواة وفقهاء الدولة لوضع أحاديث مختلقة ونسبتها إلى الرسول (ص) لتشويه صورة معارضيهم السياسيين وتنفير عامة الناس منهم، حيث تلقف تلك الأحاديث عدد من فقهاء الظاهر ومن جاء بعدهم من أهل الحديث و”الحشوية” ليستمدوا منها الكثير من المواقف المتطرفة والمغالطات التي زادت من تعميق الخلاف بين المسلمين فيما بعد، مما فتح باب التكفير على مصراعيه. فمن جملة تلك الأحاديث ضد آباء المعتزلة، ما أخرجه أبو داود في سننه، عن رجل من الأنصار عن حذيفة، قال: قال رسول الله (ص) “لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهو شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال”. ومن ذلك ضد الشيعة، ما أخرجه عبد بن حميد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (ص) “يكون في آخر الزمان قوم ينبزون: الرافضة يرفضون الإسلام ويلفظونه، أقتلوهم فإنهم مشركون”. ومن ذلك ضد كل من عارض سياسة الحاكم الأموي “من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد منكم، يريد أن يشق عصاكم، فاقتلوه”.

ورث “الحنابلة” حرص الحشوية على النصوص، فسموا أنفسهم “أهل السنة والجماعة” وسطع نجمهم بعد أن انتصر الخليفة العباسي المتوكل لإمامهم أحمد ابن حنبل في محنة (خلق القرآن) التي بدأت في عهد الخليفة المأمون بسعي من المعتزلة، ليرفعوا لواء التكفير ضد كل من خالفهم من الفرق والمذاهب الأخرى، حتى امتحنوا الناس في حب إمامهم، فأزهقت في ذلك أرواح كثيرة خاصة من الشيعة والمعتزلة. وقد كان الحنابلة من أشد المسلمين تزمتا في ذلك العصر، فوصفهم ابن عقيل الحنبلي قائلا “قوم خشن تقلصت أخلاقهم عن المخالطة وغلظت طباعهم عن المداخلة”. هذا الجفاء وتلك الغلظة كانا من وراء الكثير من خلافاتهم مع علماء وفقهاء المذاهب الإسلامية الأخرى. حيث كانوا يرون أنفسهم بمنأى عن سائر طوائف العلماء. وكانوا يستعملون الأحاديث لإقصاء خصومهم. حيث كانوا يجوبون الأسواق في تظاهرات مفاجئة يهجمون خلالها على المواخير وبيوت الغناء والرقص في بغداد، ويحدثون جلبة وفوضى كبيرة، تستدعي تدخل جيش السلطان لإعادة الأمن وتفريق جماعات العوام المشاركة في هذا العمل الدعوي الاستنكاري. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل كما يقول صاحب النهج الأحمد “تجاوزوا ذلك كله، وذهبوا إلى محاربة من يخالفهم في بعض الآراء سواء في ذلك المسائل الأصولية أو المسائل الفرعية” فحاربوا الأشاعرة وأعلنوا تكفيرهم وتهجموا على علمائهم، وتعرضوا لأبي إسحاق الشيرازي الشافعي وكفروه، وحملوا على إبن جرير الطبري صاحب التاريخ والتفسير ومنعوا من دفنه لما مات، حتى دُفن بداره ليلًا، وطلبوا ابن عقيل الحنبلي لما علموا أنه يتردد على بعض شيوخ المعتزلة، وأرادوا أذيته حتى كتب بخط يده إقرارًا يعتذر فيه عما بدر منه ويعطي إمام المسلمين الحق في التنكيل به إذا ظهر منه فيما بعد شيء مماثل. وهكذا شهدت بغداد فتنًا مذهبية عاصفة، خاصة خلال النصف الأول من القرن الرابع. ويقول ابن كثير في حوادث سنة 354هـ “…ثم تسلطت أهل السنة على الروافض، فكبسوا مسجدهم… وقتلوا بعض من كان فيه من القومة”. وتوالت الفتن، كل سنة يهجم عوام الحنابلة على مناطق الشيعة ومساجدهم فيعيثون فسادًا. وقد كان بعض ذوي السلطان يدعمونهم ويشجعونهم على ذلك. وذكر ابن الأثير في حوادث سنة 363هـ حيث قال “ثارت العامة من أهل السنة بالشيعة، وحاربوهم، وسفكت بينهم الدماء، وأُحرقت الكرخ حريقًا ثانيًا، وظهرت السنة عليهم”. وقد استفاد خصوم الشيعة من تراث فكري ووقائعي مليء بالكراهية والحقد شرعه بنو أمية وعمق شرخه بنو العباس واحتضنه حشوية الحنابلة، يوقدون ناره كلما أوشكت على الإنطفاء. وبالطبع كان لأصحاب الديانات الأخرى القدر الأكبر من التكفير واستحلال الدماء فيقول ابن حنبل ليس لليهود ولا للنصارى أن يحدثوا في مصر مصرة المسلمون بيعة ولا كنيسة ولا يضربون فيها ناقوسًا إلا فيما كان لهم صلحًا” وقد ذهب إلى ذلك استنادًا على ان مصر فتحت عنوة (أحكام أهل الذمة للخلال)، انظر مجموع الرسائل والمسائل – أحكام أهل الذمة، وانظر كذلك أحكام أهل الذمة لابن القيم ويقصد بأرض العنوة البلاد التي فتحت بالسيف. وتلك فتوى الإمام الشافعي “لا يحدثوا في أمصار المسلمين كنيسة ولا مجتمعا ً لصلواتهم ولا يظهرون فيها حمل خمر ولا إدخال خنزير ولا يحدثون بناء يطولون به على بناء المسلمين، وأن يفرقوا بين هيئاتهم في الملبس والمركب وبين هيئات المسلمين وأن يعقدوا الزنار على أوساطهم”. وعلى هذا الأساس نشأت فكرة استحلال المسيحيين في واقع الحركات الإسلامية في مصر وغيرها، ووجد تيار الجهاد المبررات الشرعية التي تبيح له الاعتداء على ممتلكاتهم وقتلهم.

وبتتبع جذور فكر الاستبداد والقهر والتغلب في تراثنا الإسلامي، نجد أن المتكلمين السنة ظلوا يتحدثون عن البيعة والشورى كأساس لشرعية النظام، كما فعل الأشعري في “الإبانة” والباقلاني  في “تمهيد الأوائل” حيث قال “إنما يصير الإمام إمامًا بعقد من يعقد له الإمامة من أفاضل المسلمين الذين هم أهل الحل والعقد المؤتمنين على هذا الشأن”، ومع أن بيعة أهل الحل والعقد وأفاضل المسلمين لم تكن دائمًا تمثل عموم المسلمين، إلا أنها كانت تلبي (نسبيًا) طموح أصحاب نظرية الشورى والراغبين بقيام الحكم الإسلامي على أساس من الشرعية الدستورية المبنية على الانتخاب والشورى ورضى الأمة، وليس القوة والقهر والغلبة. وكان من الطبيعي بعد تكفير الحنابلة للمخالفين لمذهبهم، والذهاب إلى تكفير غالبية المسلمين الغير منتميين لأهل السنة والجماعة، أن أصبحوا أقلية متطرفة في زمانهم، ترافق ذلك مع نزعة استبدادية واقصائية لعامة المسلمين من المشاركة في إدارة شؤون البلاد. فتراجعت لديهم الرغبة في الشورى التي آمن بها السنة في البداية. حيث اشتهر عن الإمام أحمد بن حنبل القول “بأن من غلبهم صار خليفة وسُمي أمير المؤمنين، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يرى إمامًا عليه، برًا كان أو فاجرًا، فهو أمير المؤمنين”.

ونود إلقاء الضوء على أهم محطات مسيرة ابن حنبل الدعوية، والتي كانت فتنة (خلق القرآن) أيام الخليفة المأمون أهمها. فقد تميز المأمون عن سابقيه من حكام الدولة العباسية، بأنه مثقف يحب العلم والجدل والمناظرات ومجالسة العلماء والفقهاء ورواة الحديث. وبين جبروته كمستبد وشخصيته المثقفة التى تجادل بالعقل والدليل تقع معضلة خلق القرآن التي حاول إلزام الفقهاء والمحدثين والقضاة بها، ولأنهم رفضوا أن يصيغوا أحاديث تؤيد رأى المأمون فى خلق القرآن كرأى للكهنوت العباسى كما اعتادوا دائما. بل عارضوا رأيه جهارا فكان لا بد للمأمون من تأديبهم لأنهم بهذا قدحوا فى ملكه ونالوا من هيبته. ويزيد فى حنق المأمون علمه بجهلهم وفساد منهجهم وعلمه أيضا بنقائصهم. وربما أراد أن ينهض بهم ثقافيًا ليكونوا كالمعتزلة في العلم بالدين بالنظر والعقل وليس مجرد حبك أحاديث وحفظ متونهم وأسانيدها. أي أن تكون الأحاديث وسبكها في خدمة الدولة وكهنوتها، ولكن لا تمنع أصحابها من معرفة العلوم الحقيقية، أي لا يريد من أهل الحديث أن يظلوا على جهلهم وانغلاقهم. ولكنهم ظلوا بتقليدهم وتمسكهم بما يخترعون من أحاديث تخدم أهواءهم، وكرهوا مكانة المعتزلة ومقالاتهم، بل ورفضوا رأى المأمون فى خلق القرآن في عام 212هـ حين أظهر هذا الرأى ودعاهم اليه. ولم تكن لديهم حجة عقلية أو قرآنية يستندون اليها، واستمر رفضهم ستة أعوام. ولقد أوصله أولئك إلى مرحلة الغضب الهائل عام 218هـ، وقتها كان المأمون في الرقة، ومنها بعث كتابًا إلى إسحاق بن إبراهيم نائبه في بغداد بإجبارهم على القول بخلق القرآن، متهمًا من يخالفه بالكفر والضلال. وفي كتابه هذا إلى نائبه في بغداد إسحاق بن إبراهيم يقول المأمون “وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشوة الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه أهل جهالة بالله وعمى عنه وضلالة عن حقيقة دينه وقصور أن يقدروا الله حق قدره ويعرفوه كنه معرفته ويفرقوا بينه وبين خلقه” ثم أوضح سبب اتهامه لهم فقال ” وذلك أنهم ساووا بين الله وبين ما أنزل من القرآن، فأطبقوا على أنه قديم لم يخلقه الله ويخترعه”. ثم استشهد المأمون على أن القرآن مخلوق بآيات قرآنية فقال (وقد قال الله تعالى “إنا جعلناه قرآنًا عربيًا” الزخرف – 3، فكل ما جعله الله فقد خلقه، كما قال الله تعالى “وجعل الظلمات والنور” الأنعام – 1، وقال “كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق” طه – 99، فأخبر أنه قصص لأمور أحدثها بعدها، وقال “أحكمت آياته ثم فصلت” هود – 1، والله محكم كتابه ومفصله فهو خالقه ومبتدعه). ولكنهم زايدوا على المأمون واتهموه بالكفر، ووصفوا أنفسهم بأهل السنة والجماعة، وهذه مزايدة على الدولة العباسية التى أوجدتهم. لذا أصدر المأمون أمره لنائبه بأن يأخذ موافقتهم فى موضوع (خلق القرآن) ومن يرفض منهم فليس له مكان فى الدولة قاضيًا أو شاهدًا، فقال “فاجمع من بحضرتك من القضاة فاقرأ عليهم كتابنا، وامتحنهم فيما يقولون واكشفهم عما يعتقدون في خلقه وإحداثه، وأعلمهم أني غير مستعين في عملي ولا واثق بمن لا يوثق بدينه. فإذا أقروا بذلك ووافقوا فمرهم بنص من بحضرتهم من الشهود ومسألتهم عن علمهم في القرآن. وترك شهادة من لم يقر أنه مخلوق. واكتب إلينا بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم. والأمر لهم بمثل ذلك”. وبعد إمتحان أهل القضاء والشهود العاملين فى سلك القضاء إلتفت المأمون الى أئمة الفقه والحديث فأمر نائبه أن يرسلهم اليه، وحددهم بالاسم، وهم محمد بن سعد كاتب الواقدي، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة، وأبو مسلم مستملي يزيد بن هارون، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، فجمعهم إسحاق بن إبراهيم وأرسلهم إلى المأمون، فامتحنهم بخلق القرآن فأجابوه، فردهم من الرقة إلى بغداد، ولم يرد ذكر لأحمد بن حنبل ضمن هؤلاء الأئمة. وبعد إقرار أئمة الحديث والفقه للمأمون كتب المأمون الى نائبه بأن يحضر عوام الفقهاء وعوام أهل الحديث ويخبرهم بما أجاب به هؤلاء السبعة الكبار ليسيروا على ما وافق عليه شيوخهم، ففعل إسحاق بن ابراهيم ذلك، وجمعهم، فأجابه طائفة وامتنع آخرون. ثم كتب المأمون كتابًا آخر إلى إسحاق وأمره بإحضار من امتنع منهم اليه. وحين علم هؤلاء استجاب معظمهم ورجع عن قوله متبعًا رأى المأمون بخلق القرأن، ورفض آخرون. فأرسل المأمون رسالة يهاجم فيها المعاندين المعروفين للمأمون بالاسم ويفضح المستور من شأنهم، وهددهم بالقتل، ثم جاء ذكره للمأمون ضمن أربعة فقط رفضوا، وهم أحمد ابن حنبل وسجادة ومحمد ابن نوح والقواريري، فأمر إسحاق بارسالهم في الحديد إلى المأمون. فأجاب سجادة القواريري. وظل ابن حنبل وابن نوح على الرفض، فأرسلهما بالقيود إلى المأمون. وفي هذه المرحلة فقط يأتى ذكر أحمد بن حنبل فى القضية، ولولا رفضه ما كان له ذكر فى التاريخ!!. وهم فى الطريق مات المأمون وتولى المعتصم الخلافة، فأمر برد ابن حنبل وابن نوح الى سجن بغداد، وفي طريق العودة مات محمد بن نوح عام 218هـ، وظل ابن حنبل في السجن وحده. ولم يلق المأمون. ولم تكن لابن حنبل حجة إلا قوله الذي يكرره دائما “أعطونى شيئًا من كتاب الله أو من سنة رسول الله”، يطلب منهم أن يستشهدوا بآية قرآنية تقول بالنص إن القرآن مخلوق أو بحديث يقول هذا. أى كان يمكن إقناعه بسهولة لو تطوع أحد المعتزلة وافترى له حديثًا وجعل له إسنادًا كأن يقول مثلًا (حدثنى فلان عن فلان عن فلان عن فلان أن الرسول قال : القرآن مخلوق). إذا قيل هذا الحديث لانتهت مشكلة ابن حنبل لأنه كان سيصدق به. وكان أول من ذكر واقعة ضرب بن حنبل هو اليعقوبى في تاريخه، حيث قال “وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل فى خلق القرآن، فقال بن حنبل : أنا رجل علمت علمًا ولم أعلم فيه بهذا. فأحضر له الفقهاء، وناظره عبد الرحمن بن اسحاق وغيره فامتنع أن يقول إن القرآن مخلوق. فضُرب عدة سياط، فقال اسحاق بن ابراهيم: ولنى يا أمير المؤمنين مناظرته، فقال : شأنك، فقال إسحاق لابن حنبل: هذا العلم الذى علمته نزل به عليك ملك أو علمته من الرجال ؟ قال بل علمته من الرجال، قال : شيئا بعد شىء أو جملة؟ قال: علمته شيئا بعد شيء، قال: فبقى عليك شيء لم تعلمه؟ قال : بقى علي!  قال : فهذا مما لم تعلمه، وقد علمكه أمير المؤمنين، قال : فإنى أقول بقول أمير المؤمنين فى خلق القرآن، فأشهد عليه وخلع عليه، وأطلقه إلى منزله”. فبعد تعرضه للضرب وعجزه عن رد الحجة وافق بن حنبل رأي المعتصم على القول بخلق القرآن، فكوفىء بالخلع عليه وبإطلاق سراحه. وبعد الافراج عنه اعتزل أحمد بن حنبل فى بيته طيلة حكم المعتصم.. وبالضرب أصبح لابن حنبل ذكر في التاريخ وشهرة في العصر فاقت فيما بعد قادة أهل الحديث. وهذا يخالف ما زعمه ابن الجوزي، فالمؤرخون الحنابلة صنعوا بعد قرون من موت ابن حنبل تاريخًا مزورًا له، ملأوه بالأساطير والكرامات والمناقب، بل والـتأليه، وتميز بهذا ما فعله ابن الجوزى المتوفى عام 597هـ، في كتابيه (مناقب الإمام أحمد بن حنبل) و(المنتظم).. وفي هذا السياق يوضح لنا فضيلة العالم الدكتور أحمد صبحي منصور أن أهل الحديث كانوا نوعين، قادة يصنعون الأحاديث ويجعلون لها إسنادًا كاذبًا، ثم عوام أهل الحديث الناشرين لهذا الإفك بين الناس. أولئك القادة كانوا ممن وافقوا من قبل على القول بخلق القرآن وتجنبوا مصير ابن حنبل لأنهم كانوا أصحاب مهنة وأحرزوا مكانة بهذه المهنة، ولا بد أن يحافظوا عليها. والفارق هائل بين الأئمة ممن يصنع الحديث وينشره والعوام ممن يجمع الحديث مؤمنًا به. كما أن الذي يخترع الأحاديث ويصنعها لا يمكن أن يؤمن بها، لأنه ببساطة هو أول من يعرف أنها كاذبة وأنه المخترع لها والصانع لها. أما الذي يرويها عن مخترعها مصدقًا لها فهو الذي يجعلها دينًا، بل يرتفع بها فوق الدين الحق كما كان يفعل ابن حنبل. ويستشهد الدكتور منصور على أن ابن حنبل لم يكن من قادة أهل الحديث هو أن الخليفة المتوكل لم يستعن به في نشر الحديث في آفاق دولته، بل أوكل المهمة للقادة المعتبرين. فبعد استخلافه بعامين جعل الخليفة المتوكل الأحاديث والسنة الدين الرسمي للدولة، وأرسل قادة أهل الحديث إلى الآفاق يبشرون بالأحاديث وينشرونها. يقول ابن الجوزى في المنتظم فى احداث عام 234هـ “وفي هذه السنة‏ أظهر المتوكل السنة ونشر الحديث، وفيها‏‏ أشخص المتوكل الفقهاء والمحدثين، وكان فيهم مصعب الزبيري وإسحاق بن أبي إسرائيل وإبراهيم بن عبد الله الهروي وعبد الله وعثمان ابنا محمد بن أبي شيبة وكانا من حفاظ الناس، فقسمت بينهم الجوائز وأجريت عليهم الأرزاق، وأمرهم المتوكل أن يجلسوا للناس، وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية وأن يحدثوا بالأحاديث في الرؤية (أى رؤية الله فى يوم القيامة خلافا لرأى المعتزلة). وهكذا نجد هنا أن ابن حنبل لم يكن بينهم، مع إنه كان وقتها مطلق السراح متمتعا بالشهرة والاحترام بعد الاضطهاد الذي عاناه من قبل.

ورغم أن الإسلام جعل العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وحث المسلمين على شد الرحال لطلب العلم ولو كان خلف أسوار الصين، إلا أن العالم العربي والإسلامي إبان الخلافتين الأموية والعباسية، وتوظيفهما المنهجي لمرتزقة سبك الأحاديث الكاذبة والمضللة لاستخدامها لقهر ولجم المخالفين والمعارضين بدعاوى التكفير والزندقة وخلافه، امتلأ العالم الاسلامي بقصص تكفير العلماء والمفكرين والشعراء ومطاردتهم وتعذيبهم وتحريم كتبهم وإحراقها، بل وإعدامهم. هذه النخبة من العلماء التي أضاءت فضاءات السماء العربية والإسلامية وطغت بشموسها على مساهمات علماء الغرب آنذاك، حيث كانوا أساتذة العالم فكرًا وفلسفة وحضارة، ولا ريب أننا نتفاخر بهم وبإنجازاتهم في الطب والفلسفة والفيزياء والكيمياء والرياضيات والآداب وعلم الفلك والهندسة وعلم الاجتماع. فقد كُفر وقُتل الخوارزمي والفارابي والطبري، والحلاج المتصوف الإسلامي المشهور الذي اتهمه الخليفة المقتدر بالله بالكفر وحكم عليه بالموت فضُرب نحو ألف سوط ثم قطعت يداه ورجلاه ثم ضُربت عنقه وأُحرقت جثته بالنار ثم أُلقي ما بقي من تراب جثته في نهر دجلة، كما حُبس المعري، وسُفك دم أبن حيان، ونُفي ابن المنمر، وكُفر الغزالي وابن رشد والأصفهاني وأُحرقت كتبهم، واُتهموا في إيمانهم، وكُفر البيروني، والغزالي، والعسقلاني، والنووي، والبطريخ، والكواكبي، والمتنبي، وبشار بن برد، ورابعة العدوية، والجاحظ، وابن طفيل، وابن ماجد، وابن خلدون، وثابت ابن قرة، وقُتل ابن المقفع الذي كان يجمع بين لغة العرب وصنعة الفرس وحكمة اليونانيين ومؤلف كتاب كليلة ودمنة وكتب أخرى كثيرة توضح ما ينبغي أن يكون عليه الحاكم إزاء الرعية وما يجب أن تكون عليه الرعية إزاء الحاكم مما أغضب الخليفة المنصور في صدر العصر العباسي الأول فإتهم ابن المقفع بالكفر وقُطعت أطرافه وفصلت رأسه وأُلقي بباقي جسده في النار ثم شويت أمامه ليأكل منها قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بأبشع أنواع التعذيب، ومات الجعد بن درهم مذبوحًا، وعُلقت رأس أحمد بن نصر وداروا به في الأزقة، وخنقوا لسان الدين بن الخطيب وأحرقوا جثته، وكفروا ابن الفارض وطاردوه في كل مكان، كما مات السهروردي شيخ الاستشراق المتصوف في عصر صلاح الدين الأيوبي ومات مقتولًا بنفس الطريقة التي قتل بها الحلاج من قبل. كما جُرد الكندي فيلسوف العرب من ملابسه وهو في الستين وجُلد ستون جلدة فى ميدان عام وسط تهليل الحنابلة والعامة، وكُفر ابن سينا الطبيب والعالم والفقيه والفيلسوف حيث قال عنه ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان “إنه إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر”، وقال عنه الكشميري في كتابه (فيض الباري) “ابن سيناء الملحد الزنديق القرمطي، كما كُفر وقتل أبي بكر الرازي الطبيب والعالم والفيلسوف، بما قالوه عنه حيث قال عنه ابن القيم في “إغاثة اللهفان” “إن الرازي من المجوس” و”إنه ضال مضلل”، وقالوا عن ابن الهيثم “إنه كان من الملاحدة الخارجين عن دين الإسلام، وكان سفيهًا زنديقًا كأمثاله من الفلاسفة”، وقالوا عن أبي العلاء أحمد بن عبد الله المعري “إنه كان من مشاهير الزنادقة، وفي شعره ما يدل على زندقته وانحلاله من الدين”، وقالوا عن محمد بن عبد الله بن بطوطة “إنه كان مشركًا كذابًا”، كما كفروا الكندي وقالوا عنه “إنه كان زنديقًا ضالًا.. وهكذا كانت تهم التكفير والزندقة وما زالت من أبشع الأسلحة التي تستخدم ضد العلماء والمفكرين والمجتهدين والمجددين، فتزرع بذور الخوف والشك في المجتمعات لتنمو أشجار الجهل والتخلف.

وبتعميق التكفير للأصحاب الآراء والاجتهادات والأفكار المخالفة، زادت عزلة الحنابلة، كما تراجع الفقه الإسلامي بشكل كبير عن مبدأ الشورى في الحكم، فهذا أبو يوسف الماوردي، في القرن الخامس الهجري، يقبل في “الأحكام السلطانية” إمارة الاضطرار والاستيلاء على السلطة، إلى جانب عملية العهد من الإمام السابق إلى اللاحق، واختيار أهل الحل والعقد. وبذلك أصبح الفكر السياسي الإسلامي (السني) انعكاسًا لطبيعة الأنظمة الاجتماعية البدوية، وأكثر تعبيرًا عن رغبة الأنظمة الاستبدادية القائمة، عندما أخذ الفقهاء يعترفون بصراحة بشرعية الطريق الثالث القائم على القوة والقهر والغلبة، إلى جانب اختيار أهل الحل والعقد وولاية العهد، حيث اعترف الجويني  في كتابه (الغياثى) بإمكانية غياب الإمام الحق، و قرر إمامة المستولي غير المستجمع للشروط ما دام متغلبًا ومستبدًا بالسلطة، وسماه “واليًا” واشترط عليه فقط مراجعة العلماء، وقال ابن قدامة (630هـ)  في (الكافي – كتاب أهل البغي ) “كل من ثبتت إمامته حُرم الخروج عليه وقتاله سواء  ثبتت بإجماع المسلمين عليه كإمامة أبي بكر الصديق أو بعهد الإمام الذي قبله كعهد أبي بكر إلى عمر، أو بقهره للناس حتى أذعنوا له ودعوه إمامًا كعبد الملك بن مروان”،  وأقر يحيى بن شرف النووي في “منهاج الطالبين” و”روضة الطالبين” القهر والغلبة كوسيلة مشروعة للاستيلاء على السلطة، حيث  قال صراحة ” تنعقد الإمامة بثلاث طرق، البيعة، واستخلاف الإمام من قبل وعهده اليه، وأما الطريق الثالث فهو القهر والاستيلاء، فاذا مات الإمام فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشوكته وجنوده انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعًا للشرائط بأن يكون فاسقًا أو جاهلًا فوجهان: أصحهما انعقاده لما ذكرناه وإن كان عاصيًا بفعله”.

التعليقات

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

انت لاتستخدم دايناميك سايدبار

الفراعنة على فيسبوك